ضجيج الانتخابات الليبية.. إجراء الانتخابات في بيئة (ملوثة) حتماً سينتج سلطة (ملوثة)

ضجيج الانتخابات الليبية.. إجراء الانتخابات في بيئة (ملوثة) حتماً سينتج سلطة (ملوثة)

نجاح التداول السلمي على السلطة يستند على فكرة ومبدأ وإلزامية القبول بنتائج الإنتخابات.. مدخلات وإدارة إنتخابية منضبطة تقود لإنتقال سلس للحكم.. أما البيئة (الملوثة) لإجراء الانتخابات ستنتج سلطة (ملوثة) حتماً.. لأن أي تلاعب بالعملية الإنتخابية في الغالب يكون للفائز دور أساسي فيه.

الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يهنيء منافسه الفائز بالانتخابات الرئاسية هو دونالد ترامب تعبيراً عن رفضه لنتيجتها.. بل تجاوز ذلك بتحريض مناصريه للجؤ للعنف واقتحام مبنى الكابيتول عام 2019.. كان ذلك سبق غير معهود بالمطلق في تاريخ السياسة الأمريكية وآلية الانتخابات.. العمود الفقري للتداول على السلطة وفق المنظور الغربي للديمقراطية.

يقوم النموذج الغربي لممارسة الديمقراطية عبر إجراء الإنتخابات على ثلاث مراحل أساسية متتالية لضمان التداول السلمي على السلطة.. الأولى أن تكون البيئة الدستورية والقانونية والأمنية مُحكمة وسليمة وخالية من المفخخات والخروقات.. والثانية أن الآليات والتشريعات والهياكل المنظمة لإجراء العملية الإنتخابية من إعلام ومنظومات وبنية تقنية ولوجستية ورقابة ومتابعة لا إختراق فيها وذات نزاهة وشفافية ووثوقية عالية.. أما المرحلة الثالثة والأخيرة والحاسمة تقوم على ضمان قبول جميع الأطراف المتنافسة للنتائج واحترامها.. وأن الطعون والشكوك لما تؤول إليه نتائج العملية الإنتخابية تتم وفق سياقات قانونية معدة مسبقاً ومتوافق عليها.

أما في المشهد الليبي المأزوم.. المؤشرات والمعطيات والمنطق لا تبشر بإجراء إنتخابات وطنية رئاسية وبرلمانية (صحيحة) قريباً.. إنتظار الناخبون والمترشحون منذ صيف 2021 لمجلسي النواب والدولة لإعداد قاعدة دستورية تؤسس للإنتخابات سيطول.. (بروباجاندا) اللجان المشتركة واللقاءات والسفريات والتصريحات هي مجرد مسكنات وبيع أوهام.. فمن غير المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة المنتفعين بالبقاء لأطول فترة ممكنة.. لا مصلحة للجسمين (النواب والدولة) في إجراءها.. فتعطيل تنفيذ الإستحقاقات الإنتخابية ومزيد من الوقت خصماً من عُمر الشعب الليبي (التعيس) هو الأكسجين الذي يستنشقانه للبقاء أحياء ونافذين في مشهد التحول الديمقراطي (المفبرك).

أسئلة بسيطة وعميقة.. ومقلقة في ذات الوقت تطل برأسها على الواقع السياسي.. أين سيذهب المستشار ورئيس مجلس الدولة وأعضاء المجلسين والمقاطعين والمنقطعين إذا ما أجريت الإنتخابات؟ كيف لهم أن يعوضوا المناصب والمزايا وطعم السلطة؟ ما الضمانات ألا تذهب تقارير ديوان (خالد شكشك) إلى مجمع المحاكم وتطالهم (كليبشات) النائب العام حين تزول النعمة ويصبح المتغطي بالحصانة البرلمانية عريان؟.

مرت عقود وأجيال لم تعرف لصناديق التصويت بحلوها ومرها سبيلا.. مضت عشر سنوات مذ أن أجرى (الراعي الغربي) بإنتخابات المؤتمر الوطني جراحة زرع نخاع الإنتخابات كبديل عن نخاع (التصعيدات) المسرطن حسب تشخيص خبراء فبراير (الديمقراطيون).. لكن ما الضامن في بلد مازال (يرضع) حليب الديمقراطية في الحضانة (الغربية) أن المنتخبين الجُدد سيكونوا أفضل حالاً ورأفةً و(وطنية) بالناخب الليبي الموهوم؟ ربما القادم من المنتخبين القادمين أسواء.. فالأموال المتسربة من خزائن (الكبير) بالسرايا الحمراء لدولة تنافس (بجدارة) على صدارة مؤشر مدركات الفساد العالمي سيكون لها الفصل أكثر من أحبار أو بطاقات (عماد السايح) الإنتخابية.

على الجانب المعتم الآخر من التراجيديا الليبية.. ما المكاسب التي ستجنيها الدول المتوحشة والمتوغلة في ترتيبات وتشطيبات شكل الدولة الليبية الجديدة من إنتخابات تستبدل الوجوه القابعة على سدة السلطة وخزينة المال بغيرها؟ فلقطر والإمارات وتركيا ومصر (أزلامهم) في عصر العبث وإنكسار السيادة.. ناهيك عن (روبوتات) الأميركان والإنجليز والفرنسيس والطليان.. أما النسخة المحلية الصنع من (الفاغنر) فما لهم ومال إنتخابات تهدد بزوال السطوة والسلطة والتوحش.

تدرك النخب الواعية والمثقفة البصيرة بتشعبات المتاهة التي (حُوصِرت) فيها ليبيا أن رغبة الدول ذات التأثير (الخبيث) في القرار الوطني لإجراء إنتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة أو متعاقبة مزيفة.. وأن الترتيبات الدستورية والقانونية والأمنية لذلك متخلخلة.. وأن الضغوطات على أطراف الصراع للجنوح للتسوية مجرد تمويه.. والمبررات (القاهرة) وفق رئيس المفوضية (السائح) والسفير الأميركي (نورلاند) لتأجيل إستحقاق 2021م الانتخابي ذريعة.. وستظل الإنتخابات مجرد (سراب) في الطريق إلى التفكك والفناء.. فإجراء إنتخابات وطنية ذات قدر من الوثوقية لـ2,8 مليون ناخب لن يكون أصعب من توجه 65 مليون ناخب تركي الأيام القادمة للاقتراع.. ولا يستدعِ كل هذا الوقت والجهد والمناورة والضجيج.

مع آخر إصدارات UNSMIL للمبعوثين إلى ليبيا.. مالم يسعَ المبعوث الأممي (التاسع) عبدالله باثيلي إلى تنظيف (الطحالب) الراكدة في مقره بجنزور.. ومقاومة (جاثوم) النواب والدولة.. فإنه سيلقى مصير سابقيه بالغوص في الرمال المتحركة ووحل الأزمة الليبية.. تراشق الأحزاب وتيار (القبائل) لحجز مقاعد اللجنة رفيعة المستوى بحسب مبادرته لتسوية الأزمة السياسية يشتد ويربك المشهد ويعكس حالة زوال الثقة بين المكونات المجتمعية.. طرحه لمفردة (زعماء القبائل) ضمن مكونات لجنة الحوار السياسي أثار حفيظة الحزبيون الجدد (العائدون) بجوازات ولغة إنجليزية بـ(لكنة) ليبية.. ليبدأ الصدام مبكراً مع (عتاة) القبلية قبل صافرة إنطلاق الانتخابات المنتظرة.. ربما التعبير فقط خان لسان السيد (باثيلي).. فالرجل يعرف ليبيا وتفاصيلها السياسية والإجتماعية جيداً.. ومثل القوى الوطنية المتزنة يعرف أن المشترك الوحيد بين فترة المملكة وحقبة سبتمبر عبر ستون سنة من عمر الدولة الليبية هو إجتثاث الحزبية.. وأن القبيلة وإن بدت إطار هلامي كان لها القول الفصل في مناحي الحياة السياسية الليبية.. وأن القبيلة وإن بدت للبعض (المتمدن) مظهر متخلف كانت هي الدولة الموازية.. وأن القبيلة وإن ترهلت وتناقص تأثيرها في لملمة الشتات الليبي بعد زلزال فبراير تبقى رقماً صعباً في المعادلة الوطنية الشائكة .. على الأقل في شرق وجنوب ووسط ليبيا وفضاءات واسعة من الغرب .. فلم نسمع (على سبيل المثال) لصوت حزبي يقارع مجلس قبائل ورفلة الإجتماعي (أحد التكتلات السكانية الليبية الكبرى) في تداول قضية سياسية أو إجتماعية.. وعليه فالتعاطي مع (التشكيلات) الإجتماعية العربية والأمازيغية والتباوية والتارقية أمر واقع.. ومن غير الواقعي تجاوزه واستبداله بثلة محدودة من الأحزاب الفاعلة.. والبواقي مجرد تراخيص وأختام من لجنة الأحزاب.

إنها المقادير الإلهية والسياسية من شكَل الواقع المجتمعي الليبي الحالي.. فالإنتقال من نظام سياسي أحادي (أبوي) إلى تعددي بأحزاب وأكثر من ثمانية الاف منظمة مجتمع مدني (ورقية) ومافيات السلاح والمال تم باستخدام القوة المفرطة والصدمة عام 2011.. وأدى إلى تحول مجتمعي يفتقر للنضج والمنهجية ويتسم بالتناقض والتشتت وغياب المشروع الوطني الجامع للتطور بقيادات ونخب وطنية تملك الرؤية والقدرة.. لوثة العصبية والقبلية المتخلفة والمتجذرة تحتاج لجهد وطني كبير للتعافي منها .. إنها قضية ثقافية ومؤسسية وحتى دينية.. أكبر من كونها معالجة (حزبية) مرتبطة بالقفز للسلطة عبر سلم الانتخابات.

حينما تمعن النظر في الخريطة الليبية الجغرافية والإجتماعية تدرك عمق المهددات الوجودية والتفكك المسكوت عنه.. دولة بحجم قارة يقطنها الأقل سكاناً بين كل جيرانها.. تقع وسط حلقة من الدول المحيطة المثقلة بالبشر والمشاكل والأزمات وحتى الأطماع.. وهي الأكثر غنى بالموارد ومصادر الطاقة والأكثر تخلفاً في البنى التحتية وأسس التطور المعرفي والتقني.. والأكثر شباباً وتطلعاً لنظام سياسي مرن والأشد تصحراً في فقه العمل السياسي الناضج.. الأزمة الليبية أزمة ثقة في جوهرها ولا ضامن أن الإنتخابات بالصورة المطروحة هي الترياق والمخرج من المتاهة محكمة الإغلاق.

المعادلة الليبية وفق صياغة اللاعبون الكبار واضحة لا تحتاج لاجتهاد كبير للفهم.. إطالة الأزمة عبر تدوير القيادات المحلية (البلهاء) وضجيج إنتخابي.. وإنهاك الأمة إقتصادياً وإجتماعياً.. متزامن مع الإستنزاف والنهب المنظم لعوائد الدخل الوحيد وتضخم الدين العام .. والوجهة صندوق النقد الدولي.

الأميركان عائدون تحت راية الإنتخابات وسيجد الليبيون نسخة من (كرزاي) حاكم لأمرهم بزي مصمم بمقاييس (تارزي) إنتخابي أميركي.. الرئيس الليبي (المُنتظر) سيولد بقيصرية (إنتخابية) وحضانة سياسية أميريكية.. حيث تنتظره قرارات حاسمة لتسوية ملفات وأحقاد تاريخية لا صلاحية لها.. بدءًا من 1805 وإقفال قاعدة (ويلس) عام 1970 ولعنة لوكيربي مروراً بصفعة (كونداليزا رايس) في رمضان عام 2009 والقرار الأممي 1970 لعام 2011 لحجز الأرصدة.. وصولاً لاغتيال السفير في بنغازي في 11 سبتمبر 2012 وآخرها وأخطرها تسرب الروس (الفاغنر) إلى الجنوب الليبي في غفلة أميركية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. إسماعيل علي الشريف

كاتب وسياسي مستقل

اترك تعليقاً