كوفمان: الإنسان هو الحيوان الطباخ

تفتتح الكاتبة والخبيرة الأكاديمية في الطبخ ومدرسة طبخ مساعدة في معهد التربية المطبخية في نيويورك كاثي ك. كوفمان كتابها “الطبخ في الحضارات القديمة” مؤكدة أن “الإنسان هو الحيوان الطباخ، وما من مخلوق آخر سواه يعرض طعامه للتسخين ليغير مذاقه قبل أكله، وما من مخلوق سواه طور كل هذا القدر من الأنظمة المعقدة والعادات للحصول على المواد الغذائية وتحضيرها وتوزيعها واستهلاكها”.

وتتناول كاثي ك. كوفمان الأطعمة وعادات الأكل في العالم القديم، وتقدم الوصفات في سياقها الثقافي والتاريخي متفحصة الأطعمة المألوفة في العالم القديم وهي الشعير والحنطة ولاسيما كيميا صنع الخبز القديم وتقنيتها، وتصف الطبخ القديم وتقنيات حفظ الطعام، كما تقدم وسيلة عملية لتحضير الوصفات في المطابخ الحديثة.

وتدرس كوفمان الطبخ في بلاد الرافدين القديمة ومصر واليونان وروما من خلال الوصفات الغذائية التي توضح ما كان يتناوله المجتمع من الحكام الكبار حتى أدنى المزارعين مكانة أو العبيد قبل آلاف السنين، وهذه الوصفات مثيرة في ذاتها كخصائص مطبخية، كونها تساعد في الكشف عن بنية أية الحضارة وتقنيتها واقتصادها وممارساتها التجارية والمعتقدات الفلسفية والدينية والتنظيم الاجتماعي والسياسي فيها، “خذ مثلا الخبز المصنوع من الحنطة ـ وهو شيء بحكم البديهة حاليا ويتوفر واقعيا في كل مكان ويمكن تقديمه لأي شخص تقريبا، في العالم القديم ـ كان خبز الحنطة قطعة تدل على الترف، فالأنواع المبكرة من الحنطة لم تكن تنمو نموا صالحا في جميع المناخات، فكان دقيق الحنطة في الغالب أغلى ثمنا من الدقيق المصنوع من حبوب أخرى، في القرن الثاني الميلادي، حين أنزل الجنود الرومان عند بئر هادريان بالقرن من حدود انجلترا مع اسكوتلندا، أصروا على الحنطة لإشباع مطلبهم في أنماط الخبز المألوفة لديهم في إيطاليا، ربما كانت الحبوب المحلية مثل الشوفان تكفي لسد حاجة الكتائب التي تتضور جوعا، مع ذلك تم شحن الحنطة حتى نهايات العالم المعروف حينئذ لإطعام الجنود، الذين دفعوا مسرورين ثمن الحبوب الغالية من رواتبهم السخية، إذ كان ينظر الرومان القدماء إلى خبز الحنطة بوصفه أمرا جوهريا لتحقيق هويتهم الثقافية”.

تتفحص كوفمان الطبخ تاريخيا بوصفه جزءا لا يتجزأ من حقب مهمة في التاريخ سواء أكان كوسيلة لتفحص الحياة اليومية للنساء والرجال الذين كانوا يطبخون، أم كوسيلة لاستكشاف خبرات الشعوب التي تأكل ما يقدم لها، وتقول “كانت طرق الأكل عند الإنسان بسيطة فرجال العصر الحجري ونساؤه كانوا يحصلون على طعامهم باصطياد قطعان الحيوانات الكبيرة التي كانت تغطي الشرق الأدنى ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وبجمع ما تيسر من فواكه وخضر برية وحبوب يصادفونها على امتداد طريقهم لزيادة أطعمة اللحوم، ولا نكاد نعرف شيئا عن الكيفية التي كان يحضر بها البدائيون الأوائل طعامهم، ولكن مع نقطة معينة في الزمن قبل ما يقرب من مليون إلى خمسمائة ألف سنة، تعلم الإنسان الأول كيف يستخدم النار لتحويل النيء إلى مطبوخ، ويفترض الأنثروبولوجيون أن الصورة الأولى من الطبخ كانت تحميصا وشيا فوق نيران مفتوحة، يكملها بسرعة الخبز على أحجار ساخنة توضع بالقرب من النار أو في الرماد الذي تخلفه النار في حفر أرضية مصفوفة بالأحجار، وحين ظهر المطبخ البدائي صار يظهر لدى الناس ميل للمفاضلة بين الأطعمة البرية الكثيرة المتوفرة لإشباع حاجتهم من الجوع”.

وتضيف كوفمان “قبل زهاء اثنى عشر ألف سنة انتهى العصر الجليدي وغير البنية في مناخ الشمال وحول الحياة النباتية والحيوانية التي تتوافر في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط ما قبل التاريخ. أما كيف ولماذا بالضبط ظهرت ـ أي استزراع المحاصيل وتدجين الحيوانات ـ فأمر غير واضح، لأن الدليل يتنوع من موقع إلى آخر، تذهب إحدى النظريات إلى أن الطرائد البرية تناقصت مما دعا الصيادين جامعي إلى أن يعتمدوا أكثر على الحبوب للاستمرار بقائهم، وقد فضلوا بعض الحبوب البرية إما بسبب تيسرها أو سهولة الحصول عليها أو مذاقها، ونشر هؤلاء البدائيون هذه الحبوب المفضلة حين كانوا يواصلون مطاردتهم لقطعان المتناقصة، فأكملوا طراز حياة الصيد بالمحاصيل المزروعة، وبحوالي عام 9000 ق. م صار الدليل يتوافر على محاصيد تم خزنها للاستهلاك في المستقبل، وكانت هذه المخازن والمستودعات بحاجة إلى أن تحمى من تطفل الحيوان وسرقة الإنسان، فتشكلت القرى حولها، وحاولت البدائيين إلى مزارعين مستقرين”.

ويبدأ كل فصل من فصول الكتاب عن بلاد الرافدين ومصر واليونان وروما وبخلاصة عن أهم التحديات البيئية والتقنية التي كانت تواجه توفير الطعام في كل حضارة، وهكذا يتم تصوير البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية في كل مجتمع بالإضافة إلى العوامل الثقافية والدينية المؤثرة في اختبارات الأطعمة وتتم مناقشة مصادر الوصفات القديمة تتبعها وصفات ملحقة إضافية، وحيثما أمكن يجري اقتباس النصوص القديمة ووصفها، التي اعتمدت عليها المؤلفة في الوصفات المحورة ، حيث لا تتوافر نصوص سيتوافر الدليل الذي اعتمدت عليه في الوصفة.

وقد جمعت المؤلفة الوصفات وفق أصنافها: الخبز، الحبوب، الألبان، اللحوم، الطيور، والأسماك والخضر والتوابل والمطيبات والمعجنات والحلويات والأشربة، مع بعض المقترحات الخاصة بتجميع الوجبة.

وبالرغم من أن الكتاب مكتوب للمطابخ الحديثة ـ بحسب المؤلفة ـ فقد اقترحت المؤلفة تقنيات الطبخ وأدواتها لتقليد الطرق القديمة، حيثما أمكن ذلك عمليا. وتوفر الملاحق معجما ينطوي على بعض البديلات المقترحة للمكونات غير المتوفرة وكذلك لمصادر تنظيم الأطعمة للمكونات غير الاعتيادية.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول الأول بلاد الرافدين، والثاني مصر القديمة، والثالث بلاد الإغريق والرابع روما القديمة، تقدم المؤلفة في كل منها وصفات لأهم الأطباق، في الأول ما يقرب من 40 صنفا، وفي الثاني ما يزيد 70 صنفا، وفي الثالث 130 صنفا، وفي الرابع 207 أصناف.

