مقدمة
يحتل الدستور في البناء القانوني للدولة مكانة فريدة، إذ لا يُعد مجرد قانون أعلى في التدرج التشريعي، بل هو الوثيقة المؤسسة للدولة ذاتها، والمنشئة للسلطات، والمحددة لهوية الكيان السياسي وشكل نظام الحكم وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ومن ثم، فإن أي نقاش حول كيفية بناء دستور، لا سيما في المراحل الانتقالية أو في ظل الأزمات السياسية، لا يمكن أن ينفصل عن سؤال الشرعية، ومصدر السلطة التأسيسية، وحدود التفويض.
وتثور إشكالية خاصة حين يُطرح خيار بناء دستور أو إقرار نصوص تأسيسية جوهرية دون الرجوع إلى الاستفتاء الشعبي، خصوصًا فيما يتعلق بشكل الدولة وهويتها السياسية. فهل يسمح الفقه الدستوري بمثل هذا المسار؟ وهل يمكن تبريره بالضرورة؟ وما هي آثاره القانونية والسياسية على استقرار النظام الدستوري؟
تهدف هذه الورقة إلى معالجة هذه الإشكالية معالجة شاملة، بالاستناد إلى النظرية الدستورية العامة، والتمييز بين المشروعية والشرعية، وتحليل التجارب الدستورية المقارنة، وصولًا إلى استخلاص ضوابط ومعايير تحكم أي محاولة لبناء دستور في غياب الاستفتاء الشعبي.
أولًا: الدستور كمظهر للسلطة التأسيسية ومصدر للشرعية
يُجمع فقه القانون الدستوري على أن الدستور تعبير عن ممارسة السلطة التأسيسية الأصلية، وهي سلطة تختلف جوهريًا عن السلطات المنشأة التي تستمد وجودها من الدستور ذاته. فالسلطة التأسيسية لا تُفوَّض عادة، ولا تُقيَّد بقواعد سابقة، لأنها تمثل الإرادة الأولى التي تُنشئ الدولة وتحدد هويتها.
ومن هذا المنطلق، فإن الشعب هو صاحب هذه السلطة بحكم سيادته، وليس مجرد مصدر شكلي لها. والاستفتاء الشعبي لا يُعد إجراءً تقنيًا بحتًا، بل هو الآلية التي تتحول بها السيادة من مبدأ نظري إلى فعل قانوني ملموس. لذلك، فإن غياب الاستفتاء لا يمس فقط شكل الإجراء، بل يطرح تساؤلًا عميقًا حول ما إذا كان النص الدستوري يعبر فعلًا عن الإرادة العامة، أم عن إرادة نخبوية أو توافق سياسي محدود.
ثانيًا: الاستفتاء الشعبي كقاعدة عامة في إقرار الدساتير
أصبح الاستفتاء الشعبي في الفكر الدستوري الحديث القاعدة العامة لإقرار الدساتير، لا سيما في الأنظمة التي تعلن تبنيها لمبدأ الديمقراطية وسيادة الشعب. ويرجع ذلك إلى أن الاستفتاء:
- يعزز الشرعية السياسية للنص الدستوري
- يوفر قبولًا مجتمعيًا واسعًا
- يُكسب الدستور حصانة معنوية تتجاوز القوة القانونية المجردة
- ويحول الدستور إلى عقد اجتماعي حقيقي، لا إلى وثيقة مفروضة
وتزداد أهمية الاستفتاء كلما تعلق الأمر بالنصوص التي تحدد شكل الدولة، كنظامها السياسي، أو بنيتها الإقليمية، أو مرجعيتها القيمية، لأن هذه المسائل تمس جوهر الكيان السياسي، ولا يجوز حسمها نيابة عن الشعب دون تفويض صريح.
ثالثًا: الحالات الاستثنائية وتعذر الاستفتاء
رغم مركزية الاستفتاء، لا ينكر الفقه الدستوري أن هناك أوضاعًا استثنائية قد تجعل إجراءه متعذرًا، مثل انهيار مؤسسات الدولة، أو النزاع المسلح، أو الانقسام الجغرافي الحاد، أو غياب الحد الأدنى من الأمن والنزاهة الانتخابية. غير أن هذه الظروف لا تُنشئ بحد ذاتها شرعية بديلة، وإنما تفتح المجال فقط لحلول مؤقتة تفرضها الضرورة.
فالضرورة في الفقه الدستوري لا تُبيح ما يمس جوهر السيادة الشعبية، بل تبرر فقط اتخاذ تدابير انتقالية تحفظ كيان الدولة وتمنع الفراغ الدستوري، على أن تظل هذه التدابير مقيدة زمنيًا وموضوعيًا.
رابعًا: التمييز بين المشروعية الإجرائية والشرعية الدستورية
قد يكون الدستور أو المشروع الدستوري مشروعًا من حيث الشكل إذا صدر عن هيئة أُنشئت وفق نصوص قانونية قائمة أو اتفاقات سياسية معترف بها، غير أن هذه المشروعية الإجرائية لا تكفي وحدها لإضفاء الشرعية الدستورية الكاملة.
فالشرعية ترتبط بالقبول الشعبي وبالإحساس العام بأن الدستور يعبر عن الإرادة الجمعية، لا عن موازين قوى مؤقتة. ودستور يُقر دون استفتاء، خاصة إذا حسم مسائل الهوية السياسية، يظل معرضًا للطعن في شرعيته، مهما بلغت دقته القانونية أو سلامة صياغته.
خامسًا: إشكالية تحديد شكل وهوية الدولة دون تفويض شعبي
تُشكل النصوص المتعلقة بشكل الدولة ونظام الحكم والهوية السياسية ما يُعرف في الفقه الدستوري بالمسائل التأسيسية العليا أو “فوق الدستورية”. وهذه المسائل لا يجوز من حيث المبدأ حسمها إلا بإرادة شعبية مباشرة، لأنها تحدد الإطار الذي ستعمل داخله الأجيال اللاحقة.
وأي هيئة تأسيسية لا تستمد تفويضها المباشر من الشعب، سواء كانت معينة أو منبثقة عن اتفاق سياسي أو منتخبة لغرض تشريعي عادي، لا تملك حق الانفراد بتقرير هذه المسائل، وإلا تحولت من سلطة تأسيسية إلى سلطة وصاية سياسية.
سادسًا: التجارب الدستورية المقارنة
تُظهر التجارب المقارنة أن الدول التي نجحت في إدارة مراحلها الانتقالية دون انهيار دستوري، اعتمدت غالبًا دساتير أو إعلانات دستورية انتقالية، امتنعت عن الحسم النهائي في القضايا الخلافية، ونصت صراحة على عرض الدستور الدائم لاحقًا على الاستفتاء الشعبي.
أما الدساتير التي صيغت دون استفتاء، وحسمت مسائل الهوية بشكل نهائي، فقد عانت في الغالب من ضعف القبول، أو من التعطيل العملي، أو من العودة إلى الصراع.
سابعًا: المخاطر الدستورية والسياسية لغياب الاستفتاء
إن أخطر ما في بناء دستور دون استفتاء لا يكمن في النص ذاته، بل في آثاره بعيدة المدى، ومنها:
- ضعف الانتماء الدستوري
- قابلية المؤسسات للطعن في مشروعيتها
- تسييس القضاء الدستوري
- تحويل الدستور إلى أداة صراع لا إلى إطار توافق
- وفتح الباب أمام انقلابات دستورية ناعمة باسم “التصحيح”
ثامنًا: الضوابط الواجب مراعاتها عند تعذر الاستفتاء
إذا فرضت الظروف استحالة إجراء الاستفتاء مؤقتًا، فإن الحد الأدنى من السلامة الدستورية يقتضي:
- النص الصريح على الطابع الانتقالي للدستور
- تجميد القضايا التأسيسية الخلافية
- إدراج التزام دستوري بإجراء استفتاء لاحق
- عدم تحصين النصوص من التعديل
- وتوسيع المشاركة المجتمعية في الصياغة
خاتمة
إن بناء دستور دون استفتاء الشعب على شكل وهوية الدولة السياسية قد يكون ممكنًا من حيث الضرورة، لكنه يظل ناقصًا من حيث الشرعية، ومحفوفًا بالمخاطر من حيث الاستقرار. فالدساتير لا تعيش بقوة النص، بل بقوة القبول، ولا تستقر بالإجراءات وحدها، بل بالإرادة الشعبية.
وأي مشروع دستوري يتجاهل هذه الحقيقة، إنما يؤجل الأزمة بدل حلها، ويضع بذور نزاع دستوري مؤجل، سرعان ما يطفو إلى السطح عند أول اختبار حقيقي للسلطة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.





اترك تعليقاً