استراتيجيات خاطئة

استراتيجيات خاطئة

الشعوب كثيراً ما تبرر أخطاءها بالتقديس..!

خطأ محمود جبريل “مع حفظ الألقاب” تحوله إلى كائن سياسي وخوضه لمعارك وصراعات سياسية غير مكتملة، وخسارته أمام خصوم كارتونيين بسبب اعتماده على استراتيجيات خاطئة لا تتناسب مع العقلية الليبية ولا يفقهها أغلب خصومه، كما أن اختياره لحلفاء وعناصر لقوى تحالفه غير مؤهلة وغير متجذرة في العمل السياسي  – وهذا وفق اعترافه-  جعل منه سلم وتكية ارتكاز لمجاهيل، تحولت باقترانها به إلي كائنات سياسية ونجوم على ركح السلطة وركلوه كما ينبغي أن يحدث، وهنا يفتضح ضعف “جبريل” فقد نسى أن استئجار الأصدقاء وتدجينهم عمل أحمق وفاشل ولن يدوم لأنهم سيتحولون إلي الصف الآخر، ويغذون أعداء يعرفون حقائق خصمهم جيداً ويستغلونها..!

كون “محمود جبريل” خبير استراتيجي يعيدنا إلي أسس الاستراتيجية ومنابع السياسة ومناهجها، ويحملنا قسراً إلي تذكر أن الخداع مبتدأ العمل السياسي حيث تعرف السياسة أحياناً بأنها الكذبة المتفق عليها، والاستراتيجيات هي صناعة أوهام وتأكيدات أحلام وزراعة السراب بورود حمراء وصفراء وبيضاء وزرقاء، وتحويل جموع الحاضر إلي وقود حيوي  لحياة مستقبلية مؤجلة لن يعيشوها ولن يديرها محرقوهم ” خبراء الاستراتيجية”، فليس الاستراتيجي كاهن أو قديس بنظر مجتمع غير متمدن بل لعله سيكون أقرب إلي أعمال التضليل والخداع وإبداء  الأكاذيب، وهذا ما غفل عنه “جبريل”، فاستخدامه لافتراضات واهية واقتنائه لرؤى ليست متاحة وواضحة للعوام تقصيه عنهم، كما أن تصريحات “جبريل” وتعبيراته المحايدة والمألوفة والمقنعة “من أقنعة” تعد فخاخاً وايهامات لضمان بقاء حالات الفوضى المريحة لأي سياسي وجهته السلطة وغاياته ذاتية أو حزبية ضيقة..!

كان إقرار تأسيس الأحزاب عمل مشبوه تورط فيه “جبريل” وسواه، وحقيقة فعلهم أنهم أرادوا صفات ومراكز تمكنهم من ممارسة السلطة والتدخل بالسياسة في أي وقت ولا يمكن سحبها منهم من قبل أي سلطة، وذلك لممارسة الضغوط على السلطات والمشاركة بأي عمل سياسي يسعى لإقرار مصير الليبيين وحاضرهم، فليس لـــ” جبريل أو صوان” أي صفة أو وجود يمكنهم من اقلاق السلطات واللقاء بالمسئولين ليبيين وغير ليبيين، والتعامل مع الأمم المتحدة وحكومات الدول سوى صفاتهم كرؤساء أحزاب “بمفهومها الحقيقي وليس الكرتوني الموجود بليبيا”، وهذا المنصب حكراً على “جبريل” في تحالفه ولا يمكن لأحد أن يناقش صلاحياته للمنصب أو زمن بقائه فيه، فكونه مؤسس الحزب ضمن له الأحقية في ترأسه دون اختيار أو تحديد فترة رئاسته، فهو الأب والمعلم الأول لأعضاء الحزب المؤمنين بتفوق “جبريل” عليهم وسموه عنهم.!

