“صبريَة”… قصة قصيرة من رحم الواقع

“صبريَة”… قصة قصيرة من رحم الواقع

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

رزق “مسعود” معلم اللغة العربية بنيَة ، اختار لها من الأسماء “صبريَة” ، تعبيرا عن رحلة صبر ومعاناة بدأت ولم تنته مع نظام حكم كان يمنَي شعبه بالرفاء والعيش السعيد!. لكنها مجرد وعود تتراكم يمحو آخرها أولها!. في بيت متواضع ترعرعت صبرية ، التي كان أبوها يمازحها ويذكَرها بقواعد الاشتقاق اللغوي لاسمها ، فيقول لها : (صبرنا.. نصبر.. صبرا.. يا صبرية!). لم تفهم البنيَة مدلول العبارة ، لكنها حفظتها عن ظهر قلب ، وصارت ترددها وهي تبادر أبيها بالمزاح. وذات يوم وصبرية عائدة من مدرستها ، يقابلها أبوها بابتسامة كبيرة قائلا بلهجة عامية : (هلَن بشاير خير ياصبرية..طاب صبرنا ونتنسموا الحرية!) ، لم تفهم الطفلة ماذا يعني أبوها الذي أردف محادثا إياها : (بن علي هرب!..بن علي هرب!) فاجأته صبرية  قائلة بعفوية طفولية : القذافي هرب .. القذافي هرب! ضحك بقوة ثم همس “يا ريت يا بنتي ياريت”!

اثناء احداث ثورة تونس ثم مصر ، كانت صبرية تشارك الاب متابعته للنشرات ، وتسمَره أمام التلفاز لأوقات طويلة ، لذلك تكوَنت لديها شحنة من وهج الثورة مدفوعة بأمل طفولي بريء! ، فصارت تحاكي قريناتها في المدرسة بكل ما تسمع وتشاهد من أحداث عن الثورتين . وما أن تفجَرت انتفاضة ليبيا ، حتى اصبحت الطفلة أكثر تأثرا وتأييدا لها ..لاحظ أبوها ذلك ، فحاول ان يقلل من حماسها خوفا عليها وعلى نفسه من عيون استخبارات النظام ، لكن الشوق الطفولي للتغيير ممزوجا بالأمل لم يثتيها عن حماسها وبالتالي مواكبتها الانتفاضة ، لقد كانت تزداد حماسا مطلع كل يوم جديد ، بل وتنقل ذلك لزميلاتها في المدرسة دون خوف أو وجل.. لم يثبط عزيمتها معارضة البعض من صديقاتها في المدرسة لها أو حتى نفورهنَ منها!

ازدادت “صبرية”  تعلقا بأحداث الثورة من خلال متابعة الاخبار اليومية عبر الشاشة وكانت تستعجل سقوط النظام مطلع كل يوم جديد، لم تخفي ذلك عن ابيها الذي تعرف انه يشاطرها حماسها وشوقها للثورة ، وبعد مضي أكثر من شهر ، صارت تشعر بالضيق والتضجر وتكثر السؤال : لماذا لم يهرب القذافي ويتركنا مثل تونس اومصر؟! فيجيبها الوالد قائلا:  اصبري والفرج قريب!. وذات يوم طوَقت مجموعة مسلحة البيت واعتقلت أبيها .. صرخت الطفلة في وجوههم وتمسَكت بابيها ، عندما انتزعوه منها جسدا ، ولكنهم لم ينتزعوه منها طيفا حاضرا ، يسقى بدموع حارَة ، تسيل على وجه طفولي حائر ! فترسم أودية من شوق عارم مغموس برجاء في الله كبير.

