هل للغة قدسية؟

هل للغة قدسية؟

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

هل اللغة مقدسة؟

بوضوح أكثر: هل توجد لغة مقدسة ولغة غير مقدسة؟

إذا طرح هذا السؤال على شخص يهودي لأجاب دون أن يعتريه شك بأن اللغة العبرية لغة مقدسة، ولو طرح على المسلم لما تردد في أن ينعث اللغة العربية بالقدسية. لكن لو طرح هذا السؤال على عربي غير مسلم لكن احتمال النفي والتأكيد وارد، فإذا كان الشخص نصراني متعصب فلا تستبعد أن يكون نفيه قاطع لأنه يتنكر لكل ما أتى به الإسلام، وإن غلبت عليه النزعة القومية فلا شك أنه لن يتردد في خلع ثوب القدسية على اللغة العربية التي يحبها ويحب قومها.

ماذا يحدث لو حاولنا أن نبحث عن دلائل القدسية في اللغة حتى نخلص إلى جواب قد نتفق عليه؟

لنبدأ أولا من تعريف اللغة نفسها، والحقيقة هناك فرق في استخدام مصطلح اللغة ومصطلح اللسان، إذ أن كل منهما قد يحيل إلى معنى مختلف بعض الشيء.

ورد في لسان العرب اللغو واللغا بمعنى السقط أي الشيء الذي لا يعتد به ولا قيمة له، وكذلك ما كان من الكلام غير معقود عليه. ومن مشتقاتها ملغي ومزال. وقد ورد قوله عز وجل: لا يُؤاخِذُكم اللهُ باللغوِ في أَيمانكم؛ وفسر اللغوُ في الأَيمان بما لا يَعْقِدُ عليه القلب مثل قولك لا واللهِ أو بالله عليك كم الساعة الآن، وقال الشافعي: اللغوُ في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه. ومن معاني مشتقات اللغة الخطاء فيقال ولغا في القول بمعنى أَخطأَ وقال باطلاً. والمعنى الاصطلاحي للغة هي أَصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أَغراضِهم، إلا أن هذا المعنى لا يعفي المصطلح من باقي معانيه الواردة أنفا.

في تعريف اللسانُ بضم النون هو جارحة الكلام أي أداته، وقد يُكْنَى بها عن الكلمة. وبكسر النون يعني اللغة أي أن لسانِ القوم يعني لغة القوم، يقول عز وجل: وما أَرسلنا من رسول إِلا بلسانِ قومه؛ أَي بلغة قومه.

والقدسية هي الطهارة، والقُدُّوس بضم الدال، هو الطاهر المُنَزَّه عن العُيوب والنَّقائص، ومن معانيها أيضا المتعالي فالقُدْس: هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزِّراعة. والتَقْدِيس: التَّطْهِير والتَّبْريك والقَدَس بفتح الدال السَّطْل بلغة أَهل الحجاز لأَنه يتطهر فيه. بيت المَقْدِس أَي البيت المُطَّهَّر أَي المكان الذي يُتطهَّر به من الذنوب. والقُدْسُ بمعنى البركة، يقول العرب لا قَدَّسه اللَّه أَي لا بارك عليه.

حسب علمي أن أول من جادل في قدسية اللغة، كان ابن حزم الظاهري رحمه الله حين تناول أفضلية اللغة العربية، وفي ما اعتقد الناس فيه بأن اللغة العربية هي أفضل اللغات لأن القرآن نزل بها وأن القرآن كلام الله لذلك فهي لغة مقدسة.

يقول ابن حزم إن هذا لا معنى له، لأن كلام الله نزل بكل اللغات، فقد أنزل صحف إبراهيم بالسريانية، وكلم موسى بالعبرية. وينفي ابن حزم وجود نص أو إجماع على أن لغة أهل الجنة عربية، ويذكر في كتابه الأحكام في أصول الأحكام طرفة جميلة حيث يقول إن اليهود يقدسون اللغة العبرية لأنهم يعتبرونها لغة الله ولغة الملائكة، وبالتالي هم لا يستعملونها إن أرادو الكذب أو الحلف على الباطل لاعتقادهم أن الملائكة لا تفهم إلا العبرية وبالتالي فلن تكتب عنهم الكذب أو الباطل إن صدر بلغة غيرها.

المحدد لقدسية اللغة إذا عند عامة الناس الذين يؤمنون بقدسيتها هي علاقاتها بعقائدهم وبما يؤمنون به، فالعبري يؤمن بقدسية العبرية لأنها لغة أنبيائهم، وقد يؤمن النصراني بقدسية اللغة الآرمية التي تحدث بها المسيح عليه السلام، ولا شك أن المسلمين يؤمنون بقدسية اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ويظل السؤال: هل ما يذهب إليه هؤلاء جميعا يستند إلى الحق أم أنه يصدر عن هوى النفس؟

إذا أردنا أن نتجرد من هوانا ونقترب من إيماننا فسنقر بأن العبرية هي أفضل اللغات!….. طبعا هذا الإقرار “خط أحمر” يستفز الكثيرين، لسبب لو فكر فيه الكثيرين لوجدوا بأن لا علاقة له بالإيمان بقدر ما له من علاقة بالعداء مع اليهود. نحن نكره اليهود وبالتالي فكل ما يمت لهم بصلة هو باطل حتى وإن كان مقدس، هذه مشاعري – وليست رأي – يشاركني في هذه المشاعر أمة تعدادها يفوق المليار. لكن، لو منحنا عقولنا ردهة من الزمن وفسحة للتفكير فسنكتشف أن القرآن الكريم أشار إلى أن الله كلم موسى (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا – النساء 164) (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسي إني أنا الله رب العالمين …. الاآة من 30 إلى 35 من سورة القصص)، كما أن الله سبحانه وتعالي ناول موسى الثوراة (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ – الأعراف 145) وهي مكتوبة بلا شك باللغة العبرية، إذا اللغة العبرية أفضل اللغات لأن الله تكلم بها وكتب بها.

