مجتمعات عدم اليقين

مجتمعات عدم اليقين

لم تعد حياتنا اكثر أمانا وأكثر سكونا ولم تعد الفصول السنة الأربعة هي الإيقاع الوحيد الذي يحكم حياتنا، لقد حلّ محلّها إيقاعٌ أكثر تعقيداً وهو اليقين المؤقت، والشك الكثير، وخوف من المستقبل، نحن نعيش اليوم في ما يمكن تسميته “مجتمعات عدم اليقين”، حيث تحولت حالة الشك من طارئ عابر إلى سمة دائمة، تطبع كل شيء من مستقبل الوظائف في ظل الذكاء الاصطناعي إلى استقرارنا الشخصي إلى التأمين الصحي والعلاج لأمراض العصر المتكاثرة.

ليست هذه الحالة وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمية لعالم قرر أن يتسارع دون أن يهتم بركابيه. لقد فاجأتنا الثورة التكنولوجية بتداعياتها الاجتماعية، وبموجة عالية خاصة على شبابنا وضربتنا الأزمات العالمية المتتالية من كرونا إلى المناخ إلى الحروب قبل أن نلتقط أنفاسنا من الصدمة السابقة.

وغرقنا في فيضان من المعلومات التي أتت إلينا مزدوجة، حقائق ونقيضها، أدلة وشكوك، لقد صرنا نعيش إحساساً بأن الأرض تحت أقدامنا لم تعد ثابتة. حتى السرديات الكبرى التي كنا نرتكن إليها مثل سردية التقدم والاستقرار والازدهار المطرد بدت وكأنها تتراجع، تاركة فراغاً نفسياً نملؤه بقلق دائم.

تقدم لنا أعمال المفكر الهولندي جيرت هوفستيد ( الذي أشرت له في مقال سابق بعنوان “مسافة السلطة” ) تقدم رؤية ثاقبة لفهم استجابتنا الجماعية لهذا الضباب ففي نظريته الشهيرة عن الأبعاد الثقافية، يضع هوفستيد بعد “تجنب عدم اليقين” كأحد الأسس الرئيسية التي تختلف فيها الشعوب. يُقاس هذا البعد بمدى قدرة أفراد دولة ما على تحمل المواقف الغامضة أو غير المؤكدة، ومدى حاجتهم العاطفية إلى قواعد واضحة وهياكل مستقرة لتجنب القلق الناجم عن المجهول.

وهكذا تحول القلق من ضيف عابر إلى رفيق دائم ، نلمس أثره في قرار التجميد الذي يتخذ الكثيرون، خوفاً من خطوة كبيرة كشراء بيت أو تغيير مهنة، في عالم قد ينقلب غداً كما نراه في ذلك الإرهاق الغامض الذي يصاحب أي حديث عن المستقبل ، ونجده في الميل إما إلى الاستقطاب والالتفاف حول الخطابات الأكثر تشدداً لأنها تقدم وعوداً وهمية باليقين أو في الانكفاء على الذات والهويات الفرعية بحثاً عن ملاذ آمن. الأدهى أن الثقة نفسها تتداعى، فلا نثق بالغد، ولا بالحكومات ولا أحياناً بالخبر أو الخبير.

في مواجهة هذا الضباب، يبدو السؤال الملح، كيف نعيش؟ الجواب لا يكمن في انتظار عودة زمن اليقين الذي ربما كان وهمياً من الأساس، بل في تطوير أدوات جديدة للسير في الضباب فقد نحتاج إلى تعلم مرونة اكثر ، ومناعة تسمح لنا بتقبل عدم اليقين كجزء من معادلة الحياة، وليس ككارثة يجب تجنبها بأي ثمن.

وفي خضم هذا التقلب، قد نجد أن التمسك بما هو إنساني وجوهري التعاطف، التعاون المحلي، الصدق البسيط خاصة في محيط العائلة والقرية والمدينة وحتى القبيلة في جانبها الاجتماعي.

كما أن إعادة الثقة إلى المعرفة، ليس كمجموعة حقائق مسلَّمة، بل كعملية ديناميكية قائمة على الشك المنهجي والبحث الدؤوب، يمكن أن تشكل حصناً ضد الفوضى.

في النهاية، مجتمعات عدم اليقين ليست نهاية العالم بل هي عالم جديد نتعلم فيه المشي من جديد . بل وتعلم الشجاعة لبناء قارب متين نستطيع من خلاله الإبحار في بحر عاصف، وأن نتعلم، ربما للمرة الأولى، كيف نرقص مع الأمواج دون السقوط في المحيط . ونستعد لولادة انسان اكثر حكمة وأكثر إنسانية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

فوزي عمار

كاتب ليبي

اترك تعليقاً