شرعية من عراجين التمر

شرعية من عراجين التمر

كانت العرب تصنع آلهاتها من تمر عند الرخاء وتبحث عندها عن استقرار نفسي وشعور بالرعاية والأمان و أنها في الجانب الصحيح فتذوذ عنها وتدافع بكل جدية وشراسة بل قد تفتعل حروباً إن مس تلك الألهة إهانة أو إساءة وكانت تتعبدها وتتقرب إليها المهم أن تشبع نقيصتها النفسية وتشعر أن هناك من يرعاها ويدبر أمرها ولو كانت كتلة من التمر المعجون والنوى على هيئة صنم يعبد ويتبرك به وتذبح عنده الذبائح.

فإن جاعت نكصت وانقلبت على أعقابها، فقسمت تلك الآلهة أصوعة وآنية وأقبلت عليها تأكلها وكأنها لم تكن المعبود المنشود ولا الغاية والمقصود، ولا تلك التي قالت فيها أبيات الشعر و القصيد، ولا يكاد أن يجاريك عقلك في تصديق أنها نفس الجموع التي كانت تتعبد عند صنم التمر ذاك.

فكما تقول العرب “الجوع كافر” وحينما كانت تجوع الأعراب كانت قداسة الآلهة المعبودة عندها تزول وتختفي تلقائيا فتعود لها فتأكلها وتتقاسمها بينها، حتى تعود أيام الرخاء و الزهاء فتُصنع الألهة من جديد من التمور في الموسم التالي.

وهكذا دواليك دون أن تشعر تلك الجموع بتناقضها أو انتكاصها على أعقابها عما كانت تفعله من تعبد وتمجيد ودفاع مستميت وحروب وقتل وتشريد لبعضها البعض، فلا أحد منهم يرى أن كل هذا كان من أجل كتلة مكومة من التمر و الزبيب في أفضل الأحوال إن لم يكن من التمر والنوى غالباً حتى يغلبهم الجوع وتضرب على بطونهم وجيوبهم الحاجة فيترأى لهم أن يأكلوا ما كانوا يتقاتلون من أجله جميعاً متساوين في ذاك غير متخاصمين فقد طار عليهم طائر الجوع الكافر.

هذا يذكرني بتقديس الشرعية في ليبيا وكيف يحكي الليبيون بل ويدافعون ويموتون من أجل الشرعية المزعومة ويعيث بعضهم في بعض تقتيلاً وتشريدا وترويعاً من أجلها، فكلٌ يرى الشرعية في جانبه وأنه أولى بها من غيره، وترى في الشاشات المعارك قائمة هائجة والجيوش المدججة والخطب الداعمة والفتاوى العابرة للبحار والقارات والمدد من كل حدب وصوب في دعم كل طرف يقاتل من أجل الشرعية التي يعتنقها ويرى أنها تحمي الوطن وترعاه وأنها جزء من العقيدة والدين والهوية.

حتى تتبدل السنين وتمضي فصولها وأيامها، ويعز على الليبين حال بطونهم الخامصة وجيوبهم الخالية وبيوتهم الخاوية، فينكصون على أعقابهم ولا يبقى للشرعية التي أشتد من أجلها وفي سبيلها القتال، أية قيمة معنوية لهم سوى كيف يتقاسمونها ويأكلونها فيما بينهم شرقاً وغرباً وجنوباً، ويجلس الجميع ليساعد بعضهم في تقطيع حصص بعضهم من تلك الشرعيات وفوائدها المتبقية بعد سنين عجاف كانت الشرعية ذاتها تقتات على دماء هؤلاء وتعبهم وجهدهم، ولكن حان الوقت لأن تدور على الشرعية الدوائر ويكون مصيرها كأصنام العرب من التمر و الزبيب وتنتهي حقبة تتكرر عبر التاريخ بين ألفية وأخرى.

رغم هذا يظهر على المشهد أخيراً في ليبيا، صنم من تمر مرة أخرى يشار له بالبنان تطبيلاً وتهليلاً وتفاخراً وتمجيداً وتخاض في سبيله المعارك وتساق له القرابين ويتقرب من حاميته مشائخ القبائل وبعض شيوخ الدين، ويزداد سلطانه بهرجة وفرحاً، وتقال فيه القصائد والأغاني ويكتب عنه المدونون والقوالون ويحيط به زمرة السلاطين وخدم الأوثان لرعايته وخدمته وذوذ الذباب عنه كما هي حال كل الألهة الوثنية عبر التاريخ خصوصاً في المنطقة.

لهذا أقول دائما لا تخف من تمجيد الشعب لتماثيل وأصنام وشرعيات من تمور مهما كانت الأمور على أشدها وتباينها، فهذا شعب يتوارث جيلاً عن جيل سنة أكل الشرعيات خصوصاً تلك التي من تمور.

وأول علامات بداية موسم الجوع إذعان الجموع لصنم واحد تختزل فيه الشرعية والعقيدة والوطنية والدين ويقر له بالتفرد والتملك والإذعان والتسلط عليهم حتى لا يكون لأنظار الجائعين الا جبل تمرٍ لا يخطؤونه فإن انقضوا عليه أخذوه بين أيدهم شيعاً زرافات ووحداناً.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

محمد القرج

إعلامي ليبي

اترك تعليقاً