الإصلاح بالمصالح والمصالحة وأزمة الفكر المصلحي!

الإصلاح بالمصالح والمصالحة وأزمة الفكر المصلحي!

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

الواضح أننا نعيش أزمة فكر في ليبيا ولا نمتثل لقوله تعالي: “أفلا تتفكرون ..” وأزمة الفكر متداخلة بين ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي ولا نبالغ لو قلنا بأنها أزمة فكر مصلحي في الشأن العمومي. وبالرغم من أننا نلوك بأن شريعتنا القرآن ونطالب بالجهاد لتطبيق شرع الله، بدون فكر أو وعي بما نتلفظ به، بل ونصيح ونزعق به أحياناً، مع أن هناك قاعدة عليها شبه إجماع لفقهاء الشريعة تفيد بـ”تحصيل المصالح ودرء المفاسد”. بل أمام المتشددين اليوم ونقول حتى التكفيرين “أبن تيمية” رحمه الله يقول: “والقول الجامع: “أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى أكمل لنا الدين وأتم النعمة” ويتكرر في أدبيات المعتدلين والمتشددين “أينما (أو حيثما) وجدت المصلحة فتم شرع الله”. وبعيداً عن جدلية المصلحة المصادمة للنصوص يظل السؤال هل استوعب الساسة في ليبيا بأن المتدخلين الدوليين في الشأن الليبي لا يعرفون صداقة دائمة ولا عداوة متواصلة، بل يعملون على خدمة المصالح الدائمة لشعوبهم. وصدق الله تعالى في قوله: “وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب” سورة هود آية 88.

أزمة الفكر والنفاق الديني:

ينتشر ويتوسع الفكر الجامد على النصوص الدينية بدون تفكير ولا يبالغ الكاتب عندما يصرح بانتشار ترديد مصطلحات دينية مغيبة للفكر، فيُقحم مصطلح “إنشاء الله” في غير محله وأنت تسأل عن أسم أحدهم، لتكون الإجابة أسمي فلان “إنشاء الله” بل وتوزع شهادات الكفر على الشمال واليمين دون معرفة أو تفكير! فتُلبس عباءة التدين للرجال والنساء لتساعدهم على النصب والاحتيال وحتى التسول!!  وهذا ديدن الكثير من المتصدرين للمشهد السياسي.

يدعونا قرآننا العظيم إلى التدبر والتبصر والتفكير. ففي سياق الكلام عن الخمر والميسر يدعونا للتفكير والموازنة بين المنافع و الآثام لهما بالآية 219 من سورة البقرة ويقول “…كذلك يبين الله لكم لآيات لعلكم تتفكرون”. ثم جاءت الآية 266 لشد انتباه الانسان إلى كيف يمكن للنعمة أن تتحول إلى نقمة ورماد بعد المعاقبة بالإعصار “..كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون”. وتأتي الدعوة للتبصر والتفكير في سورة الأنعام بالآية 50 “.. قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون”. تتكرر صيغ طلب التفكير بالجمع، فجاءت مفردة بسورة سبأ آية  46″ثم تتفكروا ما بصاحبكم” ومرتان بصيغة “أولم يتفكروا” وإحدى عشر مرة بصيغة “يتفكروا”. بالتأكيد التفكير المصلحي للوطن هو الذي سيقودنا لتحقيق مصالح ليبيا. إلا أن ما سيختصر الطريق لمصالح ليبيا هو انتباه المتصدرين للمشهد السياسي الليبي بأن مصلحة ليبيا تتمثل في إيجاد مخرج لتوافق مصالحهم السياسية دون أقصى لأحد، خدمة لليبيا بعيداً عن مصالحهم الشخصية. لا ننكر بأن معظمهم اليوم يرون بأن مصالحهم تتحقق بمصالح دول أجنبية، مما يقود للتحيز لها وعدم السماح لمشاركة دول أخرى وهذا بالتأكيد يضر بمصلحة ليبيا.

