لمصلحة من: تحارب الأحزاب السياسية السلمية

لمصلحة من: تحارب الأحزاب السياسية السلمية

لمصلحة من: تحارب الأحزاب السياسية السلمية،
ويسمح للأحزاب الإرهابية بأن تسرح وتمرح

هل يبدو هذا العنوان غريباً لدى القراء، أغلبهم أو قليلين منهم، سيان، ولكني أقصده وأعنيه بكل ما يمكن أن يتضمنه من معان ومضامين، وهذا ما سأشرحه فيما يلي: لقد عشنا بمرارة وأسف شديد كيف انطلقت حملة شعواء ضد الأحزاب السياسية، بدأت بالتلاسن والتجاذب بين بعض الأحزاب التي شاءت لها الصدف أو المعطيات المؤقتة التي كانت سائدة أيام انتخابات المؤتمر الوطني أن يكون لها ممثلون في المؤتمر، ثم لم تلبث أن أخذت تنتشر وتتفشى على ألسنة الناس، وتمثلت في تلك التعبيرات عن السخط على الأحزاب السياسية وتحميلها وحدها مسؤولية تدني الأداء في المؤتمر الوطني والحكومة، حتى انتهينا إلى أن نواجه بردود الأفعال نفسها التي كان يواجه بها، أيام حكم الفرد الطاغية المستبد، كل من يفكر مجرد التفكير في الحديث عن أحزاب سياسية، لأن المبدأ المقر في نظرية القذافي السياسية، أن الحزبية خيانة وأنها إجهاض للديمقراطية..إلخ.

ولقد عشنا أيضاً بمرارة شديدة كيف تطورت هذه الحملة حتى بلغت حد العدوان المباشر على مقرات بعض الأحزاب، وتهديد بعضها الآخر، ما اضطر معظم الأحزاب التي كانت تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في ساحة العمل السياسي، إلى أن تجهض محاولاتها، وأن تفقد حتى ذلك النفر القليل من المؤيدين الذين تمكنت من إقناعهم وضمهم إلى صفوفها في البداية، ثم انتهت معظمها إلى الاضطرار إلى تجميد نشاطها تماماً، بل إغلاق مقراتها، لسبب بسيط بدهي، وهو (ضيق ذات اليد) وانعدام الإمكانات المادية اللازمة لتغطية تكلفة إيجار المقر والحفاظ على حد أدنى من البقاء فيه.

وهكذا نعيش في هذه اللحظة كيف انحسرت موجة العمل السياسي السلمي، في إطار الأحزاب السياسية المعلنة، حتى تقلص عدد الأحزاب التي ما زالت باقية، وما زالت قادرة على البقاء، إلى عدد قليل، هو تلك الأحزاب التي تتمتع بإمكانات مادية تمويلية هائلة، أو على الأقل، تكفيها للحفاظ على البقاء، من خلال العناصر التي تعمل في أطرها بمقابل مادي، ومن خلال المقرات التي تملك القدرة على تغطية تكاليف إيجاراتها وإدامتها.

بيد أننا، في هذا الوقت نفسه، نشاهد كيف أن ثمة قوى وجماعات ما زالت قادرة، لا على الحفاظ على البقاء وحسب، بل على النمو والتطور الهائل في أعداد المنتسبين إليها، والأهم من كل ذلك على التحرك الفعلي في مختلف الساحات: السياسية والاجتماعية والعسكرية، وأعني بهذه القوى الجماعات المتشددة، التي تسعى لفرض رؤاها وتوجهاتها السياسية والفكرية على المجتمع بأسره، بأسلوب الإرهاب والعنف المادي والمعنوي.

وإذا عدنا إلى تعريف الحزب، واتفقنا إلى أنه عبارة عن مجموعة من الأفراد يؤمنون بفكر معين، ويشتركون في رؤية معينة للمجتمع والحياة والسياسة، ويسعون لتحقيق هدف أو أهداف محددة، ويعملون في إطار منظم، له هيكلية قيادية وتنظيمية، وغالباً ما يلتزم الأعضاء بنظام داخلي متفق عليه، فإن علينا أن نسمي هذه الجماعات أو القوى بالتسمية الصحيحة، وهي أنها عبارة عن أحزاب سياسية، وأن تعريف الحزب ينطبق عليها تمام الانطباق.