لقد اضطربت صبرية وتغيَر مزاجها ، وكثير ما تقف أمها حائرة عن إجابة لسؤالها  المتكرر..متى يرجع “بابا”؟! طال انتظار الطفلة ، حيث لم يعرف حتى مكان اعتقاله ، فعاشت الأسرة لحظات عصيبة من الانتظار والترقب المجهول !..لقد طال سفر الأب في عيني صبرية!, لكنها لم تفقد امل مجيئه بين حين وآخر..تبدَلت الأحوال وازدادت الأمور سوء بفعل الحرب ، وتعذَر ذهاب صبريَة إلى المدرسة مما ضاعف من معاناتها. لكنها طفلة عنيدة لم تيأس فاستمرت على مناصرتها للثورة وازدادت تعلقا بها كلما تذكَرت أبيها ، كبر حلمها وجاءت مرة إلى أمها وقالت: قريبا سنفرح يا أمي مرتين ، مرة بعودة بابا وأخرى بانتصار الثورة ! تبسَمت الأم في وجهها وهي تخفي حقيقة خوفها من المجهول وقالت : إن شاء الله ..إن شاء الله..يا بنيتي!

مع اشتداد المعارك قرب البلدة وكما هو الحال في كل الحروب ، قرر الاهالي مغادرة بلدتهم مؤقتا طلبا للامان ، وعندما سمعت صبرية بذلك سألت امها : لماذا نغادر بيتنا؟ يجب ان نبقى هنا ! قالت الأم إنها الحرب التي لا تفرق بين مدني وعسكري ! يجب أن نغادر لنحافظ على أرواحنا فالحرب تقتل وتدمر كل شىء ، يا بنيتي  إنها مجرد أيام فقط ، ونعود إلى بيتنا ومعنا كل الجيران والاقارب! لم يقنع ذلك الطفلة لكنها وجدت نفسها مجبرة على ترك البيت ، اذ لا حيلة لها حينئذ.  غادر الجميع البلدة وتركوا كل شيء خلفهم  على امل انتهاء الحرب ليعودوا من جديد  ويأملون ان تكون العودة  قريبة سريعة .

طال صبر الطفلة ، لكن الأمل لم يمت فيهاا وكذلك الحلم ، ففي اللحظة التي تسقط فيها العاصمة ويتهاوى النظام ، ويعلن ميلاد عهد جديد ..تزغرد أم صبرية وتضم بحنان دافق ابنتها داعية الله أن يعود الأب المفقود ! ، فقد اقتحمت السجون ، واطلق سراح المعتقلين ، وعاد الأب المفقود ليلتئم  شمل ألأسرة ، لكنه في غير ذات البيت وفي مكان غير ذلك المكان ! اثناء عودته ، يعانق الاب بحرارة ابنته الصغيرة وتعانقه بشوق اكبر وحنين غامر ، لكنها تفاجئه بسؤال عاجل قائلة : متى نعود إلى بيتنا يا بابا!؟ كم هو مؤلم أن يعود الأب مثقلا بهموم غربة السجن! ليجد نفسه رهين غربة أخرى داخل الوطن! وكم هو اكثر ايلاما أن تكبت فرحة كبرى لم تكتمل! حين يدرك الأب أنه ممنوع من العودة إلى بلدته ومسقط رأسه! يحاول مغالبة حزنه لكنه يقف عاجزا عن تفسير لماذا يصرون على تهجير أهالي بلدات بأكملها ويمنعونهم من العودة؟! يردد في حزن عميق : لماذا يقتل الفرح في عيون الناس ، لحظة ميلاده التي لا تتكرر؟!

تأخرت العودة وصارت الأيام تمر بطيئة كئيبة على صبرية واسرتها ، وتبخر الحلم بالتغيير إلى الأفضل. مرت الشهور ثم السنوات والحال لا يزداد إلا سوء ، والتخريب والتدمير بدواعي انتقامية قد طال كل بيوت البلدة المنكوبة!  لقد طال زمن التهجير وسرقت بذلك فرحة كانت منتظرة وابتسامة من ثغور أطفال أبرياء فازداد الألم وتوسَعت الجراح!. يطل عام جديد تستقبله صبرية بلوعة وحسرة كبيرتين! لكنها لم تيأس ولازالت تفكر في العودة الى بيتها وبلدتها ولا تزال تصرَ على الحلم حتى وأن تحوَل حلمها إلى كابوس مخيف يجعلها تكره شيء اسمه الثورة؟!. لم تتردد قائلة الى معلمتها وقريناتها في الفصل ” كل عام وانتم بخير” رد عليها الجميع بالمثل لكنها تخيَلت أنهم قالوا “كل عام وأنت مهجرة نازحة..نازحة..نازحة!”

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً