ليبيا.. بين الأزمة الداخلية والدور الأمريكي

ليبيا.. بين الأزمة الداخلية والدور الأمريكي

إدريس إحميد

صحفي وباحث سياسي

قراءة في المقال حول إعادة الإدارة الأمريكية ترتيب أولوياتها.

على مدى السنوات الأخيرة، أعادت الإدارة الأمريكية ترتيب أولوياتها تجاه الأزمة الليبية، مع تركيز واضح على الأمن والاستقرار بما يتماشى مع عقيدة «أمريكا أولًا». التغييرات الواسعة في البعثات الدبلوماسية واستبدال الدبلوماسيين المحترفين بمن يلتزم بتوجيهات واشنطن، توحي بتحوّل من سياسة «إدارة الأزمة» التقليدية إلى سياسة «فرض المسار» على الأرض.

تنظر الولايات المتحدة إلى ليبيا أساسًا من زاوية أمنية، مع الاهتمام بمكافحة الإرهاب في أفريقيا، وتأمين مناطق الطاقة، والحد من الهجرة غير النظامية. الرسالة الأمريكية واضحة: من يتجاوب مع مسار توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية وتقليص النفوذ الأجنبي قد يحظى بالدعم، ومن يعرقل قد يواجه عزلة أو عقوبات أشد. واشنطن لا تسعى إلى انتخابات شكلية، بل إلى عملية انتخابية تنتج سلطة موحدة وقادرة على الحكم، دون إعادة إنتاج انقسام 2014 أو فتح المجال لتوسّع نفوذ خصومها الاستراتيجيين.

في الداخل، لا يوجد طرف سياسي قادر على تحمّل كلفة القرار، باستثناء القيادة العامة للجيش الليبي، الطرف الأكثر تماسكًا بعد فشل المسار السياسي، لا سيما إخفاق حكومة الوحدة الوطنية في تنفيذ تعهداتها، وعلى رأسها إجراء الانتخابات. الحكومة، التي يفترض أن تلعب «الوقت الضائع»، تواجه رفضًا شعبيًا واسعًا، وتحاول إعادة إنتاج نفسها عبر تعديل وزاري موجّه للخارج أكثر من الداخل. كما يعكس الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة حالة مؤسسية عاجزة عن إنتاج توافق حقيقي، خاصة بعد محاولات تغيير لجنة 6+6 بقرارات فردية قوبلت برفض صريح من كتلة التوافق.

وسط هذا الارتباك، جاء حادث سقوط الطائرة ومقتل رئيس الأركان الفريق محمد الحداد وعدد من مرافقيه، ليضيف عنصرًا بالغ الحساسية. فالحداد كان أحد أبرز الداعمين لمسار توحيد المؤسسة العسكرية عبر لجنة 5+5، ولعب دورًا محوريًا في منع انزلاق البلاد إلى مواجهات عسكرية جديدة، كما عُرف بموقفه الرافض للتواجد الأجنبي، ومعارضته الأخيرة لتمديد بقاء القوات التركية في ليبيا. غياب هذه القيادات يفتح الباب أمام تساؤلات جدية حول مستقبل جهود توحيد المؤسسة العسكرية واستقرار البلاد.

ميدانيًا، استطاعت القيادة العامة للجيش الليبي خلال السنوات الماضية بسط الأمن والاستقرار على أكثر من 80% من الجغرافيا الليبية ذات الأهمية الاستراتيجية، خصوصًا مناطق الحدود ومناطق الموارد الحيوية، مع الحد من المخاطر الإرهابية وشبكات التهريب والهجرة غير النظامية. امتداد دور الجيش إلى دعم مسارات التنمية والإعمار في مناطق نفوذه جعل المؤسسة العسكرية الطرف الأكثر جاهزية وانضباطًا في مشهد تتآكل فيه الشرعيات السياسية، وتتراجع فيه قدرة الحكومات على تقديم حلول ملموسة.

ما يجري على الأرض يشير إلى أن المرحلة المقبلة ليست مرحلة تسويات مريحة، بل مرحلة «فرز» للقوى المحلية، حيث يتقدّم الواقع الأمني على السياسة، ويصبح وجود مؤسسات قادرة على اتخاذ القرار الفاعل مطلبًا حتميًا لاستقرار ليبيا. النافذة لا تزال مفتوحة، لكنها تضيق سريعًا. وإما أن تُستثمر القوة الواقعية للجيش لبناء مؤسسات قادرة على تحقيق استقرار ملموس، أو أن تستمر الأزمة في تدوير نفسها، بما يحمله ذلك من مخاطر اقتصادية واجتماعية وأمنية متزايدة. وفي كل الأحوال، لم تعد ليبيا ملفًا هامشيًا في السياسة الأمريكية، بل ساحة اختبار حقيقي لعقيدة «أمريكا أولًا»، والجواب على استمرار الأزمة أو حسمها سيتضح في الأشهر المقبلة على الأرض.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

إدريس إحميد

صحفي وباحث سياسي

اترك تعليقاً