العِناد وأزمة الفكر المصلحي؟

تغيِب العقل وإطلاق العنان للعواطف غير المنطقية يبعدنا عن طرق المصالح والمصالحة. وفي ليبيا نعاني من مصطلح شعبي منتشر بيننا يعبر عن العناد: “عل البونتو” يعني بدون تقييم لوزن المصالح والأضرار أو الامعان بالتفكير في الفكر المصلحي يتم رفض ما يطرحه الأخر وبقوة من أفكار أو وجهات نظر جملة وتفصيلا والتمسك بالعناد الذي لا يحقق أي مصالح، باستثناء المصالح الشخصية الآنية في أغلب الأحيان، وهذا حال أغلب سياسيينا في ليبيا بكل أسف! فلا نجد مبررات منطقية لتصريحاتهم لرفض خدم مصالح الشعب الليبي أو التردد في مد جسور المصالحة. وكما يقال: “الحال من بعضه” فأزمة الفكر المصلحي منشرة في الحياة اليومية فالتهور في قيادة السيارة، والتدخين، وصرف ساعات في النوم والمقاهي لا تحقق أي مصلحة حقيقية للمواطن/ة الليبي/ة. فعندما يطرح السؤال لماذا تدخن في سيارته محملة ببراميل البنزين؟ الإجابة “ربي يستر” فغياب الفكر المصلحي والتعليق على مشجب الفكر العقيم القدري المتخلف أحياناً بأنه “لا هروب من المكتوب” يبعدنا عن مصالحنا ويزرع الشوك على طريق المصالحة!.

الإصلاح بالمصالح:

أزمة الفكر المصلحي على المستوى الشخصي تنعكس على المستوى الوطني، فالسياسي الذي لا يتحرك فكره لأجل مصلحته الحقيقة الخاصة بصحته وسلامته لا يُتوقع منه بأن يستوعب الإصلاح بتحقيق مصالح ليبيا. في ليبيا اليوم ما أحوجنا لتحريك مصطلح المصالح بالشكل الذي لا يخلف وراءه اضرار ضد الشعب الليبي. نعم وعلينا ترديد السؤال عن المصالح التي سنجنيها من هذا التحرك أو هذا التصرف أو توقيع هذه الاتفاقية. فهل الحرب بين الاشقاء في ليبيا ستجلب لنا مصالح؟ وهل صراع الدول الأجنبية على أرض ليبيا سنجني منه مصالح؟ نعم كيف يقبِل من يدعون بأن وطنيون إشعال الحرب بحجة محاربة الإرهاب! أو الجهاد في سبيل الله! أو نصرةً فلان أو علان؟! الإصلاح في ليبيا لا يكون بتخريب وتدمير البنية التحتية المهترية، بل بالبناء والتعمير. الإصلاح لا يكون بالإقصاء الفكري والسياسي والثقافي ولكن يتم بربط جُسور التواصل الفكري والحوار بالفكر المصلحي. فتحقيق المصالح هو من يعبد طريق المصالحة ويبعد شبح الكراهية والحرب والدمار.

المصالح الدولية والسؤال عن المصلحة الليبية؟

من حق الدول المتصارعة على الموقع الجيوسياسي الذي تمتلكه ليبيا وهذه الحقيقة يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة للدولة الليبية، لو وجدت ساسة يسعون لتحقيق مصلحة ليبيا وتوجيه هذا الصراع لمكاسب ومصالح ليبية! الحقيقة المرة هي أن العالم المصنع لأليات الحرب من مصلحته إشعال الحروب لتتحرك الماكينة الصناعية لأسلحة القتل والتدمير، والأَمر من ذلك أنها لا تريد أن تكون الحرب على أرضها، بل والأنكى من كل ذلك يدفعون لتكون الحرب بأيدي شباب ليبيا! الواضح أن سقوط الفكر المصلحي الليبي في غياهب المصالح الشخصية مَكن لتحقيق مصالح الدول بإطالة الأزمة، وعلى رأسهم أمريكا، لتكون ليبيا حلبة صراع بينهم وبأسلحتهم، والأغرب من ذلك بمشاركة عالية من شبابنا وبالوكالة عن شبابهم! غياب الفكر المصلحي، واستشراء العناد “البونتو” سمح بأن تكون ليبيا أرض للصراع والقتال بأموال ليبيا وبشبابها!.

الخاتمة:

الإصلاح في ليبيا يتطلب من الساسة تعلم، بل الارتقاء بـ، لغة المصالح، والفكر المصلحي المطلوب يتم بالحرص على الحياد وفتح قنوات الاتصال، مع أهله قبل جميع الدول المتصارعة ودول الجوار. وعليهم تجنيب ليبيا صراعهم الحربي على أرضها. الفكر المصلحي يسعى، مع بناء القوة كما تفعل تركيا، لكسب الصداقة والأصدقاء بمشاركة المصالح وتجنب العداوة والأعداء بالمناورة، وحتى المماطلة. فالفكر المصلحي مطلوب من ساسة ليبيا لحقن دماء شبابها، وتوفير أموالها للبناء وليس هدرها في الحروب والقتل والدمار. وليكن التنافس السياسي سلمي والحاكم بينهم الصندوق.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

اترك تعليقاً