بيد أن ثمة فرقاً جوهرياً يميز هذه الأحزاب (التنظيمات) عن الحزب السياسي بالمعنى المتعارف عليه في الدولة الديمقراطية، هو أن الحزب السياسي الديمقراطي، لا ينتهج في سبيل تحقيق أهدافه إلا الوسائل السلمية المتعارف عليها: التعبير السلمي عن الرأي، التظاهر والتجمع والاعتصام السلمي، وعدم التعرض بالإساءة أو التجريح للمخالفين في الرأي، أو التحريض لاستخدام العنف ضدهم. أما هذه الأحزاب المتشددة، فهي تنشأ أصلاً على أساس غير ديمقراطي، يتمثل في تكفير أو تخوين المخالف لهم في الرأي، انطلاقاً من قناعتهم الراسخة بأنهم وحدهم على حق، وأن كل من يخالفهم الرأي فهو على باطل، إن لم يبلغوا حتى إخراجه تماماً من ملة الإسلام، وإهدار دمه، والتحريض على قتله، وفي كثير من الأحيان قتله بالفعل.

وعلى الرغم من أن مثل هذه التنظيمات التي تنتهج أساليب الإرهاب والعنف، لا يحق لها ممارسة العمل بأي شكل من الأشكال في ظل الدولة التي تريد أن تكون ديمقراطية، إلا أننا للأسف الشديد نعيش في هذه المرحلة من تاريخنا هذه الظاهرة الكارثية، وهي أن هذه التنظيمات والجماعات تستثمر حالة الضعف والتردي التي عليها الدولة الليبية، وعجز الدولة وأجهزتها عن مواجهتهم والحيلولة دون ممارساتهم الإرهابية، فتسرح وتمرح في الساحة الليبية، بكل السبل والأساليب، التي بتنا نعيشها بألم بالغ، وعجز فاضح، في مختلف حالات العدوان والتهديد والاختطاف والقتل والتعذيب..إلخ.

وهنا آتي للسؤال الذي عنونت به مقالتي هذه: لمصلحة من يتم هذا؟ وهل أولئك الذين سمحوا للحملة ضد الأحزاب السياسية بأن تقوم، ثم شاركوا فيها وحرضوا عليها، كانوا على وعي بأن هذه هي النتيجة التي سوف تترتب على ذلك؟ أم أن الغالبية من المواطنين الذين انساقوا إلى تلك الحملة، وأخذوا يرددون شعاراتها وعباراتها، لم تكن تدرك الأبعاد الخطرة التي تنجم عن ذلك، وأهمها هذا البعد الذي نتحدث عنه الآن: أن تحارب الأحزاب السياسية السلمية، حتى تضعف وتضمحل، حتى تبلغ حد التلاشي والعجز التام عن البقاء، وأن تترك في مقابل ذلك الساحة مفتوحة تماماً للجماعات والتنظيمات المتشددة المتطرفة التكفيرية الإرهابية، تسرح فيها وتمرح دون حسيب أو رقيب، ودون وجود أي طرف قد يكون قادراً على مواجهتها والحد من آثار تسلطها وعنفها وإرهابها.

وهكذا فإني أخلص إلى التعبير عن قناعتي الراسخة بأنه لن يكون لنا أمل في التمكن من بناء مجتمع ديمقراطي، نتعايش فيها سلمياً، مهما اختلفنا فيما بيننا في الآراء والتوجهات الفكرية، إلا إذا عدنا إلى القناعة بأن العمل الجماعي المنظم في شكل أحزاب سياسية، تعمل في إطار القانون، وفي ظل الدولة والدستور، هو الأساس الذي لا غنى عنه لقيام البنيان الديمقراطي عليه.. فلا مجتمع ديمقراطياً بدون أحزاب سياسية، وبدون عمل سياسي منظم، يجد فيه المواطنون أطراً مناسبة، يوظفون من خلالها طاقاتهم، ويعبرون من خلالها عن قناعاتهم ومواقفهم، ويمارسون من خلالها حقهم المقدس في المشاركة في صنع القرار العام…

وإن علينا أن نعي تماماً خطورة الانزلاق إلى العودة إلى ثقافة المستبد التي عمل على ترسيخها في عقولنا ونفوسنا طوال سنوات حكمه، وهي ثقافة (من تحزب خان) و(الحزبية إجهاض للديمقراطية).. وإن علينا في مواجهة هذه الثقافة المدمرة للمبدأ الديمقراطي ذاته أن نرفع الشعار المقابل وهو (لا ديمقراطية بدون تعددية، ولا تعددية بدون أحزاب سياسية) و(إن الحزبية ليست خيانة، بل هي الحل).

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً