أزمة أسعار النفط العالمية وخيارات الحكومة الليبية

أزمة أسعار النفط العالمية وخيارات الحكومة الليبية

د. سليمان سالم الشحومي

‏مؤسس ورئيس مجلس إدارة سوق المال الليبي السابق

تراجعت أسعار النفط الخام عالميا الي أقل من المتوقع لهذا العام وكسرت حاجز 30 دولار للبرميل ولم يصل الي هذا المستوي منذو اكثر من 12سنة، وأصبحت التقارير تشير الي مزيد من الانخفاض، فبعض المؤسسات المتخصصة تشير الي أن الاسعار يمكن ان تصل الي مستوي 10 دولار للبرميل.

والسؤال الذي يشغل بال الجميع، ما الذي يحدث ولماذا هذا الهبوط الكبير ، من وجهة نظري هناك عدة اسباب ولعل اهمها تحول الولايات المتحدة الي تصدير النفط بسبب النفط الصخري ، واصبحت الان تنتج مايقرب 10 مليون برميل في اليوم في حين كان انتاجها لا يتجاوز 5 مليون برميل ولا تصدر، السبب الثاني هو كثرة المعروض من قبل دول منظمة الاوبك وعدم رغبة اكبر المنتجين وهي السعودية في تخفيظ حصتها البالغة 10 مليون برميل باليوم مما اتخم السوق، وبرغم الدعوات الي ضرورة ان تخفض السعودية انتاجها الا انها علي ما يبدو تستخدم ذلك كسياسة لاخراج المنافسين وربما لتعطيل عمليات اعادة تصدير النفط الايراني بعد رفع العقوبات مطلع هذا الشهر عنه ، اما السبب الثالث فهو تباطوء الاقتصاد الصيني والذي يعاني من ازمات داخلية اربكت معدلات النمو المعروفة عنه سابقا بالاضافة الي الازمات التي لحقت بسوق الاسهم لديه والذي يعتبر من اضخم الاسواق العالمية ،  ويعتبر السبب الرابع  المتمثل في قوة الدولار الامريكي والذي يعكس قوة وتعافي الاقتصاد الامريكي والذي انعكس في انخفاض اسعار السلع والمنتجات والسلع الرئيسية في العالم بسبب قوة الدولار والاقبال المتزايد عليه امام العملات الاخري ، الامر الذي ينعكس سلبا علي الاقتصاديات الناشئة بسبب ارتفاع تكلفة الواردات وانعكاسها علي مستويات المعيشة فيها الامر الذي اثر علي مستويات الطلب علي استيراد النفط وغيره من السلع الاخري من الاسواق العالمية.

في ظل هذه المتغيرات الدولية والتخوف من وقوع الاقتصاد العالمي في اتون ازمة اقتصادية عالمية جديدة خصوصا مع الخسائر الرهيبة التي تتعرض لها اسواق الاسهم الرئيسية في العالم ، وفي ظل حالة الشلل التي يعيشها الاقتصاد الليبي وتقلص فرص عودة الانتاج النفطي المصدر بالسرعة اللازمة  الي مستوياته السابقة 1.700 مليون برميل في اليوم ، ومع كون ان تصدير النفط في ليبيا يشكل اكثر من 95% من حجم الصادرات الليبية وبالتالي فهو المصدر الرئيسي لتمويل الميزانية العامة ، والتي شكلت الايرادات النفطية فيها في سنة 2015 ما مقداره 10 مليار دينار تقريبا مقاسا علي اسعار 50 دولار للبرميل في حين ان الايرادات غير النفطية كانت 525 مليون ضرائب و30 مليون جمارك . وبالقياس علي ذلك فان المتوقع ان تكون الايرادات النفطية لهذا العام 2016 لا تتجاوز باي حال مبلغ 6 مليار دينار اذا استمرت نفس الاوضاع الحالية من حيث الانتاج والتصدير، في حين ان بند المرتبات يحتاج فقط الي 20  مليار والدعم يحتاج الي 10 مليار ، بالتاكيد هذا المشهد الماساوي سيلقي بضلال ثقيلة علي الوضع الاقتصادي الليبي وليس امام الحكومة القادمة سوي خيارات محدودة وبعضها أمر من العلقم علي المواطن العادي الذي يبحث عن مجرد الحصول علي اساسيات الحياة الكريمة في ظل التمزق والصراع السياسي والاقتتال وما يعانيه سكان مدن باكملها من تهجير وارتفاع الاسعار في اغلب المنتجات الغذائية.

