الإحساس بالمسؤولية: حاكموا الثني (1/2)

الإحساس بالمسؤولية: حاكموا الثني (1/2)

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

رسالة مفتوحة إلى المثقفين والإعلام والحكومات والبرلمانات الليبية

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

المائدة آية (78 و79)

في مقال سابق تحدث فيه عن تفاعل النظام الغربي مع الحوادث التي تقع على ارضه، وبينت في ذلك المقال حجم الاحساس بالمسؤولية لديهم، من وحي الحوادث الاخيرة التي وقعت في بريطانيا، كالحادث الارهابي الذي وقع في مانشستر ارينا، الى دهس الابريا على جسر لندن، الى حريق برج قرانفيلد، وانتهاء بدهس المصلين خارج احد المساجد في منطقة فنزبري بارك.

في كل تلك الحوادث يتسابق السياسيون على كسب ود الجماهير، معزيين ومواسين للضحايا واسرهم في مصاباتهم الاليمة، وتصبح المصيبة التي وقعت مصيبة للجميع، يشترك فيها كل مؤسسات الدولة، فتقوم المدارس مثلا بشرحها وتقديمها للتلاميذ في كل المراحل الدراسية، وتتغير مناهج التعليم ودروسه في الايام التي تعقب الحدث فتتناوله وتعمل على شرحه للتلاميذ على وجهها الامثل، ليكون لهم تقييم صالح للحدث، وتتسابق المحطات الاذاعية وقنوات البث في نقل الحدث وتشريحه، ليس من قبل الاعلاميين فقط، وانما يشترك فيها رجل الشارع البسيط والضحية ومحيط الضحية.

الاحساس بالمسؤولية، عند المسؤول تحديدا، هو قضية احساس وشعور بالواجب وبالتكليف، هذا الشعور هو الذي يتحكم في تفكير المسؤول ويسيطر على افعاله، ويرسم مواقفه، ويحدد اقواله، لذلك يكتسب هذا الاحساس المعاني السامية التي يطيب لها قلوب وعقول المجتمع. والاحساس بالمسؤولية ايضا احد ركائز النهوض بالامم واس من اسس بناء المجتمعات، لذلك نمو هذا الاحساس يعتبر معيارا لنمو الامم ونهضة الاوطان. ولان المسؤولية السياسية تحديدا هي تكليف فان هذا التكليف يستوجب من المكلف الاحساس بتبعيته ووجوب المحاسبة على التقصير فيه.

من الامراض القاتلة التي تصيب المجتمعات هو غياب هذا الاحساس واستبداله باللامبالاة، فيغيب الاهتمام ومعانية من قاموس المسؤول، وتنعدم ارادته عن ممارسة الفعل والواجب، وعدم الاهتمام بالنتائج التي تنتج عن هذه المبالات حتى وان كانت كارتية، وفي الاغلب هي كذلك.

نستطيع ان نقول ببعض الوثوق ان الوجه العسكري لداعش قد هزم في اغلب مواقعه، فقد تمكن البنيان المرصوص (بمساعدة الطيران الامريكي) من القضاء على اكبر مواقع داعش في ليبيا، واستطاع ثوار درنه على مقارعة دواعش درنه، وقضي الجيش الليبي واسترد كل جيوب التطرف في بنغازي (بدعم اماراتي مصري فرنسي)، وانتصر التحالف الدولي على داعش في اقوى معاقله في الموصل، وانهزمت جل قواته في الرقة. لكن هل انتبهنا الى الوجه الثاني لداعش؟

داعش الذي تم القضاء عليه (أو على وشك) هو ابن شرعي للحركة الوهابية، فمن مبادئ الوهابية هو تكفير المخالفين واستحلال دمائهم واعراضهم. ونهاية داعش لا تعني نهاية الوهابية، فالوهابية لها قاعدة راسخة في اعتى الممالك العربية، تتغدى على ولائها للنظام السعودي بناء على ميثاق الدرعية بين مؤسس الدولة ومؤسس الحركة، وتستمد قوتها من هذا الولاء. وفروع الوهابية او السلفية الحديثة منتشرة في كل مكان، وجميعها تدين بالولاء للاسرة السعودية الحاكمة، بل وصل الامر بالحركة السلفية الوهابية الليبية الى مبايعة ولي العهد الامير محمد بن سلمان، مما لا يدعو مجال للشك ان ولاء هذه الجماعة هو للسعودية وليس لليبيا، فلا يغتر الجيش الليبي الذي يدعم هذه الحركة ويستعملها بولائها له.

يتزين احد الميادين الرئيسية في مدينة طرابلس بنافورة يتوسطها حسناء تمسك بإحد يديها جرة ماء وتعانق الاخرى رقبة غزالة وديعة. هذه النافورة من معالم مدينة طرابلس، لا تمر مناسبة وطنية او دينية دون ان يكون لهذه الحسناء وغزالتها حضور في صورنا الشمسية، فدخلت كل بيت طرابلسي دخلته هذه الصور، وقد لا ابالغ اذ قلت أنها دخلت في صور كل اسرة ليبية تسنى له زيارة العاصمة، هذه النافورة بفضل هذه الجماعات التكفيرية اصبحت أثرا بعد عين. ففي عام 2012 تفاجأ سكان العاصمة البهية بان حسناء مدينتهم قد ثم حجبها بالكامل بقطعة قماش أزرق. لم يشك احدا من سكان المدينة ان الذي قام بهذا العمل هم الإسلاميين الجدد، مستنسخين حدث مشابه حدث في مدينة الاصنام الجزئرية قبل عقدين من الزمن، حين عملوا على حجب التماثيل في تلك المدينة، وغطوا بقماشا أبيض التماثيل النسائية بالكامل، وغطوا النصف الاسفل من تماثيل الرجال. في يوم 27 أغسطس 2014 قام أحد “الإسلاموين” بقذف التمثال بقذيفة ار بي جي، فأحدث حفرة في بطن الحسناء، ومع صباح يوم 4 نوفمبر 2014 كانت النافورة قد أقتلعت من مكانها تماما. وبالرغم من ان سكان العاصمة قد استنكروا هذه الاعمال غير المسؤولة، إلا أنهم لم يستطيعوا الوقوف امام السلفين الجدد الذين استهدفوا معظم المعالم التاريخية للمدينة، فقد تعرَّض مسجد احمد باش القرهمانلي يوم 6 أكتوبر من نفس العام للتخريب من قبل مجموعة من الوهابيين، ويعتبر هذا المسجد احد ايات الجمال، ومن اروع المعالم الأثرية العتيقة للعاصمة الليبية طرابلس، ويبلغ عمره أكثر من مئتين وسبعين سنة.

لم يتوقف التدمير على هذين المرفقين بل طال ايضا معلم اخر وهو جامع درغوث باشا، فقد قامت مجموعة سلفية مكونة من اكثر من 70 شخص ظهر يوم السبت 11 اكتوبر حسب افادة الشهود بالاعتداء على القبور داخل الجامع وكادوا ان ينالو من المنبر بداخله، كما دمر قبل ذلك مسجد الشعاب أهم معالم طرابلس، وثم العبت العام الماضي بجامع ميزران، وحدثت اعمال مشابهه بمدن اخرى، على غرار ما حدث في الجزيرة العربية ابان نشوء هذه الحركة.

لا تتوقف اعمال السلفيين على تدمير المعالم الاثرية والدينية ونبش القبور، بل تجاوزتها الى امور اخرى، ففي يناير هذا العام قامت مديرية امن المرج بمصادرة مجموعة كبيرة من الكتب كانت في طريقها من مدينة طبرق الى بنغازي ربما للمشاركة في احد معارض الكتب، وعلقت المديرية عن اسباب المصادرة ان هذه الكتب تحوي “كتب شيعية ويهودية، وكتب في الشعودة والسحر، وكتب صوفية واخوانية، وكتب اباحية وعلمانية”. طبعا ليس من الصعب ان يدرك المراء، بناء على هذا البيان، ان من يقف وراء المصادرة هو الجماعات السلفية التي وجدت موطاء قدم في مؤسسات الدولة، وتم التمكين لها خاصة في شرق البلاد حيث استعان الجيش الوطني بها لمحاربة خصومه من المتطرفيين الاسلاميين، والتمكين لدعوته باستخدام اساليب الدين.

ومن الطرائف بخصوص هذا الموضوع ما نشره السيد منصور بو شناف على صفحته حيث جاء فيه: «القبض على دواعش بالمرج. من ضمن المقبوض عليهم: شياطين دويستوفيسكي وبروتوكولات حكماء بني صهيون ودان براون، والأخطر سأخون وطني لمحمد الماغوط”. وعلق القاص السيد جمعة أبو كليب “ليس بمستغرب في زمن يذبح فيه الناس علنًا وعلى شاشات التلفاز ان يحدث هذا الامر”، الا ان القاص حسن أبو سيف اعتبر ان هذا الخبر جد خطير، وقال: كنا نظن أن الثورة ستأخذ المجتمع إلى التقدم بأسرع وتيرة، فاكتشفنا أن من بيننا أناسًا يركضون إلى الخلف. واضنني اتفق اكثر مع ما ذهب اليه الشاعر عبدالوهاب قرينقو معلقًا على هذا الموضوع حيث قال: «ما حدث في المرج عار آخر! حادثة مصادرة الكتب لو سكتنا عنها ستتحول إلى كارثة، فالذين من المفترض أن يكونوا حماة لأمن المواطن وأمانه يصادرون كتبًا أدبية ومعرفية هي تمامًا عكس ما يزعمون“. نعم، انها كارثه أن يقوم حماة أمن المواطن بمصادرة كتبًا أدبية ومعرفية، كارثه لا يجب السكوت عنها، وسنرى تبعاتها لاحقا ان لم نتدارك الامر.

والله من وراء القصد.

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

التعليقات: 1

  • ليبي أصيل

    هكذا هي السلفية، ولكن اللوم ليس على السعودية بل على بني وطني المغرر بهم ممن إعتقدو أنهم قد أعتنقوا وتابرو على تطبيق الدين تبعا لما عليه سلف الأمة، والحقيقة أنهم خرجوا من المذهب المالكي إلى المذهب الحنبلي المعدل بتعاليم إبن تيمية وإبن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، بل أن هولاء الليبيون أصبحو ترس في ألة أجنبية.

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً