الإستراتيجية الأمريكية ودعم الاستقرار في ليبيا

الإستراتيجية الأمريكية ودعم الاستقرار في ليبيا

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

ليبيا اليوم غير معزولة عما يحصل في العالم. فالصراع الأمريكي، بالدعم البريطاني والأوروبي، والروسي، مع الدعم الصيني، على أرض أوكرانيا، والتنافس الثلاثي: الأمريكي، الروسي، الصيني، إضافة لبعض الدول الأوروبية، على مواقع وموارد بأرض أفريقيا، الذي يلعب دوراً مهماً في صياغة مجتمع دولي جديد بقوانين جديدة بعدما بدأت مؤشرات انحدار سطوة القطب الواحد، والتي امتلكتها أمريكا لعقود، نتيجة التآكل الداخلي الذي تتعرض له المنظومة الداخلية بعد خضوع الرئيس السابق السيد دونالد ترامب للمحاكمة، والذي جاء كسابقة أولى لم يشهدها تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، يأتي الارتخاء في القبضة الأمريكية بعد أن كانت لها اليد الطولة امتثالاً للناموس الكوني الذي تخضع له إمبراطوريات العالم: بداية بالصغر والضعف ثم الشباب والقوة وانتهاءً بالتآكل والشيخوخة ثم الانهيار.

لقد ساهمت أمريكا في بعث ليبيا موحدة بعدم دعم مشروع بيفن سفورزا، بل في المقابل دعمت تحول ليبيا من النظام الفدرالي إلى الدولة الواحدة الموحدة، وصراع أمريكا مع روسيا وتنافسها مع الصين، ومقاومتها للانحدار ستتأثر به ليبيا، فمازالت تملك أمريكا مفاتيح استمراريتها، مع وجود التهديد الصيني والروسي، فمع أنها ثالث أكبر منتج للنفط إلا أنها أقوى دول العالم اقتصادياً، ومع أن السياسة لها اسهاماتها في صناعة الاقتصاد في أحياناً كثيرة، إلا أن الاقتصاد اليوم يُشكل الكثير من سياسات دول العالم، وهذا ما تصنعه أمريكا اليوم بتوظيف اقتصادها، واستخدامها للدولار كأداة سياسية أكثر منها مالية مما يدفع الصين وروسيا للتحرر من الدولار، بما في ذلك لحروب وصنع سياسات وواقع يخدم مصالحها.

واقع اليوم وصياغة الموقف الدولي الجديد:

واقع الحرب الأوكرانية اليوم تستفيد منه أمريكا وكذلك الصين، ومع دعم أوروبا التي تلاحقها الخسارة بحكم الحرب على أرضها، تتقارب فيه روسيا أكبر دول العالم مساحة، وثاني أكبر منتج للنفط الخام، مع الصين صاحبة أكبر تعداد سكاني في العالم وثاني أقوى دول العالم اقتصاديا، ومع أنهما متنافسين وخاصة على التوسع في أفريقيا، إلا أنهما يتحدان في الحرب الأوكرانية ضد أمريكا.

لا يمكن فصل أحداث العالم مجتمعة بما يحصل اليوم مع أمريكا والعالم فما يحدث من شغب ومظاهرات في فرنسا وإسرائيل تعمل على صياغة جديدة للمصالح الدولية، ومن بين أهم المعطيات المقلقة والمشتركة بين الجميع نهوض تركيا ومشروعها النهضوي، التنموي، الحداثي الإسلامي، الجديد! وترقب الانتخابات في 14 مايو 2023، والمقلق للغرب عموماً بالرغم من أن أمريكا الأمس-الجمهوريون استعانت بتركيا لخلق توازن في ليبيا بعد تهديدات الروس بالفاغنر على حدود العاصمة في حرب 2019م، واليوم أمريكا-الديمقراطيون تستعين بجغرافيا الجنوب الليبي وتمنحه في خطتها العشرية الاستقرار والتنمية نصيب لسد الباب عن تدخل الروس من الجنوب بعدما طردت فرنسا منه، واتجهت إلى الصين لتفتح لها نافذة في أفريقيا بل الزيارة الأخيرة للسيد ماكرون تبعتها مباشرة مناورة عسكرية على سواحل تايوان، التي خسرت مواقعها بدول مجاورة وربما ستبدل من موقع علاقتها للعمق الأفريقي من خلال الصين.

ومع محاولات أمريكا اليوم في توظيف الاتحاد الافريقي إلا أن الكاتب يرى بأن استقرار الجنوب وطرد الفاغنر من الشرق والجنوب يتطلب تحسين العلاقات مع تركيا التي ساهمت بطيرانها المسير، والعتاد، وتدريب المقاتلين الليبيين، حسب الاتفاقية العسكرية، في أبعاد عدوان الفاغنر عن العاصمة إلى سرت شرقاً وإلى براك والجفرة جنوبا، إلا أن عقلية الاستئثار بالقوة عند أمريكا قد توقعها في مأزق مع تركيا وخاصة بعد تجرأ سفيرها السيد جيفري فليك زيارة المنافس في الانتخابات لرئيس تركيا السيد رجب طيب أردوغان، السيد كمال كليجدار أوغلو.

بالتأكيد موقف الفاغنر اليوم ليس بنفس القوة والعدد قبل الحرب الأوكرانية فبالتأكيد الحاجة في ساحة أوكرانيا تُعزز من استراتيجيات وخطط أمريكا، في ليبيا، وهذا يؤكده تصريحاتها بشأن التخلص من الفاغنر وجميع القوات الأجنبية بما في ذلك القوات التركية بقاعدة الوطية.

الديمقراطيون اليوم والجمهوريون بالأمس؟

مع التأكيد على أن السياسات العامة الأمريكية لا تتبدل بتغير الحكومة إلا أنه الواضح اليوم بأن سياسات أمريكا ترسمها حكومة الإدارة الأمريكية، أو ربما الأصح توجهها، فعندما كان الجمهوريون بالأمس خلال حكومة دونالد ترامب فكان التقارب الروسي وما يؤكده دعم ترامب في الانتخابات والاتفاق مع الضباط الموالي للروس خليفة حفتر في اقتحام طرابلس في 4 أبريل 2019م، أما اليوم فنجد الحرب الأوكرانية والصراع الروسي، مستعين بالصين المنافسة له، الأمريكي، مستعين بأوروبا، حرب شكلية، فالحرب في واقعها الديمقراطيون بأفكارهم اللادينية يُعززون موقف الصين الكونفوشيوسية بينما الجمهوريون البروتستانت يتقاربون مع الروس الأرثوذكس المسيحين، بالطبع هذا التحليل يعني بأن سياسات أمريكا في أفريقيا بالأمس هي أن تلعب روسيا والفاغنر كدرع واقي لسياسة الجمهورين ضد التمدد الصيني، أما اليوم ستكون السياسة الأمريكية مخالفة وفي الاتجاه المعاكس بحيث يلعب الروس والفاغنر كدرع واقي للصين ضد التمدد الأمريكي! إلا أن هذا لن يغير من أهمية الدور الذي بدأ يلعبه الروس في ليبيا لذلك ستستمر الدعوة الأمريكية لتنمية الجنوب واستقراره.

هل ليبيا ساحة صراع أم محضر خير؟

موقع ليبيا الجيوسياسي يربطها بجنوب أوروبا، مع قواعد النيتو العسكرية، وترسانتها الصناعية المحتاجة للطاقة وموارد الخام الصناعية الأفريقية، وأفريقيا بعد أن استأثر بها الحلفاء من فرنسا وبريطانيا وأمريكا وبنت قواعد عسكرية لتأمين وجودها، اليوم تتدخل روسيا عسكريا عبر الفاغنر، وبعض الانقلابات العسكرية، والوصول إلى مناجم الذهب وموارد الطافة بأفريقيا الوسطى ومالي وبركينا فاسو وغيرها، لتطرد فرنسا من بعض قواعدها، وبدون التزامات واتفاقيات باستثناء الاتفاقيات العسكرية، وتوطيد علاقاتها مع مصر، أثيوبيا، وأوغندا، والكونغو برازافيل، وتنزل الصين بثقلها التنموي على مساحات واسعة من أفريقيا، إضافة إلى الاستثمار في اللغة والثقافة الصينيين، بل وصل الأمر إلى شراء مساحات شاسعة لزراعتها وتوفير الغذاء لشعبها، مع أن هناك من يرى بأن استثمارات الصين فيه توسيع ديون الأفارقة بالأموال المصروفة على المشاريع التنموية.

الواضح وحسب استراتيجية أمريكا اليوم في ليبيا وأفريقيا محاصرة قواعد الفاغنر بأفريقيا من خلال استقرار ليبيا وتنمية الجنوب وصد التمدد الصيني من الوصول للمياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط فليس له من الشمال إلا ليبيا وله الخط الغربي الممتد من المغرب إلى أن يصل جنوباً إلى التوغو وبنين، وموزمبيق من أقصى الشرق، وهذا توضحه الاستراتيجية الأمريكية التي: “تدعم هذه الخطة نهجا متكاملا عبر إقليمي لجهود الوقاية التي تبذلها حكومة الولايات المتحدة عبر منطقة الساحل والمغرب وغرب إفريقيا الساحلية من خلال تعزيز ليبيا أكثر استقرارا وسلاما وازدهارا”.

بالتأكيد أمريكا تحتاج للاستقرار وأمن يصنع السلام بالعاصمة طرابلس، وتركيا متحصنة بقاعدة الوطية، بالبلد الحليف على شمال المتوسط وشاركها فيها الروس، بحيث تحقق مصالحها في المنطقة، ولكن السؤال هل عدم الاكتراث لعلاقتها مع تركيا، التي ستكون الداعم لها في إبعاد الفاغنر، سلمياً أو حربياً، يخدم سياساتها في أفريقيا؟ لا يدري الكاتب هل ستخضع أمريكا في المستقبل إلى قبول مشاركة الروس أم ستتجه إلى الحرب، وليبيا من الدول التي تعمل على تغيير حكوماتها، وهذا ربما يتوقف على الآتي:

  • قناعة الأطراف الليبية، المتصارعة بسبب التدخلات الخارجية، بتغليب مصلحة ليبيا والدفع في اتجاه اعتذار الدولة للشعب الليبي كخطوة أولى نحو المصالحة، والحرص على أن التمسك بالتنافس السياسي السلمي، والاستفادة من خطة أمريكا في رؤيتها للتعاون مع “الاتحاد الأفريقي بشأن المصالحة الوطنية” المنحاز إلى تيار سبتمبر “الجماهيرية” نتيجة لما صرفه القذافي من أموال لشراء الكثير من الرؤساء المشكلين للاتحاد الأفريقي
  • على الساسة في ليبيا التأسيس للحياد مع دول العالم، والحرص على خلق شراكات نفعية اقتصادية مع جميع الأطراف المتصارعة في ليبيا: أمريكا، روسيا، تركيا، الصين، وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، والدفع نحو الاستقرار الذي تدشنه أمريكا، مع الأمم المتحدة “بشأن التسريح، ونزع السلاح، والادماج”، وبدون التقصير في التعاون على جميع الأصعدة مع دول الجوار
  • على المجتمع المدني الارتقاء بالوعي بالتسارع في تبدل العلاقات الدولية، مثلاً السعودية مع إيران، فرنسا والصين، وبما يحصل من تجاذبات سياسية بليبيا والعمل على الدفع بالنشاطات والاتجاهات السلمية التي تخدم ليبيا
  • يمكن لتركيا أن تلعب دوراً مهماً في مساعدة ليبيا وأمريكا على اخراج الفاغنر بشكل سلمي، مقابل مصالح اقتصادية بليبيا، لتكمل أمريكا خطتها في محاصرهم من الساحل الغربي وبدعم موزمبيق من الشرق
  • بوجود قاعدة إنجرليك الأمريكية بتركيا ربما يستطيع السيد رجب طيب أردوغان، وخاصة بعد نجاحه في الانتخابات، أن يضغط على أمريكا في قبولها كلاعب مساعد في استقرار ليبيا وإخراج الروس منها.

الخاتمة:

بالتأكيد الأمر سيبقى على ما هو عليه حتى 14 مايو 2023 وظهور نتائج الانتخابات في تركيا، وفوز السيد أردوغان سيدفع بالتأكيد في لعب دوراً مهماً في استقرار ليبيا، بما يملك من تواصل ومصالح مع الأطراف المتصارعة، إلا أن انشغال الإدارة الأمريكية بانتخابات يناير 2024 قد يؤثر على سير استراتيجية أمريكا في ليبيا وأفريقيا ولكن الانتخابات التركية سيكون لها الأثر الواضح حتى على الاستراتيجية الأمريكية.

ويبقى السؤال المهم كيف سيستغل اللاعبون السياسيين الوطنيين الفترة القادمة في التأسيس لتغليب مصلحة ليبيا على مصالحهم الشخصية والاستمرار في التواصل فيما بينهم، وبما يمكن أن يلعبه المجتمع المدني الضعيف، والذي أشركت أمريكا 35 منظمة “قدمت ملاحظات قيمة وعملية حول مجالات الشراكة دون الوطنية وسط التحول المستمر في ليبيا”، من توجيه لإقناع الدولة بالاعتذار كخطوة أولى وأساسية للمصالحة الليبية.

يظل العامل المساعد والمهم لاستقرار ليبيا هو استيعاب الساسة في ليبيا للتصور الأمريكي بنهجه المتكامل للقطاعات الحكومية الثلاثة (3 D) والمترجمة للعربية السياسية Diplomatic ، والتنموية Development، والدفاعية Defense.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

اترك تعليقاً