وزارة الخارجية الليبية.. إلى أين؟

وزارة الخارجية الليبية.. إلى أين؟

د. عبدالباسط قدور

الملحق الثقافي السابق بالسفارة الليبية لندن

تسعى جميع الدول في العالم على اختيار دبلوماسيها بشيء غاية في الأهمية لما تفرضه مهمة العمل الدبلوماسي في بناء علاقات متبادلة ومتينة تراعي المصلحة العليا لتلك الدول بالتفاوض على أمور مثل الحرب السلام والتجارة والاقتصاد إلخ.

وتعتبر الدبلوماسية مهنة قديمة تعود إلى قبل أكثر من ألفي سنة حيث كانت الدولة اليونانية تُرسل أفضل مبعوثيها للتفاوض، كما اختار العرب قديما وجهاءهم وأكثرهم فصاحة وبلاغة وجسارة ليمثلوهم وعلى هذا الأساس بعث خاتم الأنبياء والرسل عليه أفضل الصلاة والسلام جحفر بن أبي طالب في مهمة رسمية لملك الحبشة! وبالنظر في أهم السمات والمهارات الشخصية لموظفي السلك الدبلوماسي والمعايير التي كانت تتبعها وزارة الخارجية في اختيار الدبلوماسيين إبان فترة المملكة الليبية وحتى منتصف عقد السبعينيات من القرن المنصرم تجد أن هناك شروط لابد من توفرها قبل التحاق أي موظف بالوزارة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن يتمتع الموظف بالسلك الدبلوماسي بثقافة واسعة وحسن السيرة والسلوك واللباقة بالحديث المهذب الهادئ بلا انفعال بحيث يعرف متى الأسترسال في الحديث ومتى التوقف عنه ومتى يفصح عن معلومة إلخ؛ ولعلي هنا اذكر مدى الاحترام والتقدير الواسع الذي حظى به أبناء مدينتنا “درنة” بالسلك الدبلوماسي على مستوى ليبيا بشكل خاص والوطن العربي بشكل عام لما تمتعوا به من سيرة محمودة مثل السادة: الجربي وشنيب وفيتور والأطرش وسكته وبن خيال والجيباني والثلثي والامام وغيرهم كثر ومن كل أنحاء ليبيا أيضا!.

اليوم نجد أنفسنا في وضع مختلف تماما لا نحسد عليه، حيث شاهدنا كيف تدهورت الدبلوماسية الليبية خلال الأربعة عقود الأخيرة! وبالتأكيد ازداد الأمر سؤ بعد فبراير وانهارت وزارة الخارجية شبه بالكامل حيث استبدلنا الذين هم أدنى “أصحاب وأقارب الفوضى الشعبية والمليشيات وأمراء الحرب في ليبيا” بالذين هم خير “ذوي الخبرة والكفاءة والمقدرة”! وهكذا أصبح العمل الدبلوماسي غنيمة تحكمت فيه الوساطة والمحسوبية تبعا للمحاصصة الجهوقبلية البغيضة من قبل الحكومات والمجالس التشريعية المتعاقبة! تماما كما يحدث في كل مؤسسات الدولة والوزارات السيادية الأخرى، الأمر الذي سبب تراجع ملحوظ للدبلوماسية الليبية ودورها الإقليمي والدولي!.

وبنظرة سريعة لعدد السفارات والقنصليات والهيئات والبعثات الدبلوماسية المنتشرة في أنحاء العالم والتي في تزايد مخيف، ناهيك عن مؤهلات السفراء والقائمون بالأعمال والقناصل والمستشارين السياسيين والملحقين بهذه المؤسسات، تدرك حجم الفساد الذي أصاب وزارة الخارجية! يبقى السؤال المشروع – هل حققنا أي نجاح يذكر بإرسال المئات إن لم يكن الألوف من الدبلوماسيين للعمل بالسفارات والهيئات االدبلوماسية الليبية بالخارج كلف الخزانة الليبية خلال العقد الماضي فقط مليارات من الدولارات! الإجابة بأختصار لا، بل أساء الكثير منهم للدبلوماسية الليبية وإظهرها في صورة لا تليق بمكانة ليبيا ولا تاريخ ونضال شعبها مما انعكس سلبا على تحقيق أي علاقات ناجحة تذكر!.

رأينا وبكل أسف كيف تقدم عدد كبير من الدبلوماسيين الليبيين بطلبات لجوء بشكل مخجل للدول الموفدين إليها بعد نفاذ مدد إيفادهم، وعاد منهم من عاد كما خرج! قليل جداً من تعلم لغة البلد الموفد إليه أو تعرف على تراثه وثقافته أو اكتسب أي مهارات جديدة في الدبلوماسية تؤهله أن يقدم ما يفيد لزملائه أو قسمه المختص بالوزارة! وعليه ومن خلال خبرتي المتواضعة كملحق ثقافي سابق بالسفارة الليبية لندن ادعو وعلى وجه السرعة إلى إعادة رسم السياسة الخارجية الليبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بإجراء تعديلات لقانون العمل الدبلوماسي بحيث يتم تقليص عدد السفارات والقنصليات الليبية المنتشرة في أنحاء العالم إلى النصف على مدى 48 شهراً، والاستغناء عن العمالة غير المؤهلة بوزارة الخارجية وإعادة تسكينهم بما يتوافق مع إمكانياتهم وقدراتهم وتحديد مزايا الإيفاد والمهمات الرسمية للحد من التطاحن والصراع على الوظائف المختلفة بالوزارة.

لدينا عدد كبير من السفارات والقنصليات بدول مختلفة لا تُقدم أي خدمات تذكر حيث لا يوجد أي رعايا ليبية بهذه الدول كما لا يوجد مشترك ثقافي أو اجتماعي ولا حتى علاقات تجارية أو اقتصادية مع هذه الدول! بالتأكيد مع التكنولوجيا الحديثة لا نحتاج لهذا العدد الكبير من السفراء والقائمون بالأعمال والقناصل ولا لأي وسطاء، بإمكاننا وبكل أريحية استخدام الإنترنت وتقديم الخدمات المختلفة للمواطنين خارج الوطن وعقد المؤتمرات مع الدول المختلفة عبر الفيديو وسكايب والتحدث مع بعضنا البعض.

اليوم بوجود مواقع الأخبار المتعددة والتقارير الفورية، لا نحتاج إلى أعداد مأهولة من الدبلوماسيين لإخبارنا ما يحدث في تلك البلد أو ذاك.

من الطرائف الغريبة التي حدثت معنا ذات يوم بينما كنا في الطريق لزيارة الخارجية البريطانية بعاصمة السياسة والاقتصاد والتأمين لندن، أصر موظف دبلوماسي رفيع المستوى بالسفارة الليبية لندن آنذاك على تحفظنا وعدم ذكر حيثيات الصراع في العاصمة الليبية والادعاء بأن الأمور تحت السيطرة في حالة سؤالنا. بعد استفساري عن هذا الدبلوماسي الفذ أصيل الخارجية الليبية مع بعض الأصدقاء علمت بأنه تحصل على ترقيات غير مستحقة بالتزوير قبل وصوله إلى لندن! بالتأكيد هذه الحالة ليست استثناء بوزارة الخارجية الليبية ويمكن مراجعة وإعادة النظر في مثل كل هذه الحالات! رأيت بأم عيني كيف تصل إلينا لجان وزارة الخارجية تباعاً للتحقيق في اتفه الأمور وكيف يتم التلاعب والتزوير في تقارير هذه اللجان لتصفية الحسابات وإنهاء خدمات البعض بحجج واهية واستبدالهم بأقارب وأصحاب النفوذ! رأينا أيضاً كيف يجيد موظفي الخارجية الليبية “الدبلوماسيين” ارتداء الملابس الفاخرة والذهاب إلى حفلات الاستقبال والكوكتيل وتناول أرقى أنواع الشوكولاتا إلخ! دونما تقديم أو العودة بأي شيء مفيد؛ وغني عن البيان لدينا شباب واعد وشخصيات وطنية/دبلوماسية مؤهلة عملت بكل جد وإخلاص وحافظت على مكانة ليبيا بالسفارات والهيئات الدبلوماسية بالخارج.

خلاصة القول: لا يمكن إصلاح وزارة الخارجية ولا الدبلوماسية الليبية في الخارج بمعزل عن مواجهة فساد الحكومة الليبية في الداخل وكذلك التحديات والتعقيدات التي يفرضها المجتمع الدولي والدول الإقليمية بسبب الصراع الدائم على السلطة بين الأجسام التشريعية وما يدور في فلكهم؛ الأمر الذي جعل الوضع الداخلي في هشاشة متضاعفة لا ينبئ إلا بمزيد من التشظي والانقسام!!!.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبدالباسط قدور

الملحق الثقافي السابق بالسفارة الليبية لندن

اترك تعليقاً