لم يخبر أحد الليبيين أن الشيزوفرانيا ضرورية للساسة وأن مغادرة السلطة كارثة بالنسبة لهم، وأن من يدعون الفهم والمعرفة واتقان الاستراتيجية قد وضعوا أهم لبنات العمل السياسي دون أن يكون هنالك قانون أو دستور ينظمها ويشرعنها، أو يلغيها أن كان هنالك ما يدعو من خروقات وتجاوزات وعبث بمصلحة الوطن وأمنه وبقائه، كما أنه يجب أن تكون هنالك جهة أو هيئة أو قضاء يراقب عمل الأحزاب ويكبح أخطاؤها ويمنع تجاوزاتها ويحدد صلاحياتها وشئونها وحدود تعاملها مع الداخل والخارج، فالأحزاب ليست حكومات مستقلة تحاور الخارج وتتحالف معه أو تتيح له فرص التدخل في شئون الدولة، ورؤساء الأحزاب مهما علوا أو تفقهوا بدين أو بعلم سيظلون بنظر الدولة والقانون مجرد مواطنين لا حصانة لهم تعفيهم من تطبيق القوانين عليهم وتجريمهم إذا أساءوا..!

كل تخطيط استراتيجي يسعى أساساً إلي تحقيق أهداف قريبة أو بعيدة المدى مبنية على معطيات واقعية، وهذا ما ينعدم عند “جبريل” لأنه لا يملك الوقت ليحدد هدف بعيد المدى، ولا يثق بقدرات غيره وامكاناتهم بدليل تربعه على عرش تحالف القوى وتصريحه باسمه دون أن يكون هنالك لقاءات أو دوائر وملتقيات حقيقية لأعضاء الحزب،  فلا يعرف من التحالف سوى – جبريل ومليقطة والشهيبي-  والباقين لا وجود لهم، ولا فاعلية لأن هذا مراد “جبريل” ومسعاه منذ البدء، فقد انضمت لقوى التحالف قدرات واسماء كبيرة وأصحاب تجارب ومدراء عملوا في ليبيا وتمرسوا بها، ولم ينقطعوا عن إداراتها وأجزم أن قدراتهم تفوق “جبريل” كثيراً، لأنهم أصحاب تجارب ولهم علاقات ووجود حقيقي في ليبيا وخصوصاً بطرابلس وبنغازي، ولكن وجودهم ضمن التحالف طمسهم وجعلهم بيادق لا أكثر وجمدهم ليعلو ويسطع “جبريل” وحده فقط..!

أضاع “جبريل” أثمن فرصه وأكثرها عمقاً وتأثيراً استراتيجياً وفائدة ودلالة وطنية حينما كان مديراً للمكتب التنفيذي، فلو خطط استراتيجياً كما يفترض به وعمل بوفاء لافتتح العمل بمشاريع البنى التحتية ببنغازي وأسس مستشفيات بالمنطقة الشرقية، وفتح وجهة جديدة للتفكير لدى الشباب العائدين من المعارك، فحد بذلك من ثقافة العنف وقطعها بثقافة بناء وتعمير وتجارة وزواج ومطامح حياتية مستقبلية وخلق بديل موضوعي وواقعي  للبندقية، وسعى منذئذ لتأسيس مؤسسة أمنية حقيقية تابعة للمكتب التنفيذي “رئاسة الوزراء” ولو على الورق “أصدر قرارات”، ووضع برنامج مصالحة وطنية بالتعاون مع الخبراء والقدرات التكنوقراطية والحقوقيين الذين تخرجوا من قاريونس -أعرق جامعات ليبيا- واستعان برجال الإعمال وكلفهم بإعداد وتجهيز خارطة عمل حقيقية ومشروع استراتيجي حقيقي للمصالحة، وعمل على التقليل من حالة العداء المستشري بين الليبيين وركز على اقرار الشفافية وأدرك فائدة تفعيل الجهات الرقابية في مراحل الثورة الأولى ومراحل التأسيس للمجالس المحلية والهيئات، فلو فعل “جبريل” ربع هذا لوضعه الليبيين على رؤوسهم، وكان بإمكانه لأنه في “عام 2012” لم يكن للمليشيات سطوتها مثل الآن، ولم يكن العداء بين القبائل قد عم ولم تكن لقوى الإسلام السياسي التحالفات والعتاد العسكري كحاله اليوم..!