أنا لست هنا لتنصيب اللغة العبرية كأفضل لغة، فلا ادعي علم يؤهلني لذلك حتى استند عليه لإقرار أمر كهذا، كما لا أملك الهوى الذي يجعلني أميل لهذا الرأي…. لكنها استنتاجات بسيطة، من ضمن الاستنتاجات التي تعودنا على وضعها دون التدقيق في حقائق الأمور.

لقد أوردت في بداية مقالي هذا تعريف لمعنى القدسية، ولكي يكون الشي مقدس لابد أن يكون كله طاهر منزه عن الدنس فهل نستطيع أن ننعث لغة ما بالطاهرة أو المقدسة؟ الحقيقة من غير الممكن فعل ذلك، إذ أن ذلك يتجافى مع معنى اللغة وطبيعتها، لأن اللغة كما جاء في شرحها المعجمي تقبل الخطاء والكذب والتدليس، وهي مصطلحات لا يمكن إدماجها في ثوب الطهارة. وإذا قلنا إن لغة ما هي لغة مقدسة فإن كل ما يكتب بها مقدس، ويصبح إقرارنا بأن اللغة العربية لغة مقدسة هو إقرار بأن مقالي هذا مقال مقدس لأنه كتب باللغة العربية!.

لا أجادل هنا في أهمية اللغة العربية وقيمتها الأدبية، لكني أردت أن اسقط أمرين من حساب اللغة العربية أو غيرها، أولهما ما ذهبت إليه وهو أن لا قدسية للغة في ذاتها، بل توجد نصوص مقدسة في لغات عدة، فاللغة تكتسب قدسيتها من النص المقدس ولا يكتسب النص قدسيتة من اللغة، النص القرآني باللغة الإنجليزية لا يفقد قدسيته لأنه كتب باللغة الإنجليزية، يضل النص مقدس. والأمر الثاني أهمية اللغة، فاللغة تكتسب أهميتها عن طريقين، الأول: تجدرها في ذاكرة المتحدثين بها، والأمر الثاني: تداولها واستعمالها في مقاصد الدنيا وتطويعها لمستجدات الحضارة.

لقد كان للغة العربية أهمية عظيمة حين ازدهرت الحضارة الإسلامية، فأصبحت لغة العلوم والهندسة والطب والفلسفة، إلا أن بريقها تلاشى مع انحطاط المسلمين، وتحولهم من خانة المبدعين إلى خانة المستهلكين التبع، ولولا الإسلام الذي حفظها لأصبحت اللغة العربية لغة مهمولة كاللغة الأمازيغية أو السويحلية. ومع الانحطاط الذي نحن فيه انحط قدر العربية مقارنة بلغات العالم المبدع، فأصبحت الإنجليزية لغة كل شيء حتى الطيور المدربة، أنك لن تجد ببغاء يقول “أهلا” أو “السلام عليكم”، لكن لا يدهشك أن الكثير من الببغاوات في حدائق ومنتزهات العالم يحيك بـ”Hello” و “Welcome”.

وفي الماضي كان هناك أهمية للغة اللاتينية فتجدرت مفرداتها في لغات العالم الحديث، فلا يخلو كتاب في الطب أو العلوم في كل لغات العالم الحديثة من مفردات لاتينية أو يونانية قديمة، إلا أن هذه اللغات التي تستخدم مصطلحات لاتينية أو إغريقية لا تفقد قيمتها لأنها استعانت بمصطلحات أجنبية، والسبب يعود أن هذه اللغات متجدرة في ذاكرة الأمم التي تتحدث بها.

وختاما، فاللغة تراث إنساني عظيم لا يستهان به، والتنوع الثقافي سنة من سنن الله على الأرض، ومن مجانبة الحق أن نعتقد بتفوق لغة على أخرى أو قدسية لغة دون سواها، أو أهمية لغة دون سواها. إن الذي يجعل للغة أهمية هو ناطقيها، أهمية اللغة ليست صفة ذاتية من صفات اللغة بل صفة مكتسبة، فالإنجليزية ليست مهمة في ذاتها ولكن في اتساع استعمالها، والإنجليز لم يفرضوا لغتهم على العالم، لكنهم بسبب تملكهم لمقدرات العلم والمعرفة أصبحت لغتهم لغة العالم، كما كانت العربية لغة العالم. ولو استطاع أي شعب أن يستنهض هممهم فستتبواء لغاتهم الصدارة، ولو استطاع العرب ـن يستنهضوا هممهم فستعود لغتهم إلى الصدارة، التعويل على أنها لغة القرآن لا يكفي لأن يجعل لها موطن قدم في عالم يحترم المبدعين.

والله من وراء القصد.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

اترك تعليقاً