مهلكات الازدهار الست

مهلكات الازدهار الست

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

“عندما تسود المدنية الحقة في اي دولة فإن
حياة افضل تتاح لكافة ابناء الشعب”
نيال فيرجسون [1]

اذكر ذات مرة سألت زميلة من البرتغال عن تعدد السكان في بلدها ، فاجابت ان عدد سكان البرتغال في حدود 10 مليون نسمة. لا انكر اني فوجئت بجوابها، فتقدير بسيط لعدد سكان البرتغال ابان حقبة المستعمرات لا اعتقد انه قد يتجاوز 2 مليون نسمة، والسؤال: كيف استطاع هذا العدد القليل ان يحتل جزء من امريكا الجنوبية وقطع كبيرة من افريقيا وجزر جنوب شرق اسيا بهذا العدد البسيط من السكان؟. ضل هذا السؤال موضع حيرة بالنسبة لي حتى وقت قريب، إذ ارسل لي استاذي الفاضل الدكتور جمال الدين خليل([2]) رابط من موقع يعرف باسم تيد([3]) يهتم بنشر المعرفة، يحتوي على محاضرة([4]) القاها مؤرخ بريطاني معروف ومشهور يدعى نيال فيرجسون

يعتقد المؤرخ فيرجسون في كتاب([5]) له بعنوان “الحضارة: الغرب والاخرون” أن العالم يعيش مرحلة نهاية هيمنة الحضارة الغربية وصعود الحضارة الصينية، ويتسأل في كتابه – ليس عن إمكانية حدوث صدام بين الشرق والغرب، لكن – حول الاحتمال المفاجئ لانهيار الغرب. فهو يعتقد بان كل الحضارات التليدة انهارت بشكل مفاجئ، ويورد مثال الحضارة الرومانية التي انهارت بشكل كامل خلال عقود قليلة لا تتجاوز الثلاث عقود([6]). ويحدر من ان الاداء الجيد الذي تعمل به انظمة الغرب ليس الا مظهر، لكن واقع الحال يخالف ذلك فمرحلة التحول من التوازن الى الانهيار قد يسببها اضطراب بسيط، الازمة المالية كفيلة بفعل ذلك.

قرأءت نيال فيرجسون للتاريخ دقيقية وواقعية، لذلك نال تقة رجال السياسة واصبح مؤثر في مشوراته، وقد استعان به الجمهوري جون ماكين في حملته الانتخابية ضد الديمقراطي اوباما، وكان مؤيد له تم تراجع عن تأيده لماكين وانحازا الى اوباما في انتخابات الرئسة الاميريكية العام 2008. كان من مؤيدي حرب العراق وحجته كما اوردها في لقاء صحفي([7]) “جيد ان نجلس هنا في الغرب نتمتع بالدخل العالي والحياة السهلة، تم نقول ليس من الاخلاق ان ننتهك سيادة دولة اخرى. إذا كان التدخل سيؤدي الى الرفع من المستوي الاقتصادي والمعيشي للعراقيين، فلا يجب ان نتجاهل التدخل”.

وقد تأثر وزير التعليم البريطانى مايكل چوف بمحاضرة القاها فيرجسون عن تدريس التاريخ، وأدرك أهمية ملاحظاته كمؤرخ، فقرر تشكيل لجنة من كبار المؤرخين لاعادة النظر فى منهج تدريس التاريخ في بريطانيا.

كان من اوئل من تنبه الى احتمالات انهيار النظام القتصادي العالمي والازمة المالية التي يعاني منها العالم الان في احدى مقالته الصحفية في العام 2006 و تفاقمت الازمة وانفجرت في سبتمبر 2008 بانهيار بنك الاخوة ليمان.

كتاب :الحضارة: الغرب والاخرون”([8]) يحاول فيه المؤلف ان يجيب عن سؤال مهم: لماذا استطاع الغرب ان يسيطر على العالم ويتحكم في شعوب الكثير منها اكثر عددا واعظم حضارة؟ انه نفس السؤال الذي راودني شخصيا وافتتحت به هذه المقال.

في محاضرة([9]) رئعة القاها الاستاذ فيرجسون عن موضوع كتابه تحدث عن ما سماها “The 6 Killer of prosperity”. بداء محاضرته بالحديث عن البلايين، بلايين البشر وبلايين الدولارات. قال ان تعدد سكان الارض منذ ان بدأت الخليقة حتى الان وصل الى 109 بليون نسمة، من منهم على قيد الحياة لا يتجاوز 6% من هذا العدد، 60% عاشوا في اسيا، وجلهم كانوا او مازالوا فقراء، ولم يعمر طويلا!.

بالنسبة لبلايين الدولارات، فقد قدرت ثروات العالم بما يزيد عن 195 الف بليون دولار، ويقول ان جل هذه الثروة جمعت بعد العام 1800 م (هذا له دلالاته كما سنرى)، وجلها تقع في قبضة الغرب، إذا ان 19% من سكان العالم هم من الغرب (ليس الجغرافي بالطبع، وانما السياسي) ويملكون 80% من ثروات العالم.

في الاحصائية التي عرضها على الشاشة، اورد مقارنة عن الدخل القومي للفرد بين امريكا والصين من ناحية وبين بريطانيا والهند من ناحية اخرى. منحنى الدخل يتناول الفترة الزمنية من العام 1500 م وحتى العام 1970. خلال الفترة بين 1500م و1800 م تكاد تكون الدخول متقاربة بين الاسيويين ونظرائهم الامريكان والبريطانيين، وفي المتوسط كان الصيني اغنى من نظيره الامريكي. ثم انقلب الميزان، اذا اصبح دخل الانجليزي يفوق نضيره الهندي عشرة اضعاف، ويفوق الامريكي نظيره الصيني بعشرين ضعفا!! أليس هذا تفاوت مخيف يحتاج الى تفسير؟؟؟!!!.

فيرجسون لا يرد هذا الامر الى اسباب اقتصادية صرفة، بل يرجح ان يكون خلفها اسباب سياسية بامتياز.

يقول ان الدول العشرة التي قادت فيما بعد عملية الاستعمار كانت في الحضيض قبل العام 1500م، وكانت تملك فقط 5% من مساحة الارض، وشريحة سكانها لا تتجاوز السدس ودخلها المحلي يقل عن خمس الدخل العالمي، بعد العام 1913 اصبح الغرب يسيطر على ما يقرب من 60% من الاراضي واصبحت ثرواته تفوق ثلاث ارباع الدخل العالمي، في حين تعداد سكانه لم يزيد عن ربع سكان العالم.

من اللافت للنظر انه لم يحمل الاستعمار وزر التفاوت في ترواث العالم وحظ الشعوب من هذه الثراوت – وهو محق في ذلك – فقد فند ان يكون الاستعمار السبب، اذ ان العالم اجمع مارس الاستعمار لحقبة من حقب التاريخ، فالماغول والاتراك كما يقول ايضا مارسوا الاستعمار هذه حقيقية. وزاد على ذلك بالقول ان الاختلاف في حظ الشعوب من الثروات تفاقم بعد مرحلة الاستعمار.

هذا السؤال المطروح والذي نحاول ان نجد جوابا له سبق وان طرحه صمؤيل جونسن([10]) في روايته امير الحبشة، حيت طرح السؤال على لسان الامير في صيغته التالية ” كيف توصل الاوربيون الى القوة، كيف لهم ان يستطيعوا ان يذهبوا لزيارة بلدان اسيا وافريقيا لغرض التجارة وللاحتلال؟ الا يستطيع الافارقة والاسيويين صنع ذلك؟ اليست الرياح التي تجلب سفنهم الينا قادرة على حملنا الى شواطئهم؟”

ايضا، كما ورد في المحاضرة، فان عالم تركي يدعى ابراهيم موتيفريكا([11]) وهو مسئول عثماني واول من ادخل الصحافة الى تركيا، يتسأل “كيف تمكنت الامم النصرانية التي كانت ضعيفة مقارنة بامم الاسلام من استعمار الكثير من الدول، وتمكنت ايضا من هزيمة جيش الدولة العثمانية القوي؟”، وقد كان جوابه كالتالي: “لان هذه الامم لها قوانين ولوائح ومؤسساسات صنعت بعقل ومنطق”

الاقتصاد لم يكن السبب، والجغرافيا ايضا لم تكن السبب، فمؤرخنا لا يؤمن باختلاف العرق او الجغرافيا في اختلاف الاداء للبشر. وقد اشار الى ان العلماء استطاعوا ان يتحققوا من اهمية الجغرافيا في رفاهية العالم المرفه. فتحدث عن تجربة الالمان مثلا، لقد قسمت المانيا بعد الحرب الى دولتين المانيا الشرقية والمانيا الغربية، وفي حين استطاع الالماني الغربي في فترة قياسية ان يخترع سيارة مرسيدس مفخرة صناعة السيارات انتج “اخيه” الالماني الشرقي سيارة “ترابانت” وهي سيارة شبيه جدا بسيارة الاودي السوفياتية بل نسخة متخلفة عنها وليس من سوء القصد ان تنعت بانها اسواء سيارة في العالم.

ليست المانيا استثناء، كوريا قسمت ايضا الى دولتين فكان الاختلاف رهيب بين الدولتين. هكذا، نستنتج إذا ان الجغرافيا والعرق لا يمكن ان يكونا عاملان قادران على ان يجيبا عن سؤال اختلاف الرفاهية.

اسباب الرفاهية كما يسطرها الاستاذ المؤرخ هي ست اسباب غيابها قاتل كالتالي:

السبب الاول- المنافسة: اوربا كانت مقسمة سياسيا الى العديد من الممالك والجمهوريات، ومنقسمة بالداخل الى العديد من الشركات المتضامنة والمتنافسة ايضا، الكثير من هذه الكينونات كانت اسلاف المؤسسات الاقتصادية الحالية. التنافس بين هذه الدويلات وهذه الشركات فيما بينها اصبح عماد الاقتصاد الحالي. هذه الحالة لم تكن في الصين مثلا.

السبب الثاني – الثورة العلمية: يرى الطفرة العلمية التي تحققت في القرن السابع عشر في الرياضة والكيمياء والفيزيا والاحياء والفلك جلها حدث في الغرب. ويرى فيرجسون ان الفضل في هذه الطفرة يعود بالدرجة الاولى الى التجربة وتكريسها في العلم، ويعتبر فضل السيطرة في الطبيعة يعود الى العلوم التجريبية التي سادت اوربا. ويشير بالمقابل الى فشل الامبراطورية العثمانية القوية التي لم يتطور فيها العلم التجربي، بل سعت الى القضاء عليه، وقد اشارا الى هدم الاتراك لالة الرصد التي صممها العالم تقي الدين الشامي([12]) لانهم اعتبروها تجسس عن ذات الله.

السبب الثالث – حقوق الملكية: حكم القانون والحكومة البرلمانية تعتبر نظام اجتماعي سياسي مثالي ادخل الى العالم المتحدث بالانجليزية، ومؤسس على حقوق الملكية الخاصة، وتمثيل اصحاب الاملاك في الهيئات التشريعية. ويبين المحاضر الفرق بين ملكية الارض في الامريكتين وانعكاسها على الرفاهية. ففي حين انتقلت ملكية الارض في امريكا الشمالية الى اصحابها الذين عمروها وساهموا في اقتصاد البلد، فان الارض في امريكا الجنوبية هي ملك لافراد قلائل من الاسبان الاغنياء. يضيف في هذا الصدد عبارة شهيرة للمفكر الانجليزي جون لوك حيث يقول “الحرية نبعث وترسخت من حقوق الملكية الخاصة[13] وحماية القانون”

السبب الرابع – الطب الحديث: الطفرة العلمية التي تحققت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مجال الطب والرعاية الصحية تحققت على يد الغرب. هذا الامر ضاعف من عمر الانسان ومن بنيته الجسدية وكفائته الانتاجية، ومن السهل التحقق من ذلك بمقارنة متوسط الاعمار في الدول الفقيرة وفي الدول الغنية، ففي الغرب يصل متوسط العمر الى 80 سنة، في حين لا يتجاوز 50 سنة في الدول الافريقية الفقيرة. هذا يعني ان المواطن في دول الغرب قادر على ان يساهم في العملية الانتاجية لمدة تزيد عن خمسين سنة، اي مدة تعادل متوسط اعمار مواطني الدول الفقيرة.

السبب الخامس – المجتمع الاستهلاكي: الثورة الصناعية حدتث في الاماكن التي تزاوج فيها التقنية التي عملت على تحسين الانتاج والمطالب المتزايدة على مواد اكثر جودة وارخص سعرا. الاستهلاك هو الدافع للنموء الاقتصادي، وتحريك دورته.

السبب السادس- أخلاقيات المهنة: الدول الغربية من اول الدول التي عملت على دمج قدرات العمل مع معدلات التوفير العالية، بالتأكيد هذا يزيد من قدرة الشخص على الاستهلاك ويساهم في انماء الثروات. أخلاقيات العمل ليست حكرا على المجتمعات البروتستانية كما كان يضن الاقتصادي الالماني ماكس فيبر، الا ان البروتستانتية([14]) دفعت الناس الى التعليم، لانها اكدت على حاجة المؤمنين الى قرأت الكتاب المقدس. كل الحضارات والثقافات قادرة على ان تكرس اخلاقيات العمل في مجتمعاتها في حال تواجدت بها المؤسسات، المؤسسات القادرة على خلق الحوافز.

وفي ختام المحاضرة، يرى المؤرخ نيال فيرجسون ان العديد من الشعوب اصبحت الان تملك اخلاقيات العمل وتبني المؤسسات الفاعلة، ويقول ان الفجوة في التعليم كما بينتها دراسة عن مؤسسة البرنامج الدولي لتقييم الطلاب بين شنغهاي والولايات المتحدة كبيرة جدا كالفجوة بين والولايات المتحدة والبانيا. ويقول ان الشرق ( نحن لا ننتمي الى الشرق الذي يقصده) متقدم جدا عن الغرب في مجال براءات الاختراع.

ويوافق مؤرخنا السياسي المشهور تشرشل في تعريفه للحضارة التي يصفها كالتالي:” مجتمع مؤسس على اراء المدنيين يعطي مكان للبرلمان حيث يصاغ القانون ويدعوا الى استقلال القضاء، ومع مرور الزمن تستمر تلك القوانين وتبقى، في هذه البئة تزدهر الحرية والثقافة والاقتصاد”

اين تكمن الاولويات في البناء؟ سؤال ربما يصعب الاجابة عليه من الوهلة الاولى، لكن نظرة متفحصة في حديث مؤرخ عبقري ستقودنا الى ادراك ان اولى الاولويات يكمن في بناء مؤسسات مستقلة، المؤسسات وحدها قادرة على انتاج الدولة. عندها فقط تسود المدنية الحقة وتتحقق حياة افضل لكافة ابناء الشعب.

والله من وراء القصد

اميس انتمورا

——————————————-

[1] ) أستاذ كرسى فى التاريخ وفى كلية إدارة الأعمال فى جامعة هارفارد، وزميل رفيع المستوى فى معهد هوفر بجامعة ستانفورد.

[2] ) استاذ باحث في جامعة واشنطن خبير مجسات الضغط والضواء

[3] ) http://www.ted.com

[4] ) http://www.ted.com/talks/niall_ferguson_the_6_killer_apps_of_prosperity.html

[5] ) صدر عن دار بنجوين للنشر العام 2011

[6] ) https://www.mauldineconomics.com/images/uploads/pdf/mwo030512.pdf

[7] ) http://www.guardian.co.uk/books/2011/feb/20/niall-ferguson-interview-civilization

[8] ) الحقيقة لم اطلع على الكتاب كامل، لكن قرأء ت بعض صفحاته على الرابط التالي: http://www.slideshare.net/proactivebrand/civilization-the-west-and-the-rest-niall-ferguson

[9] ) http://www.ted.com/talks/niall_ferguson_the_6_killer_apps_of_prosperity.html

[10] ) صمؤيل جونسون، اذيب وشاعر وناقد انجليزي، كتب رواية امير الحبشة في العام 1759 ، ويقال انه اتمها في اسبوع واحد، وكان قد كتبها في هذا الوقت القياسي حتى يتمكن من دفع نفقات جنازة والدته.

[11] ) لللاسف لم اعتر على اي معلومة بخصوص هذا العالم، وقد خاب املي في محرك الجوجل لاول مرة، وارجوا ممن يملك معلومة عن هذا العالم ان يسعفنا بها، فقد كان وجيه في طرحه.

[12] ) تقول عنه الويكيبيديا انه دمشقي المولد سوري الاصل عاش في اسطنبول، متعدد المعارف، الف اكثر من 90كتابا لم ينجو منها الا 24 كتابا فقط.

[13] ) بالامكان ان نفهم لماذا يستهدف المستبدين الملكيات الخاصة، ان الملكية الخاصة تعبير عن الحرية التي يمقتها الاستبداد.

[14] ) http://www.chathamhouse.org/sites/default/files/19251_090511ferguson.pdf

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

اترك تعليقاً