للأسف إمكانات “جبريل” وظفها في غير محلها وأساء كثيراً في اختيار اتجاهه المعاكس والمضاد لاستقرار ليبيا، فوجد نفسه وأفكاره منبوذين من قبل عموم الليبيين وصار يتعامل من وراء ستار حزبه الموهوم وعن بعد، ولم تكن له أي بصمة في أعنف وأقسى الاحداث التي حدثت خلال أعوام، واستغل وجوده وداريته بأحداث جرت في الظلام وفي الغرف المغلقة وداخل مطابخ السياسة ليخرج بأوقات معينة ويذيعها لضمان استمرار حالة الشقاق والفوضى بليبيا، فلم ولن يرضى “جبريل” سوى بالسلطة لنفسه ولوقت طويل، رغم أن ما ظهر منه وما يستطيعه فعلاً لا يؤهله سوى للعمل كمدير أو مستشار أو معد تقارير ودراسات واحصاءات في مكتب بإحدى الوزارات أو المجالس البلدية، فخبرات “جبريل” تنفيذية واستشارية ولا يمكنه أن يكون صاحب قرار أو رجل سياسة قادر على جمع الناس وقيادتهم ومعالجة أمورهم بمستوى يرضيهم ويلائمهم، بدل تعليقهم بأحلام وأوهام قد تتحقق وقد لا تتحقق..!

الأجدى بـــ ” جبريل” وسواه من رؤساء الأحزاب أن يقنعون بفشلهم وغيابهم وانقطاعهم عن واقع ليبيا، وأن يتخذوا قراراً بحل أحزابهم التي لا توائم أو تناسب المرحلة، كما يفترض بمجلس النواب أو المجلس الرئاسي أو من يملك الجرأة والقدرة على اتخاذ قرار بحل جميع الأحزاب، ومنع تأسيس أي كتل سياسية فعلية قبل صدور الدستور والاستفتاء حوله، ومن شاء أن يعمل فمؤسسات المجتمع المدني تكاد تساوي عدد الأسر الليبية ترفع شعارات بإمكانها إن صدقت تحويل ليبيا إلي جنة والليبيين إلي ملائكة في غضون أسبوع على الأكثر..!

اعتقد أنه يجب أن يعرف كل ليبي حدود إمكاناته وقدراته، وليلتزم كل واحد بدوره ومهامه فلا يعقل أن يتحول الجميع إلي كائنات سياسية، ويغذو كل حقوقي أو استشاري أو إعلامي أو رئيس مؤسسة أو ضابط شرطة سياسي ومنظر وزعيم حركة، فالالتزام بالمهام وأداءها بكفاءة وصدق تعبر عن الوطنية والانتماء أكثر مما يعبر عنها التحذلق والتلون أمام الكاميرات وعبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كما ينبغي على البرلمانيين قبل غيرهم أن يعرفوا حدودهم ويلتزموا الصمت ويراعوا أن ما يجري في مطابخ السياسة غير متاح ومناسب للنشر، وأن البرلماني ممثل لسلطة تشريعية لا يجوز له أن يكون ضمن السلطة التنفيذية أو بإحدى لجان العلاج أو التنظيم أو الملحقين الثقافيين أو غيرهم، كما أن للبرلمان ناطق رسمي مهمته الافصاح والتصريح باسم البرلمان، والأجدى بالبرلمانيين العمل بدل الثرثرة ونشر الغسيل السياسي، فالبلاد بحاجة إلي رجال عمل لبنائها وليس لنجوم إعلام وتجار وقراصنة..!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً