عزة المقهور وفخ «رجل القش»

عزة المقهور وفخ «رجل القش»

صلاح البكوش

مستشار لجنة الحوار الأسبق بمجلس الدولة

”إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لَأشَدُّ إقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل“… أفلاطون في محاورة جورجياس.

في مقالها “لن يكون رئيس ليبيا إلا منتخبا من الشعب” والمنشور على ”بوابة الوسط” بتاريخ 22 مايو 2021، قامت السيدة عزة المقهور بجمع مواد من الإعلان الدستوري، ومخرجات برلين، وخارطة الطريق، وقرارات مجلس الأمن وفسرتها على هواها، وهي بذلك فضحت سوء فهم على مستويين هما: اولاً، الخلاف في الملتقى ليس حول إنتخابات مباشرة أو غير مباشرة، بل هو حول توقيت الإنتخابات الرئاسية وما إذا كان إجراؤها في هذا الوقت سيعزز الهدنة السياسية والعسكرية الهشة القائمة الآن أم سيقوضها. ثانياً، وربما الأهم، ان القضية المركزية في ليبيا هي فشلنا في التوافق على الحقوق وتوزيع السلطة والموارد، وهي قضية سياسية بإمتياز وليست قضية قانونية.

الجميع يتفق ان الاجسام السياسية الحالية قد تآكلت شرعيتها وفقدت مصداقيتها ولا مفر من الذهاب الى انتخابات، وعليه، يجب العمل على مواجهة التحديات التى تعرقل هذه الانتخابات وتمنع توفير الشروط الضرورية لانجاز عملية إنتخابية “حرة وعادلة وشاملة ونزيهة” كما ورد في الفقرة (26) من مخرجات برلين، وان نبدأ بالسلطة التشريعية لانها جزء اساسى من اى نظام سياسى ثم نعالج الدستور لاتاحة الفرصة للشعب ليختار نظام الحكم الذي يريد. هذا هو التدرج المنطقى والتوافقى فى نفس الوقت.

السيدة عزة المقهور لا ترى ان نقاش حول توفير الشروط الضرورية لانجاز عملية إنتخابية “حرة وعادلة وشاملة ونزيهة” سيدعم وجهة نظرها السياسية ويعينها على هزيمة خصومها، وعليه فهي تحاول تأطير النقاش حول الإنتخابات كصراع بين حماة الشعب (السيدة المقهور)، وشياطين يحرمون الشعب من حقوقه، وهي مغالطة منطقية تعرف بإسم “مغالطة رجل القش”، والقاعدة فيها هو أن تختلق حجة ضعيفة (رجل القش) وتنسبها إلى خصمك، لأنه من الأسهل أن تصارع رجلاً من القش من أن تنازل شخصا حقيقيا. هنا تختلق السيدة المقهور رجل قش (خصم لا يريد إنتخاب الرئيس مباشرة من الشعب) وتصارعه في محاولة يائسة لتجنب السؤال المنطقي التالي: كيف تنصبون نفسكم حماة لحق الشعب في إختيار رئيسه مباشرة وفي نفس الوقت تقررون نيابة عنه، وبدون إستفتاء دستوري، أن النظام السياسي في ليبيا رئاسي وليس برلماني أو شبه-رئاسي؟ وبحماس مفرط تشرع السيدة المقهور في الهجوم على خصم وهمي لتقع في المحظور وتسقط في كمين التناقض، وإزدواجية المعايير، والنظرة القانونية الضيقة.

  • التناقض- تبني السيدة المقهور حكمها بأن “أمر انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب محسوم دستوريا” على أساس التعديلات الدستورية في مقترح لجنة فبراير وتقول أن “لجنة فبراير هي لجنة دستورية، وأن مخرجاتها دستورية، وأن المؤتمر الوطني العام عهد إليها بمهمة تعديل دستوري لانتخابات رئاسية وبرلمانية”. ولكن السيدة المقهور كانت قد اعترفت بعدم دستورية هذا التعديل الدستوري في “رأي قانوني” آخر نشرته بوابة الوسط بتاريخ 7 نوفمبر 2014 حول قرار المحكمة العليا “بعدم دستورية الفقرة (11) من المادة (30) من الإعلان الدستوري” وقالت “ان المحكمة “الغت بندا وحيدا (البند 11)… فالمقصود بمقترح فبراير المشار اليه في البند 11 من التعديل السابع للإعلان الدستوري، هو المقترح بالتعديلات الدستورية”.
  • إزدواجية المعايير- في محاولة لجمع كل ما يمكن أن يردي “رجل القش” قتيلاً، ويقنع المراقب العارض بفكرتها، تتجاهل السيدة المقهور مبدأ قانوني أساسي يقضي بان جميع الاطراف يجب أن تقف على قدم المساواة أمام القانون، وتكيل بمكيالين بناء على الجهة محل الخصومة، فهي تتهم خصومها في معركة الانتخابات الرئاسية بقائمة طويلة من المخالفات القانونية وتصر إن مسألة الانتخاب العام “محسومة دستوريا”، وترخص لحلفائها السياسيين – بل وتختلق لهم الاعذار- عندما يرتكبون مخالفات دستورية واضحة وجسيمة ومن ذلك موقفها من إستنفاذ مجلس النواب لولايته حسب المادة (5) من مقترح فبراير الذي شاركت في صياغته ولا زالت تستشهد به وتدافع عنه بحماس. هنا ولدواعي سياسية لا غير، تتغير المعايير وتمنح السيدة المقهور مجلس النواب عفواً خاصاً إذا تقول في “رأي قانوني” آخر بعنوان “متى ينتهي الإتفاق السياسي الليبي؟”نشر بموقع المفكرة القانونية في 18 سبتمبر 2017 ” بغض النظر عن ما يعتري مجلس النواب القائم من عيوب واستنفاذ ولايته، إلا أنه ذو أهمية خاصة ومحورية لن تدور عجلة التحول الديمقراطي والحلحلة السياسية إلا عبره”.
  • النظرة القانونية الضيقة- دأب بعض القانونيين الليبيين بمختلف توجهاتهم السياسية على انتقاد اتفاق الصخيرات -والآن خارطة الطريق- حصرياً من زاوية قانونية وهو المحظور الذي تقع فيه السيدة المقهور حين تقول أن أمر انتخاب الرئيس محسوم دستوريا، ولا يملك منتدى الحوار الوطني الليبي تعديله أو إعادة النظر فيه. دعونا نذكر بأن هناك سوابق عدة قامت فيها إتفاقات سياسية بتخطي المواد الدستورية. نذكر هنا -على سبيل المثال لا الحصر- الاتفاق السياسي اليمني المبني على “المبادرة الخليجية” الذي أقرت فيه أطراف الصراع انتخابات لا منافسة فيها لتنصيب عبد ربه منصور هادي رئيسا للبلاد في مخالفة للمــادة (108) فقرة (د) من الدستور والتي تنص على ان يعرض المرشحين للرئاسة “في انتخابات تنافسية لا يقل عدد المرشحين فيها عن اثنين”.

الباحثة جينا سابيانو (Jenna Sapiano) في بحث صادر عن دار نشر جامعة اوكسفورد تقول ” يُطلب من أطراف عملية السلام التوصل الى العديد من التنازلات ]أو الحلول التوفيقية]بشأن ترتيبات مؤسسية جديدة (أو منقحة). وبعد النظر في العديد من القضايا التي توضح كيف طُلب من المحاكم الدستورية المحلية التوسط بين التوترات داخل التسوية السياسية، وجدنا انه في جميع الأمثلة فسرت المحاكم السلام على أنه أهم قيمة دستورية، أو الغرض الأساسي من الدستور.” وهو ما يعني ببساطة أنه لا يمكن حصر العملية السياسية في قمقم نقاش قانوني صرف حول ما يوافق أو يخالف تلك المادة أو غيرها، بل يجب مواءمة ذلك مع القيمة الدستورية الأعظم: المحافظة على السلام.وتشير أستاذة القانون بجامعة جلاسجو (Glasgow) البريطانية أسلي أوزجيليك (Asli Ozcelik) في بحث نشر العام الماضي بالمجلة الدولية للقانون الدستوري أنه “غالباً ما تتعرض التسويات التي تم تحقيقها بشق الأنفس بين الأطراف التي تصنع السلام لـ “تحدي عدم الدستورية”… هناك ثلاث استراتيجيات قانونية في معالجة تحدي عدم الدستورية: (1) اللجوء إلى القانون الدولي في تقييم عدم الدستورية، و (2) توفير مرونة نسبية في المتطلبات الدستورية لتتناسب مع احتياجات السياق الانتقالي، و (3) إسناد وضع قانوني فوق دستوري أو دولي إلى إتفاقيات السلام”.

  • قرار مجلس الأمن 2570 (2021)– في غياب المام كافي بقواعد صياغة قرارات مجلس الأمن، تسيء السيدة المقهور تفسير نص سياسي-قانوني، وبالتالي تحاول إلزامنا بأشياء تعمد مجلس الأمن بإستخدامه لمفردات محددة أن لا تفسر كمطالبة بنتيجة محددة وملزمة.

يجادل جون بيلينجر الثالث (John B. Bellinger III) -المستشار القانوني السابق للرئيس بوش، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية الأمريكية- بأنه “في السنوات الأخيرة، إتفق العديد من خبراء القانون الدولي (بما في ذلك العديد من المحامين الحكوميين للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن) بأنه لكي يكون قرار مجلس الأمن ملزم قانونًا، يجب أن يحتوي على ثلاثة عناصر:

  1. تحديد وجود ’تهديد للسلم والأمن الدوليين’
  2. بيان، عادة في الفقرة الأخيرة من الديباجة، بأن المجلس ’يتصرف بموجب الفصل السابع’
  3. استخدام الفعل ’يقرر’ في أي فقرات منطوق يُقصد منه أن يكون ملزماً

كما نعرف، يفتقر القرار 2570  إلى العنصرين الأخيرين حيث أنه لا يبين أن المجلس ’يتصرف بموجب الفصل السابع’، كما أنه لا يستخدم الفعل ’يقرر’ كما هو الحال في قرارات سابقة بل يستخدم الفعل ’يدعو’.

وإذ يشكل حق تقرير المصير الذي يحفظ قدسيته ميثاق الأمم المتحدة حدًا للإجراءات التي يمكن إقراراها تحت الفصل السابع ويعني ضمنيًا أن المجلس ليس لديه السلطة لفرض أو إدخال أي شكل معين من أشكال الحكومة أو الحكم أو الإدارة بموجب الفصل السابع على كامل أو جزء من سكان أي دولة مخالفاً لإرادتهم، فإن مجلس الأمن نفسه في قراره 1654 (2005) أكد “المسؤولية الرئيسية المنوطة بالحكومات والسلطات الوطنية والانتقالية للبلدان الخارجة من الصراع… في تحديد أولوياتها واستراتيجياتها المتعلقة ببناء السلام في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع  لكفالة السيطرة الوطنية على زمام الأمور”.

وخلصت دراسة معمقة قام بها المعهد الدولي للسلام لأكثر من 1500 طلب محدد من قبل مجلس الأمن في سياق الحروب الأهلية إلى أنه عند “تقييم الامتثال لمطالب مجلس الأمن يجب التمييز بين طلب لنتيجة وطلب لسلوك معين… على سييل المثال، يمكن للقرار أن يطالب بتنفيذ القرارات المتخذة في إطار الحوار بين الأطراف الكونغولية، وبالتالي يتطلب نتيجة واضحة. السبيل الوحيد أمام أطراف الحرب الأهلية للامتثال للمطلب هو تنفيذ القرارات المتخذة في إطار الحوار بين الأطراف الكونغولية. ومع ذلك، يمكن لمجلس الأمن أيضاً صياغة الطلب باعتباره مطلباً لسلوك معين، ويطلب من أطراف الحرب الأهلية بالعمل على تنفيذ القرارات المتخذة في إطار الحوار بين الأطراف الكونغولية، وفي هذه الحالة، يمكن للموجه إليهم الطلب تلبية الطلب بمجرد بذل جهود جادة وصادقة لتنفيذ القرارات، بغض النظر عما إذا تم تنفيذها بالفعل أم لا.” وهنا يجب الإشارة الى أن القرار الأخير من مجلس الأمن لا “يقرر” ولا “يطالب بتنفييذ مخرجات برلين” بل “يدعو حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة الى القيام بالاعمال التحضيرية اللازمة لاجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية… على النحو المبين في خارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي”.

لنختم بالتذكير بأن القرار 2570 (2021) يبدأ: “وإذ يؤكد من جديد التزامه بالعملية السياسية التي يقودها ويملك زمامها الليبيون وتيسرها الأمم المتحدة، وبسيادة ليبيا واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية”.

  • مخرجات مؤتمر برلين- تصبغ السيدة المقهور على هذه المخرجات قدسية يحسده عليها النص الدستوري الذي خرقه مجلس النواب ومدد لنفسه، ولكن السيدة المقهور في تلك اللحظة خلقت له عذر أنه “لن تدور عجلة التحول الديمقراطي والحلحلة السياسية إلا عبره.” إلا أن مخرجات برلين طبقا لخبراء محايدون ليست كذلك.

يؤكد جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي حالياً ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية سابقا أنه “عبر إقصاء ليبيا علناً من المشاركة، خَرَق مؤتمر برلين حول ليبيا توجيهات الأمم المتحدة من أجل الوساطة الفعّالة للعام 2012 وتشديد هذه التوجيهات على ’الشمولية’ و ’الملكية الوطنية’ كعنصرين أساسيين للحلّ السلمي للصراعات.” وفي تقرير لمعهد بروكينجز عن ليبيا نشر في 11 فبراير 2019، اتفق 17 باحث متخصص في الشأن الليبي “لا مكان للتدخل الخارجي ولا لمؤتمرات لا يشارك فيها ليبيو طرابلس وبرقة وفزان مشاركة كاملة… من الضروري أن نتذكر أنه لا يمكن عقد المؤتمرات دون من له دور ومصلحة على المستوى المحلي.” وعلق كريم ميزران -الزميل الأقدم بالمجلس الأطلسي- بقوله “أصبح من الواضح أن مؤتمر برلين قد يكون فخًا لحكومة الوفاق ومقاتلي طرابلس الشجعان وسكان غرب ليبيا”.

لنلقي نظرة على رأي السيدة المقهور بخصوص مؤتمر برلين والذي نستشفه من تحليلها للفقرة (26) من مخرجات المؤتمر، لنطلع أولاً على نص الفقرة الذي يقول:

نحث جميع الأطراف الليبية إلى استئناف العملية السياسية الشاملة التي تتولى ليبيا قيادتها وتمسك بزمامها تحت رعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والمشاركة فيها بشكل بنّاء وبما يمّهد الطريق لإنهاء الفترة الانتقالية عبر انتخابات برلمانية ورئاسية حرة وعادلة وشاملة ونزيهة تنظمها مفوضية وطنية عليا للانتخابات“.

في تحليل يتحدى المنطق ومثير للاستغراب، تفاجئنا السيدة المقهور بتجاهلها لما هو أساسي وتركيزها على ما هو ثانوي في النص حيث نجد أنها تجاهلت النقطتين الأساسيتين فيه:

  1. تجاهلت السيدة المقهور ما نصت عليه الفقرة من “إنهاء الفترة الانتقالية” عبر انتخابات برلمانية ورئاسية، وأن ما تدعو اليه شخصياً هو الدخول في فترة انتقالية أخرى بناء على قاعدة دستورية مؤقتة لإنتخاب رئيس دولة مؤقت وهو بوضوح عكس ما تدعو اليه هذه الفقرة.
  2. تتجاهل السيدة المقهور مركزية النص في هذه الفقرة على إنتخابات “حرة وعادلة وشاملة ونزيهة”، وهي كما نعلم جميعاً نقطة جوهرية في أي إنتخابات وخاصة في ظل الأوضاع الراهنة والمشحونة.

بالنسبة للسيدة المقهور، عند قراءة الفقرة (26)، علينا أن نغلق أعيننا ونمنح عقولنا إجازة حتى نصل إلى نهاية الفقرة ونتمكن من موافقتها على تقييمها الذي يقول “النقطة الحاسمة في هذا النص هي الإشارة إلى أن هذه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ستنظمها المفوضية العليا للانتخابات”.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

صلاح البكوش

مستشار لجنة الحوار الأسبق بمجلس الدولة

اترك تعليقاً