وتشير المؤلفة إلى أنه برغم من أن بلاد الرافدين كانت خليطا من المجموعات العرقية فإن الأدلة المكتوبة تشير إلي أن الشعوب المختلفة كانت تشترك بكثير من عادات الطعام، و”قد ابتكر السومريون الكتابة المسمارية زهاء عام 3100 ق. م وانتشر النظام الكتابي المسماري في مجموعات بلاد الرافدين الأخرى لتدون به لغاتها، وبحلول زهاء عام 1900 ق. م جمع البابليون مسردا بما يزيد عن 800 مصطلح خاص بالطعام والشراب في اللغتين السومرية والأكدية “اللغة التي كان ينطقها البابليون” باستخدام الكتابة المسمارية المشتركة، ويتمثل واحد من أكبر الأصناف في الأطعمة المطبوخة في السوائل، وليست هذه سوى أسماء لا تتوافر عنها تفاصيل طهوية غير أن العدد الأكبر من المصطلحات المطبخية يوحي بأن نظام طبخ معقد قد انتشر في عموم مجموعات بلاد الرافدين المختلفة”.

وتلفت إلى تطور معدات الطبخ في بلاد الرافدين أيضا بما يسمح بأصناف معقدة من الطهو حيث “طور السومريون في حقب ما قبل التاريخ (أي حقب ما قبل الكتابة) أفران حجرية يمكنهم فيها أن يخبزوا أرغفة الخبز وتبعتهم بعد ذلك أفران الطابوق المفخور زهاء عام 2500 ق. م، وكان بعضها مصمما بحيث تكون فيها مناطق مسطحة يمكنها استيعاب قدر الطهي أو الشواء، وهي قدر مصنوعة إما من الفخار أو البرونز، بما يسمح باستخدام كاف للوقود، وكان الطبخ يعد فنا، وأضاف الأكاديون على الشخص المسئول عن المطبخ لقب تشريف هو مبنو أي المزين أو المنمق”.

وحول علاقة الطبخ بالطبقة الاجتماعية تكشف المؤلفة عن أن النخب الحضرية في بلاد الرافدين كانت تتناول أربع وجبات يوميا: وجبتين رئيسيتين أحدهما في الصباح والأخرى مع الغروب، مع وجبتين خفيفتين، أما العمال وبخاصة الفلاحين في الحقول فلا يتناولون سوى وجبتين، و”تستضيف الملوك الولائم ليلا، وهي تمتاز بترف أكبر بسبب المشاعل الثمينة والمصابيح الزيتية التي تضيء الاحتفال، ويبدأ العشاء الرسمي وينتهي بغسل اليدين، ويدهن الضيوف بزيت معطر ويشعل البخور، وكان ضيوف الولائم الرسمية يخضعون لتريب هرمي صارم ويجلسون في أماكن مخصصة لكل منهم بحسب الوظيفة أو الأصل العرقي أو المكانة في البلاط، وكان بمثابة إهانة اتهام ضيف من الضيوف بالأكل والشرب مع الخدم أو رفض المشاركة في الطعام، وكانت النساء تحضر أحيانا الموائد وتجلس على المقاعد أو في الكراسي، وفي الألفية الأولى صار يضطجع الرجال الأثرياء.

وتضرب المؤلفة مثلا بوجبة عملاقة تلك التي أولمها الملك الأشوري ناصربال عام 879 ق.م احتفاء بتجديد مدينة كلخو واتخاذها عاصمته العسكرية، حيث أقام احتفالا بالأكل والشرب لمدة عشرة أيام، وقد سجلت الأطعمة التي استهلكت على مسلة عثر عليها في التنقيبات الأثرية عام 1951 ووفقا لما يذكره النقش أطعم الملك الأشوري عددا مذهلا من الناس بلغ تعددادهم 69574 نفرا من العمال وأسر الحرب و5000 من الضيوف من وجهاء المناطق التي غزاها، و16 ألفا من السكان المحليين و1500 من موظفي قصر، ومن بين الأطعمة المقدمة:

1000 ثور علفه الشعير

200 ثور و1000 من الأبقار الصغيرة

1000 من الأغنام الصغيرة

14000 من الأغنام الاعتيادية

1000 من الأغنام المسمنة

1000 حمل

500 من الظباء والغزلان

وصف لا ينتهي من البط والدجاج واليمام والحمام والطيور الصغيرة وأنواع أخرى لم تفك شفرتها في الكتابة المسمارية الأصلية

10000 بيضة

10000 سمكة “دون تحديد النوعية”

10000 جرادة “مشدودة بسيخ”

وترى المؤلفة أنه منذ أزمنة ما قبل التاريخ تأثرت الأطعمة المصرية بالعالم الخارجي، فالحبوب المصرية الأساسية والشعير والحنطة النشوية ظهرت في الشرق الأدنى، وكثير من الوصفات الخاصة ببلاد الرافدين ربما كانت معروفة أيضا في المطابخ المصرية “على أن عادات الطعام المصرية كانت تتميز عن عادات تناول الطعام في بلاد الرافدين، ولاسيما تأكيد المصريين على لحوم الأبقار واستعمالهم العسل وبعض الفواكه والخضر التي ينفردون بها، وغير الإغريق طرق الأكل المصرية بتأكيدهم الزراعة الواسعة لقمح الخبز وبتقديمهم تقنيات ري جديدة، فحولوا عادات الطعام المصرية وقربوها من عادات الطعام في العالم الهلنستي.

وخلافا لبلاد الرافدين ومصر فإن الأدب المطبخي الإغريقي زاخر وغزير “فقد ابتكر الإغريق فن الكتابة التذوقية، ولم يتعبوا أبدا من مناقشة الأطعمة وشئون الطبخ من منظور نقدي، وكلمة “فن التذوق” تجمع بين جذرين إغريقيين يعنيان “المعدة” و”القوانين” وفي اللغة الإنجليزية الحديثة، يرد التذوق بوصفه فن الأكل الجيد وعلمه، مما يشف عن التقدير الإغريقي الخرافي للطهو الفاخر، وبحلول القرن الخامس ق. م، ربط الإغريق الطعام بالطب في مقالات تعليمية وكتبوا كتبا عن الطبيخ، وصلتنا شذرات منها، وأوجدوا مدارس في الطبخ، بل سخروا من الطباخين المخادعين وصوروهم كشخصيات بليدة في المسرحيات الملهاوية الإغريقية”.

وتلفت المؤلفة إلى أن البنى الأساسية للوجبات في بلاد الإغريق القديمة كانت تتركز على الحبوب الأساسية التي تجملها الأطباق الجانبية النقبلة وهي الأطباق الثانوية أو المقبلات المحضرة من اللحوم والأسماك والخضر والفواكه والبقول والألبان، وفي العصر الكلاسيكي كانت الوجبات الرسمية تؤكل عموما من دون خمور، تظهر الخمرة في الوليمة أي حفلة الشراب بعد اكتمال وجبة الأكل الرئيسية، وتمتد الوليمة من مناقشة موضوع تأملي إلى نوبات الشرب المعربدة التي تنتهي بالموسيقيين والألعاب الاحتفالية والمحظيات والسلوك الشائن، أما الوجبات غير الرسمية فقد تضم الخمرة، وتميل المآدب والاحتفالات العامة إلى أن تعزلها الجنوسة، يتمدد الرجال البالغون بينما يجلس الصبيان والرجال الأقل منزلة في الحضور، ويتناولون تلك الأطعمة التي يختار إعطاءها لهم والذكور الكبار، وكان يطلق على هؤلاء المتواكلين اسم “الطفيليين”، ويقدم الأكل على موائد صغيرة يشترك في أكثرها اثنان أو ثلاثة آكلين، وتستخدم السكاكين والملاعق، وكانت الجفان والأوعية وأدوات الشرب الفردية تصنع من الطين أو المعادن كالفضة أو الذهب أو البرونز.

الكتاب صدر عن مشروع “كلمة” أحد مشروعات هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وقد نقله إلى العربية المترجم العراقي المقيم بإستراليا سعيد الغانمي، والذي له أكثر من أربعين كتابا ما بين مترجم ومؤلف.

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً