معجزة القرآن الكريم.. الإنباء التاريخي والمستقبلي

معجزة القرآن الكريم.. الإنباء التاريخي والمستقبلي

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي

أنزل الله سبحانه القرآن العظيم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام، وكان هذا الكتاب معجزته صلى الله عليه وسلم الكبرى التي وقع بها التحدّي، وبقيت على مرّ الزمان، وخوطبت بها البشرية جمعاء، ، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعْطِيَ من الآيات ما مِثْلُهُ امَنَ عليه البَشَرُ، وإنّما كانَ الذي أُوْتِيْتُهُ وحياً أَوْحَاهُ اللهُ إليَّ، فأرجو أنْ أكونَ أكثرَهم تَبَعاً، يومَ القيامةِ»، فتحدى الله سبحانه وتعالى العربَ بأن يأتوا بمثل هذا القران.

قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا*} [الإسراء: 88].

وتنزَّل معهم في التحدّي، وطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مِنْ مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*} [هود: 13].

ولمّا عجزوا عن ذلك، وظلّوا على عنادهم واستكبارهم، زادهم تحدياً بأن يأتوا بسورة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*} [يونس: 38].

وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*} [البقرة: 23 ـ 24].

وظلَّ التحدي قائماً منذ ذلك الحين، عجزَ عنه فصحاءُ العرب وبلغاؤهم وعجزتْ عنه البشريةُ كلُّها على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، وإنهم لعاجزون حتى قيام الساعة، فقد كان أولى الناس بالردّ على التحدي أولئك الذين كانت صناعتهم الفصاحة والبلاغة يتيهون بها على الناس.

ولقد كانت معجزاتُ الرسل كلهم مِنْ قبلُ معجزاتٍ حسيةً وكونيةً، تتعلّق بالسنن الجارية في الكون وتخرقهَا، فمعجزتا نوح وهود عليهما السلام كانتا حسيتان كونيتان، ومعجزة صالح عليه السلام كانت ناقة عجيبة لم يعهد البشر لها مثيلاً.

وكذلك كانت معجزات موسى وعيسى عليهما السلام التي أشرنا إليهما انفاً، أشياءَ خارقةً للسنن الكونية.

أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معجزةٌ عقليةٌ معنوية جامعة، وليست معجزةً حسية ولا كونية، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاتٌ أخرى حسية وكونية، كالإسراء والمعراج، وانشقاق القمر.. إلخ، ولكن المعجزة الكبرى التي وقع بها التحدّي، والتي بقيت على الزمن وخوطبت بها البشرية كلها هي القران. (كائز الإيمان ص 373).

وإعجازُ القران الكريم، لا يقتصرُ على ناحيةٍ معينةٍ، ولكن يأتي من نواحٍ متعددة، لفظية، ومعنوية، وروحية، وعلمية، وتشريعية، وقد اتفقت كلمةُ العلماء، كما يقول الشيخ خلاّف، على أنّ القران لم يعجزِ الناسَ على أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة، وإنّما أعجزهم من نواحٍ متعددة لفظية ومعنوية وروحية، تساندتْ وتجمّعتْ، فأعجزت الناسَ أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضاً على أنّ العقول لم تصل حتى الان إلا إدراك نواحي الإعجاز كلّها، وحصرها في وجوه معدودةٍ، وأنّه كلّما زادَ تدبّر سننه أظهر مرُّ السنين عجائبَ الكائنات الحية وغير الحية، وتجلّت نواحٍ من إعجاز، وقام البرهانُ على أنه من عند الله. (علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف ص 57).

1 ـ الإعجاز اللغوي:

قد بلغت بلاغةُ القران، وجزالةُ ألفاظه؛ وروعةُ أساليبه، وإحكامُ نظمه درجةً بهرت العرب، وأدركوا أنَّ هذا الكلام الذي يسمعوه لا يشبه الشعر الذي يقرضونه، ولا النثرَ الذي يتعاطونه، وقد شهد بذلك الوليد بن المغيرة، حينما بعثتْ به قريشٌ ليحاجَّ الرسول (ص)، فعاد إليهم قائلاً: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكُم رجلٌ أعلمُ بالشعر مني، لا برجزِهِ ولا بقصيدِهِ، ولا بأشعارِ الجنِّ، والله ما يشبه هذا الذي يقولُ شيئاً من هذا، واللهِ إنَّ لقوله لحلاوةٌ، وإنَّ عليه لطلاوةٌ، وإنّه لمثمِرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليَحْطِمُ ما تحته.

ويظهر هذا الإعجاز اللغوي في تنوّع أساليب القران في العرض وفقاً لتنوّع الموضوع النفسي المصاحبِ له، فيشتدُّ أحياناً، فيهزّ المشاعرَ والحواس، كما في مواقف الوعيد والعذاب، مثل قوله تعالى: {سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ*} [الحاقة: 30 ـ 32].

بينما يلين الخطابُ، ويرقّ، ويلطفُ في مواقف الرحمة والرفق والدعاء، مثل قوله تعالى: {كهيعص *ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًا *وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا*} [مريم: 1 ـ 6].

كما يتميز بعرضه الحي للمشاهد والأحداث، وقصص السابقين، ومشاهد القيامة، إذ تمتلئ بالحركةِ وروعة التصوير التي ينفعلُ بها الإنسان، وتهتزّ لها مشاعره. (العقيدة الإسلامية، ص 259).

وقد كتب كثير من العلماء قديماً وحديثاً، في أوجه إعجاز القران من ناحية البلاغة والأسلوب، كما حاول بعضُ العرب قديماً معارضة القران، فجاء كلامهم ساقطاً مضحكاً، جعلهم موضعَ سخريةٍ بين قومهم، وأكد إعجاز القران، فبضدِّها تتميزُ الأشياءُ.

2 ـ الإخبار عن أحوال الأمم السابقة:

قد وردَتْ في القران أخبارٌ عن أمم بادت، وشعوب هلكت، من أمثال: عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم نوح، وإبراهيم، وقصة موسى وقومه، وفرعون وملئه، ومريم وولادتها المعجزة للمسيح، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت متوافقةً مع ما توصّل إليه الإنسان من اكتشافات تاريخية عن تلك الأمم، ومتفقة مع ما صحَّ وكان معقولاً من الروايات التي وردت في كتب أهل الكتاب، وقد ورد هذا كله من أمَّي لا يقرأ ولا يكتبُ، ولم تكن بيئته بيئةَ علمٍ وكتابٍ، ولم يجلسْ إلى معلّمٍ يتلقّى منه، فكان ذلك دليلاً قوياً على أنَّ ما جاء به محمد (ص) هو وحيٌ من عند الله تعالى، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ*} [العنكبوت: 48].

ولما تحيّر الجاحدون، ولم يستطيعوا الطعنَ فيما أخبر به الوحي الإلهي، افتروا الكذب، وادعوا أنّه يعلِّمه بشرٌ، ولم يجدوا بمكة إلاّ فتًى رومياً لا يُحْسِنُ العربية، ولا يعلمُ من الأخبار وقصص الأولين شيئاً، ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ*} [النحل: 103].

3 ـ الإخبار عن أحداث غيبية أو مستقبلية:

من وجوه الإعجاز القرآني إخباره عن أمور غيبية أو أحداث مستقبلية لم يتوقع حدوثه آنذاك، بل إنّ حدوثها بالصورة التي أخبر عنها القران كان مستبعداً، لا تدل عليه القرائن والأحوال الظاهرة، فجاءت كما قرر القران الكريم وأخبر، ومن ذلك:

أ – إخباره بانهزام الفرس على يد الرومان، بعد أن هزموا الرومان هزيمةً ساحقةً، قال تعالى: {الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*} [الروم: 1 ـ 4].

فوقع الأمر كما أخبر القران، فهزم الرومُ الفرسَ، مع أنَّ ضَعْفَ الدولة الرومانية انذاك يجعلُ مثل هذا النصرَ بعيداً.

ب – وقد وعد الله المؤمنين بالنصر في غزوة بدر الكبرى، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ*} [الانفال: 7]، وقد تحقّق النصرُ الباهرُ مع قلة عددِ المسلمين وعُدْتهم.

ج – كما وعدَ سبحانه وتعالى المؤمنين بدخول المسجد الحرام: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا*} [الفتح: 27].

د – وقد تحقق وعد الله فتم للمسلمين دخول المسجد في فتح مكة، وقد وعد الله المؤمنين أن يستخلفهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55].

وقد تحقق وعد الله، فاستولى المسلمون في حياة الرسول (ص) على كلِّ بلاد العرب، ودانت جميعُها للمسلمين، وتجاوزَ أصحابه حدودَ الجزيرة، واستولوا على أرضِ فارس وما وراءها، ومدّوا سلطانهم عليها، وساروا إلى أرض الروم، فاقتطعوا منها الشام كلّها ومصر.

وأخيراً فقد تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا القران من التحريف، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*} [الحجر: 9]. وقد صدق هذا الخبرُ وتحقق، فمازال القرانُ محفوظاً من التغيير والتبديل إلى يومنا هذا، رغم تطاول الزمان، وتقلّب الأحوال بالمسلمين، وسيبقى كذلك بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة. (العقيدة الإسلامية، ص 261).

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” الإيمان بالرسل والرسالات”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  1. ركائز الإيمان، محمد قطب.
  2. علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف.
  3. تفسير المنار، محمد رشيد رضا.
  4. الإيمان بالرسل والرسالات، د. علي محمد الصلابي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي

اترك تعليقاً