في تقديري ان الحكومة القادمة سيكون امامها خيارين واحلاهما مر ، فالاول ان يستمر الانفاق العام بنفس مستوي الميزانية السابقة وهذا سوف يعرضها الي مزيد من العجز والذي قد يصل هذه المرة الي أكثر من 50 مليار ولكن المشكلة كيف سيتم تدبير سد هذا العجز في ظل عدم وجود الاليات المعروفة للاستدانة من الداخل عبر السندات الحكومية والتي أصبحت محرمة بسبب قانون منع التعامل بالفوائد ، والذي عطل واربك القطاع المصرفي في ليبيا، و برغم ان البرلمان جمد هذا القانون ولكن لازال البنك المركزي في طرابلس والحكومة التابعة للمؤتمر والتي بيدها عمليات الانفاق وتحصيل الايرادات الفعلية لا تنصاع لايقاف العمل بهذا القانون ولم تقدم بدائل اخري يمكن استخدامها لمعالجة العجز ، فالعجز الحادث في ميزانية السنوات السابقة تم تغطيته عبر سلفة من المصرف المركزي للحكومة ، اي قرض حسن، وقد يقود هذا الوضع الي مزيد من تدهور في قيمة العملة الليبية امام الدولار وبالتالي تنعكس في استمرار تردي مستوي المعيشة ، وسيكون هذا الخيار كالسير بخطي ثابته نحوا كارثة بكل معني الكلمة.

أما البديل الثاني فهو معالجة اوضاع الميزانية العامة وتقليص النفقات بشكل شامل ومجابهة الفساد في بنود الميزانية وايقاف الدعم واعادة هيكلة بند المرتبات وتقليصه  واعلان سياسة تقشفية في جميع المؤسسات الحكومية في الداخل والخارج ، مع اطلاق برنامج لتحسين الحصيلة الضريبية والجمركية واقرار رسوم خدمية جديدة سواء في مجال الخدمات كالاتصالات ، اما علي الصعيد النقدي ، فلابد من تطوير عمل المصرف المركزي وتركيزه علي تفعيل ادوات السياسة النقدية والمتمثلة في تحفيز القطاع المصرفي علي حشد المدخرات والنقد خارج الاطار المصرفي عبر اسعار فائدة مغرية لتوجيهها نحو تمويل العجز في الميزانية العامة و التوسع في الاقراض لاقامة مشروعات صغيرة صناعية وخدمية وبالتاكيد العمل علي تطبيق موازنة استيرادية تعمل علي ضبط استخدام الاحتياطيات النقدية الاجنبية ، مع ضرورة توفر برنامج للحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة في المجتمع لمواجهة الغاء الدعم عبر تفعيل صندوق الانماء في هذا الاطار كونه الحاضنة للاسر الفقيرة في ليبيا بالاضافة الي صندوق التضامن الاجتماعي.

لاشك ان التراجع الدراماتيكي لاسعار النفط العالمية في ظل انخفاض التصدير الي اقل من الثلث من الطاقة التصديرية يحتاج الي وضع تصورات انعكاسه علي الاقتصاد الوطني والمواطن وسبل المعالجة في ضوء الخيارات المتاحة في شكل خطة طواري معلنة تحدد اليات المعالجة والمسؤلية الملقاة علي عاتق كل وزارة وموسسة حكومية . الوضع الاقتصادي الليبي دقيق جدا والحكومة القادمة عليها ان تبدأ بتشخيص واضح للمعضلة الاقتصادية الحالية  ومن ثم المعالجة التي علي الأغلب ستكون صادمة وقاسية ، فما تواجهه ليبيا في ظل المتغيرات الاقتصادية الدولية والمحلية يحتاج الي معالجة شجاعة تنقذ الوضع الكارثي وتقي الجميع من الانجراف نحو مزيد من التردي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. سليمان سالم الشحومي

‏مؤسس ورئيس مجلس إدارة سوق المال الليبي السابق

اترك تعليقاً