هل المركزية مؤامرة ضد وحدة الوطن؟

هل المركزية مؤامرة ضد وحدة الوطن؟

منذ مرحلة مبكرة، وخاصة بعد التحرير، وقرار المجلس الوطني نقل مقره وأعماله إلى العاصمة طرابلس، وانتقال المكتب التنفيذي وراءه إلى هناك، أخذت مقاليد الأمور تتركز تماماً في العاصمة، وأخذت مظاهر مركزية إدارية قاتلة تبرز وتترسخ في مختلف مجالات الحياة  والخدمات.

ولقد ملت أنا شخصيا إلى النظر إلى هذه المظاهر السلبية باعتبارها نتائج وآثاراً لسياسات مؤقتة، ترتبط بالظروف والملابسات التي يتحرك فيها المجلس الوطني ومكتبه التنفيذي. وأنها يمكن أن تنتهي، ولو على نحو تدريجي، بمجرد تشكيل حكومة انتقالية، يعمل فيها عدد من أبناء الوطن ذوي الكفاءة والخبرة والجدارة، وفوق كل ذلك ممن يتصفون بالروح الوطنية العالية، التي لا تشوب انتماءها للوطن أي شائبة من عصبية قبلية أو نعرة جهوية وما إلى ذلك.

وكانت هذه هي الروح التي استقبلنا بها اختيار الدكتور عبد الرحيم الكيب، وتكليفه بتشكيل الحكومة الانتقالية الأولى. وعلى الرغم من أن التشكيلة التي انتهى إليها الدكتور الكيب لم تستجب للتوقعات التي كنا نعلقها عليها، من حيث إنها كانت حكومة مترهلة مثقلة بكثرة الوزارات، ومن حيث خضوع الدكتور الكيب لضغوط شتى، أدت به إلى الوقوع في منزلق المحاصصات الجهوية والعاطفية والقبلية، التي كان واضحاً أنها أثرت في اختياراته للأشخاص الذين كلفهم ببعض الوزارات، ولا سيما فيما يتعلق بوزارتي الدفاع والداخلية، إلا أننا لم نمل إلى الحكم عليها مسبقا، وقبل أن نتيح لها الفرصة لتحاول، ثم نرى إن كانت ستنجح أم ستفشل.

والحقيقة المؤسفة أن الوقت لم يطل بنا كثيراً حتى أخذنا نلمس ونشاهد بروز ملامح ومظاهر التخبط والعجز والفشل على أداء الحكومة، في مختلف المجالات، وربما لا يستثنى إلا بضع وزارات شهدنا لها ببعض الإنجاز الملموس.

ولكن ما يهمني التركيز عليه فيما يتعلق بالفكرة التي أريد التعبير عنها في هذا المقال، هو أن لاحظنا منذ مرحلة مبكرة أن الكيب وحكومته لا يفعلون أي شيء للتخفيف من حدة أو قبضة المركزية الخانقة التي ظل المواطنون في مختلف أنحاء البلاد، يعانون منها، وظل المواطن يحتاج إلى أن يتكبد مصاريف ومشاق السفر إلى طرابلس، كي ينجز إجراء إداريا معيناً، وظللنا نشاهد كيف توزع المصالح والخدمات على نحو متحيز بشكل مشبوه وغير مقنع، لصالح المواطنين في جهة ما، على حساب إخوانهم من بقية مناطق البلاد.

والحقيقة إننا ظللنا نحاول التحاور مع إخواننا المواطنين الذين شرعوا منذ مرحلة مبكرة ينادون بالتوجه نحو تبني النظام الفدرالي، انطلاقاً من رفضهم لمثل هذه المظاهر والممارسات التي تكرس المركزية، وتمارس ما بات يعرف بالتهميش والإقصاء، ونقول لهم إن هذه الممارسات مؤقتة، ومرتبطة بهذه الحكومة الانتقالية، وأنها سوف تنتهي وتزول حالما تتشكل حكومة وطنية مختلفة في آفاقها وكفاءتها وقدرتها على إنجاز الأهداف.

ولقد لاحظنا وعشنا كيف خفتت حدة التشنج على صعيد الدعوة للفدرالية، بعد انتخابات المؤتمر الوطني، وتفاءلنا بذلك خيراً، وأخذنا نتابع ونترقب ما تسفر عنه قرارات المؤتمر الوطني، معلقين بعض الآمال على حكومة جديدة مختلف، تنظر إلى الأمور –كما أسلفنا- نظرة وطنية عادلة وشاملة لكل أنحاء الوطن ومناطقة.

بيد أننا فوجئنا في هذه الأيام الأخيرة بحدثين مهمين دفعانا دفعاً إلى التفكير بأن الأمر ليس كما كنا نحسب دائماً، أنه مجرد تخبط وعدم معرفة، وأنه يقع من منطلق نوايا حسنة، لا شك في وطنيتها؛ حدثان لم نجد لهما أي تفسير أو مبرر معقول أو حتى شبه معقول:

الأول: ذلك الموقف الذي حدث بخصوص القرار الوزاري بفتح فرع للمؤسسة الوطنية للنفط في بنغازي، وما شاهدناه من خروج عدد من المنتسبين إلى المؤسسة في طرابلس يطالبون بإلغاء هذا القرار وعدم تفعيله.

الثاني: ذلك القرار الذي اتخذه عبد الرحيم الكيب بإلغاء أو تجميد تأشيرات الحج لحجاج عدد من مدن وقرى وواحات المنطقة الشرقية.

والحقيقة إني ذهلت من هذين الحدثين، ولم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير بأن المسألة هنا ليست بريئة، وأن ثمة ما أسميه مؤامرة حقيقية يمارسها عبد الرحيم الكيب، لا نعلم لصالح من بالضبط، لصب الزيت على النار، ومنح دعاة الفدرالية المزيد من الحجج والمبررات كي يدعموا دعواهم، ويروجوا لها عند سكان المنطقة الشرقية على وجه الخصوص.

ولقد لاحظنا ذلك منذ مرحلة مبكرة، ولكنا كنا نقاوم بشدة الانجرار إلى القول بنظرية المؤامرة، ولكن ما حدث فيما يتعلق بمؤسسة النفط، وما حدث بخصوص الحجاج، يدفعنا دفعا إلى الذهاب إلى هذا التفكير..ذلك أننا لا يمكن أن نقبل من الكيب أن يدعي أنه لا يدرك الأبعاد الخطرة لمثل هذه القرارات، ولا يمكن أن نقبل ألا يكون من بين أعوانه ومستشاريه ووزرائه من ينبهه إلى هذا، ناهيك عن أن يوقفه عند حده..

إن وراء الأكمة ما وراءها… وإن المسألة ليست بريئة مطلقاً، وإننا ننبه إلى خطورة ما يحدث، ونطالب المؤتمر الوطني بأن يفعل ما ينبغي لمساءلة الكيب ووزارته، واتخاذ ما يلزم لجعل مسألة محاربة المركزية إحدى أولويات الحكومة القادمة، بعد أولوية مواجهة المسألة الأمنية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً