متلازمة الفقر والإرهاب.. والعلاج المفقود!!

متلازمة الفقر والإرهاب.. والعلاج المفقود!!

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

كل الشواهد الحية في عالمنا المعاصر تشير بجلاء، الى مدى ترابط الفقر والإرهاب – والمقصود هنا ان من بين الفقراء وليس جميعهم يظهر الارهابيون وان كانوا ادوات تنفيذ لآخرين – فالعلاقة تبدو قديمة قدم الزمن، حيث تجسّدت في كل اعمال الحرابة والسطو وقطع الطرق التي سادت قديما في هذا الكون، اذ الدافع دائما وراء كل تلك الاعمال العدوانية الارهابية، هو الحالة المعيشية السيئة التي يعيشها البعض مقارنة بالآخرين. ان نواميس الطبيعة تستوجب ان تسود العدالة الاقتصادية في حدودها الدنيا بين البشر، ليتجانس المجتمع ويتمكن الجميع من ضبط سلوكه وممارساته، ويلتزمون بعدم الاعتداء على الاخرين احتراما للذات اولا، واعترافا بأحقية الاخرين ثانيا في ذات الزمان والمكان. إلا أن الضوابط القيمية التي تجعل من الانسان يحترم الآخرين ولا يتعدى عليهم، تنهار تلقائيا بمجرد اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء بما لا يوفر الحدود الدنيا للعيش الطبيعي للجميع، ولذلك يتوجب النظر الى هذه المسائل والاهتمام بها محافظة على القدر المناسب من العدالة المعيشية الضامنة للانضباط القيمي الذاتي لدى الافراد في اي مجتمع.

ان لكل عصر ظروفه وخصائصه وكذلك لكل مجتمع، وكما تتطور الحاجات الانسانية تبعا للتطور الطبيعي للحياة، فان البشر الذين يعيشون في مجتمع ما يتعاملون مع تحقيق حاجاتهم الضرورية وحتى الكمالية طبقا لمعطيات يفرضها المستوى المعيشي للدولة، وحين تتسع الهوة بين مستويات المجتمع معيشيا واقتصاديا ينتج عن ذلك حالة من الغبن الاجتماعي لدى الفئات المعدومة، تتولد عنها حالة من التوهان القسري الذي يؤدي بدوره الى تشكيل سلوك جديد، ينتهجه الذين يشعرون بالعدمية ويجعلهم عرضة لولوج عالم الاجرام، فيتخلون عن القيم والضوابط، ويندفعون وراء افكار جديدة قد تكون متطرفة، تقودهم الى ارتكاب اكثر الاعمال اجراما ورعبا وبشاعة. وذلك ما يؤكده الواقع المعاش، حيث تشير السجلات الجنائية في كل دول العالم، الى ان منفذي العمليات الاجرامية، هم في الاساس من الفئة الشعبية الاكثر فقرا وحرمانا في مجتمعاتهم، وبالطبيعة فانه لا يتساوى مستوى الفقر بين كل الدول اذ ان المستويات تتباين حسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل دولة، ودرجة الحرمان والعدم تخضع للنظرية النسبية. ان منحة البطالة في الدول الغنية مثلا برغم كونها قد تعادل راتب اعلى الدرجات في الدول الفقيرة!، الا انها تدفع الى الاحساس بالغبن والفقر لدى البعض مقارنة بحجم الهوة بينهم وبين الاغنياء في مجتمعهم.

ان الذي يمنع الفقراء المعدومين المهمّشين من ارتكاب الجرائم طلبا للمال، ليس في اغلب الاحيان مجموعة القيم الاخلاقية بل هو الخوف الناتج عن خطر ذلك التصرف ومجموعة الضوابط الردعية، وخصوصا في المجتمعات العصرية التي لديها اجهزة امنية قوية تحكم قبضتها وتعاقب بشدة المنحرفين وفقا للقانون، لكن قد تتلاشى حدود الصبر لدى الفقراء والمعدومين حين تتساوى لديهم قيمة الحياة والموت، وتلك هي النقطة الفاصلة بين التقيّد بالقيم والتحرر منها، وعندئذ تصبح  العمليات الاجرامية سلوكا مقبولا لدى البعض لإثارة الرعب والإرهاب، ورد فعل متوقع لفقدان الثقة في المجتمع والحكومة، ويكون الطريق عندئذ مفتوحا لاستغلال بعض الجماعات المنظمة للأمر، حيث يتم استقطاب المنحرفين واحتوائهم ضمن تلك الجماعات بما فيها التنظيمات الارهابية المتطرفة سلوكيا او دينيا.

ان الارهاب قد يكون هو الوجه الثاني لعملة قديمة جديدة وجهها الاول الفقر!، فأينما وجد الفقر قد ينشأ الارهاب، ان من ينفذ العمليات الانتحارية الارهابية في عالمنا اليوم، هم افراد مهمّشون فقراء، تساوت لديهم قيمة الموت والحياة تم استقطابهم وغسل ادمغتهم، واحتوت سيرتهم على العديد  من الجرائم والمخالفات طمعا في الخروج من خانة العدم، في مجتمع يتعمّق فيه الفرق بين الاغنياء والفقراء، وتترسّخ فيه قواعد ظالمة، تسمح بتركز غير عادل للثروات لدى البعض القليل الحاذق، في حين يحرم منها الكثير الذين تغص بهم خانة الفقراء! الامر الذي يدفع البعض منهم لارتكاب الجرائم طمعا في اشباع رغبة كامنة تولّدت عن شعور بالغبن والحرمان.

مكمن الخطورة ان بعض الفقراء والمحرومين يسهل خداعهم واللعب بعقولهم تحت ضغط العوز والحاجة، لذلك يسهل تجريدهم من القيم والضوابط الاخلاقية فينخرطون في مغامرات اجرامية لتبرير الحصول على المال وبأي وسيلة، ولهذا نجد ان منفذي الاغتيالات السياسية والجنائية هم من فئة المعدومين الفقراء مقابل مبالغ مالية تدفع لهم من المدبرين والمخططين، ان الفقراء والمهمّشين اكثر عرضة للاستقطاب الديني المتطرف، والذي يدار من قبل المتشددين والمتطرفين دينيا من خلال تنظيمات متطرفة تنتشر الآن عبر دول العالم، حيث يتم احتواء اولئك المهمّشين الفقراء وتضخ في عقولهم الافكار المتطرفة تحت التأثير الديني بدء بإقناعهم بقبول التوبة وغفران الذنوب السابقة مهما عظمت!، وصولا الى مرحلة قناعتهم بضرورة العبور الى الجنة الموعودة، والتي لا يمكن بلوغها الا من خلال ترك الدنيا والتضحية بالنفس والموت انتحارا! من خلال تنفيذ عمليات ارهابية لا تفرق بين بريء ومذنب!. وهكذا تولّدت متلازمة الفقر والإرهاب في عالمنا اليوم، وصرنا نعاني الويلات منه على مستوى العالم، ان الخوف الشديد هو ان يتحول سلوك الارهاب الى ثقافة وطموح جديد لدى البعض من المهمشين المحرومين في كل اقطار العالم ويبتغونه وسيلة لتبرير رفضهم لواقع ظالم وغبن مفروض!.

ان متلازمة الفقر والإرهاب اضحت واقعا ملموسا، وخطرا محدقا بالجميع دون استثناء، وعلى الشعوب والحكومات ان تدرك ان الحاجة بدأت ماسة للتعاون الدولي من اجل الحيلولة دون استفحال الخطر وتفاقمه، وانه ليس ممكن القضاء على الارهاب ومحاربته إلاّ من خلال برنامج عالمي طموح، يستهدف تحقيق تنمية مكانية بشرية ومادية لكل شعوب الارض، في محاولة جادة للقضاء على الفقر كهدف استراتيجي عالمي، توجبه متطلبات العيش بأمن واستقرار للجميع دون استثناء، اذ انه لا حدود يمكنها فصل البشر على بعضهم وهم يعيشون عصر العولمة والتواصل. اذا ولكل تلك الاعتبارات، ينبغي على حكومات العالم ان تعمل حثيثا على جسر الهوة بين الاغنياء والفقراء من خلال برنامج اصلاحي عالمي يستهدف اعادة توزيع الثروات على الشعوب كافة، بعدالة منطقية تكفل حق العيش الكريم لبني البشر كل حسب مجتمعه ووطنه . ان ذلك اضحى ضرورة امنية عالمية قبل ان تكون انسانية، فالبرنامج العالمي يجب ان يكفل الغاء خانة المهمّشين الفقراء واحتوائهم ضمن منظومة المجتمعات مهما كلف ذلك من ثمن ضمانا لاستقرار العالم وأمنه المهدد باستمرار، وإلا فان الارهاب الذي لا حدود له سيتمدد متلازما مع الفقر، وسيداهم الجميع ويكون الأغنياء والحكومات ضحاياه بالدرجة الاولى!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً