عندما تنتفض الشعوب مطالبة بإصلاحات جوهرية على المستوى السياسي والاقتصادي والتنظيمي، في وجه انظمة حكم مستبدة، منفردة بالسلطة والقرار، انظمة تعودت صناعة الحدث واحتكاره، تقود برؤية الطغاة المستبدين الذين يعيشون في وهم تفردهم منكرين للواقع الذي لا يرونه الا بحجم مؤامرة اوخيانة او حتى جنون!. قدر بعض الشعوب ان يحكمهم طغاة مهووسون بجنون العظمة لا يرون شعوبهم الا مجرد قطيع من البشر!، فهم العاجزون عن كل شىء! حتى عن التفكير في متطلبات حياتهم البسيطة!، يعاملونهم كالقصر الذين لا يستطيعون تدبير امورهم الا بأمر الحاكم ، فهو دون غيره العارف بكل امورهم ماصغر منها وما كبر وما ظهر منها وما بطن! لذلك يصرّ على الامساك بتلابيب السلطة وخيوط العرش.! قد يستغرب الكثير الاسلوب الذي تعالج به النظم الديكتاتورية انتفاضة شعوبها، لكن المتأمل في تاريخ وثقافة الطغاة ، لا يمكنه الاستغراب قياسا على ثقافة الاقصاء والتفرد التي يتلبسها الطغاة المستبدين، فما فعله نيرون او هتلر ليس بعيدا عن الاذهان. ان البيئة ولا شك هي التي تشكل ثقافة الحكام وخاصة في مرحلة ما بعد الوصول الى سدة الحكم، مدعومة بإرث التكوين الذاتي للشخصية الحاكمة في مراحل نشأتها الاولى على المستوى الاسري والاجتماعي ، اذ يلعب الوسط المحيط من المتملقين الانتهازيين المحيطين بالحاكم دورا محوريا في تشكيل منهجية الحكم وأسلوبه لدى الحكام.. فكلما كان الحاكم قريبا من افراد شعبه “الطامعين المتملقين” كلما كان اكثر تطرفا وانفرادا بالحكم وبالتالي ظالما لشعبه محتقرا له ومستخفا به والعكس صحيح.
ان تفجير الثورات بمنظور الشعوب سهل وممتنع ، لكن الصعوبة تكمن في الحفاظ على زخم الثورة وتأمين تحقيق اهدافها ، فالثورة على الطغاة حالة عارضة ومؤقتة تنتهي بنهاية الطغاة وإزالتهم من المشهد ، لكن مرحلة الانتقال من حالة الثورة الى الدولة هي الاصعب والأخطر. وعادة ما ينحرف الانتهازيون بالثورة عن مسارها فيدخلون البلاد في حالة مستمرة من الفوضى ينعدم فيها الامن والاستقرار ويشتد فيها الفساد بدرجة تجعل الشعب يتأسف على ايام الحاكم المطاح به ، بل والبحث عن اعادة صناعة طاغية جديد وديكتاتور آخر! وحدث ذلك للثورة الفرنسية حينما تولى نابليون الحكم بأجندة امبراطورية فردية لا علاقة لها بالديمقراطية!! لا استغراب فتلك دروس من التاريخ لطالما تحولت فيها الثورات الشعبية الى فوضى وعدم استقرار ، الامر الذي يدفع بالشعوب الى الرضوخ والاستسلام لواقعها الفوضوي بما يجعلها تقبل قسرا مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، فيكون البحث عن وسيلة تعيد ضبط الامور والاستقرار بغض النظر عن من تكون تلك الوسيلة ولو ذلك الحاكم المتسلط نفسه! وفي مثل هذه الحالات ، قد لا يوجد من يقوم بالمهمة الا مجموعة من الافراد الغوغائيين الذين استطاعوا امتلاك مصادر القوة في ظل فوضى الثورات يترك لهم الامر طواعية فيحوزون تزكية شعبية اجبارية تتيح لهم حرية التصرف بدون قيود او حدود فيمارسون الطغيان على رؤوس الاشهاد في ثوب أخر من اثواب الديكتاتورية المقيتة!!
نستطيع القول بأن الشعوب التي تفجر الثورات هي ذاتها من يعيد صناعة جلاديها وطغاتها من جديد! ، حينما تركن الى الخنوع وتترك الفرصة لضعاف النفوس من انتهازيين وطامعين وجبناء ليتسيّدوا الموقف ويتدافعون لتقلد المناصب والمواقع القيادية دون كفاءة او معيار! قد يستغرب البعض ذلك الا انني اجزم بأن الطغيان قد يولد من رحم الثورات ، في حالات التراخي والوهن واللامبالاة التي تصيب الشعوب بعد ان ينهكها فعل الثورة وفوضى ما بعدها!..لكن الثابت ايضا ان الشعوب ذاتها هي من يحدد نهاية اولئك الطغاة وطريقة وشكل النهاية عندما تقرر الشعوب فجأة التخلى عن حالة الوهن واليأس وتنتفض في غير موعد متحدية ذلك الواقع مهما بلغ الثمن!.
وانا اكتب هذه المقالة استحضر مقالة كتبتها بعيد سقوط نظام القذافي ببضعة شهور تحت عنوان “هل يصنع الليبيون طاغية جديد!؟” لأجد ان ثورات ما يسمى بـ “الربيع العربي” قد ورثت الطغيان ، فمنها من اكتفى بطاغية واحد ومنها من تعدد الطغاة! ، الثابت هو ان للطغيان طعم واحد عبر الزمان والمكان!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً