معايير العزل السياسي لن تكون معاييرا للنزاهة والوطنية!

معايير العزل السياسي لن تكون معاييرا للنزاهة والوطنية!

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

إن مفاهيم ومصطلحات كثيرة ليس بمقدور احد أن يجزم القول على انه المسئول عن تعريفها وتحديد معانيها, فقط المدلول اللفظي المجرد للكلمة يمكن تأكيده من خلال الرجوع إلى قواميس اللغة التي تبين الاشتقاق الأصلي للكلمات ومن ثم تعطينا المعنى المتعلق بالدلالة اللفظية لكل كلمة. إن المفاهيم المرتبطة بمعاني الكلمات حينما تشكَل ما يسمى بالمصطلحات, وهو ما اتفق عليه من ذوي الاختصاص الواحد للدلالة على مفهوم محدد لكلمة أو عبارة  ما, يصعب كثيرا أن يتحدد مدلولها اللفظي حينما نسقطه على الأشخاص ليكون بمثابة الصفة المقرونة بهم والتي واقعيا يستحيل قياسها بدقة ولذلك تبقى تلك المفاهيم نسبية القياس والمعيار.

لو سحبنا ما ذكر أعلاه على مصطلح أو كلمات مثل الوطنية والنزاهة والأمانة والإتقان.. الخ لوجدنا أن هذه الكلمات غير محددة المفهوم  ويصعب قياسها ومعايرتها حين تقترن بالبشر في أعمالهم وأدائهم على كل المستويات الفردية والجماعية لهذا ليس ممكنا مثلا قياس معايير الوطنية للأشخاص أو نزاهتهم بمنأى عن ظروف ومتطلبات الزمان والمكان. ليس  صحيحا أن نصف جزافا أي كان بصفة الوطنية او ننزعها عنه  او النزاهة او عدمها دون إخضاعه لتدقيق فعلي يستهدف سيرته وعمله,  فاختلاف زوايا النظر لدى الأفراد يجعل كلمات مثل الوطنية او النزاهة فضفاضة المفهوم وغير محددة

يمكن ان تحدد معايير للوطنية او النزاهة حين يحدث اتفاق عام عليها ويشترط لذلك أن يتوافق الأغلبية من الناس المكونين للبيئة الواحدة وان تتضمن تلك المعايير كل ما يمكن قياسه في أداء وسلوك المعنيين والذي يكون مؤكدا استنادا الى الضوابط بأنه انحراف او تجاوز او تهور او تقاعس او إهمال غير مبرر تحت اي ظرف. عندئذ يكون سهلا وضع آلية تضمن التدقيق النزيه الذي يفضي الى قياس معدلات الانحراف ليتم من خلالها محاسبة المخالفين وفق ماهو مقرر. ويحدث بذلك رأي عام يتشكل من خلاله الالتزام الأدبي والذاتي من الجميع بما يوفر ضمانات النجاح للتطبيق على ارض الواقع.

ان المعايير التي تحتكم إليها  هيئة تطبيق معايير النزاهة والوطنية الآن ليست كلها تتعلق بالنزاهة والوطنية لان الذين كوَنوا هذه الهيئة اندفعوا تحت تأثيرات مشحونة بالعواطف الجياشة كردود أفعال للثورة حينما قضت على نظام القذافي! أولئك ربما خانهم التفكير النيابي عن الشعب حينما ادعوا أنهم يمثلونه ويعبرون عن تطلعاته وأهدافه لكنهم تحت تأثير عاطفي اختزل الوطنية في مجرد القبول بالعمل مع نظام القذافي!. نحن فعلا في حاجة الى ما يضبط هذه المرحلة الانتقالية لكن ليس بهذا المستوى من التعميم والتسطيح والاختزال!,فليس مقبولا ان تختزل الوطنية والنزاهة في أضيق حدودها ليتم الحكم على كل من كان عضوا في اللجان الثورية او تقلد منصبا في عهد القذافي بأنه ليس وطنيا او نزيها! حتى وان لم يرتكب جرما او انحرافا يقرَه القانون والعرف!.

كان بالإمكان تسمية هذه الهيئة وهو الأنسب “بهيئة تطبيق معايير العزل والإقصاء لكل من عمل مع نظام القذافي” عندها ليس محرجا أن يتم إبعاد او إقصاء كل من عمل مع القذافي, بغض النظر عن ارتكابه مخالفات او عدمه! وربما يكون هذا ضروريا في المرحلة الانتقالية حفاظا على زخم الثورة وعنفوانها لكن ليس مقبولا ان يتم الإقصاء على نفس هذه المعايير الضيقة من هيئة تسمى هيئة النزاهة والوطنية!. فرق بين ان يجد المرء نفسه مبعدا لعدم انطباق معايير النزاهة والوطنية عليه وبين ان يبعد لأنه عمل مع نظام القذافي! فهل يفهم العقلاء؟! ارجو ان تفهم الفكرة بروح وطنية صادقة.

ليس ممكنا التحقق من نزاهة الأشخاص وخلوهم من المخالفات والعيوب الإدارية والمالية وغيرها بدون الرجوع الى ملفاتهم وتأكيد انحرافهم وفق القوانين من خلال جهاز القضاء والعدل. ان الطعن في وطنية ونزاهة الأفراد فقط لمجرد انتمائهم الفكري او عملهم داخل نظام القذافي الذي كان متحكما في ليبيا طيلة أربعة عقود ونيف ليس كافيا وغير مقبول. ان المرحلة تتطلب الإنصاف وتجاوز مظالم الماضي في جو ديمقراطي ودَي بحيث نقول للمسيء أسأت وتستحق العقاب, وللمحسن أحسنت وتستحق الثواب. فما أحوجنا اليوم الى ما يقرَب الليبيين من بعضهم  ويدفع الى المصالحة والتوافق الاجتماعي  لا أن نكرس الفرقة والحساسية  من خلال إجراءات مرحلية غير مدروسة وغير محسوبة العواقب. ياسادة نحن في حاجة الى من يضمد الجراح لا الى من يعمقها! فهل من يعي؟!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً