الاستثمارات الليبية بالخارج الطموح والواقع

الاستثمارات الليبية بالخارج الطموح والواقع

د. أكرم عيسي عمر

خبير الإدارة والتخطيط الاستراتيجي

تعد ليبيا من الدول المصدرة للنفط وتحقق من هذه الثروة عوائد مالية كبيرة وصلت إلي أكثر من 53 مليار في سنة 2012 وتراجعت الإيرادات النفطية بعد ذلك لأسباب أمنية وسياسية تسببت بقفل بعض الحقول والموانئ ولم يتعافى القطاع النفطي حتى نهاية 2018 بوصول الإيرادات إلي 23 مليار دولار واستمر التحسن حتى بداية 2019 بوصول إنتاج ليبيا من النفط الخام إلي 1.4 مليون برميل يوميا.  

وتمثل  العائدات النفطية المصدر الرئيس في تمويل الميزانية العامة للدولة لتغطية مرتبات القطاع العام والنفقات العامة ومخصصات التنمية بنسبة تجاوزت 95% . والفائض من هذه الإيرادات يتم تجنيبه واستثماره خارجيا من خلال محافظ استثمارية وأهمها علي الإطلاق المؤسسة الليبية للاستثمار. ولما لهذه المؤسسة من أهمية اقتصادية كبرى سنسلط الضوء  في هذه المقالة علي نشأتها وأهدافها والتحديات التي تواجهها مع تقديم رؤية يمكن الاسترشاد بها لتنمية وتطوير هذه المؤسسة العريقة.

 

نشأة المؤسسة الليبية للاستثمار:

أنشئت المؤسسة الليبية للاستثمار في 28 أغسطس 2006م بموجب القرار رقم (502)الصادر عن اللجنة الشعبية العامة سابقا،وتم إعادة تنظيمها بموجب القرار رقم (125) لسنة 2007 ، و القرار رقم (184) لسنة 2008 ، و القانون رقم (13) لسنة 2010 الصادر عن مؤتمر الشعب العام في 28 يناير 2010 .

وتعتبر المؤسسة الليبية للاستثمار صندوق سيادي تملكه الدولة ذو شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة. وحدد القانون رقم (13) لسنة 2010 المذكور أعلاه أغراض المؤسسة بالاستثمار في الأموال المخصصة للاستثمار في الخارج وفي كافة المجالات والقطاعات بشكل مباشر أو غير مباشر وذلك لدعم الخزانة العامة وضمان مستقبل الأجيال القادمة والحد من اثر تقلبات الأسعار في أسواق النفط العالمية وتعدد مصادر الدخل.

كما منحت المؤسسة صلاحيات واسعة كالاستثمار وإعادة الاستثمار في اى ممتلكات عقارية أو منقولة أو حقوق أو أصول سواء كانت مادية أو معنوية أو مختلطة بما في ذلك تداول الأسهم والسندات والأوراق المالية والعملات والمعادن والسلع والمواد والمستندات وغيرها ممن يتم فيه الاستثمار.

وللمؤسسة مجلس للأمناء يتكون من رئيس الوزراء وعضوية كل من (وزير التخطيط- وزير المالية- وزير الاقتصاد- محافظ مصرف ليبيا المركزي وعدد اثنين من الخبراء. ويعتبر مجلس الأمناء المسئول عن رسم السياسة العامة للمؤسسة ومراقبة أداءها، وللمؤسسة مجلس إدارة يتكون من رئيس مجلس الإدارة وستة أعضاء آخرين ومدير تنفيذي مستقل يتم تعيينهم جميعا من قبل مجلس الأمناء.

 

الجهات التابعة للمؤسسة الليبية للاستثمار:

أولاً: شركات مملوكة بنسبة 100% آلت للمؤسسة بموجب القانون رقم 13 لسنة 2010

1- المحفظة الاستثمارية طويلة المدى

2- محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار

3- الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية

4- شركة الاستثمارات النفطية

ثانياً: شركات تساهم  فيها المؤسسة بنسب مختلفة.

  • الصندوق الليبي للإستثمار الداخلي
  • شركة الواحات للطاقة و المياه
  • مصرف الطاقة الأول
  • الشركة الليبية النرويجية للأسمدة
  • مجموعة أخرى من الشركات

وتطمح المؤسسة إلي تحقيق عوائد مالية مجزية مقارنة مع حجم الأموال المخصصة للاستثمار وفي أسواق وقطاعات متعددة حيث قدرت قيمة الاستثمارات التي تديرها المؤسسة الليبية للاستثمار بحوالي 67 مليار دولار بحسب التقييم الذي أجرته إحدى الشركات الاجنبية المتخصصة في سنة 2012 وهذا يضع الصندوق السيادي الليبي ثاني اكبر صندوق في أفريقيا و حل في مرتبة العشرين عالميا ، ويتبع المؤسسة أكثر من 500 شركة ( بشكل مباشر و غير مباشر ) تدار من قبل الجهات التابعة للمؤسسة وهي الشركة الليبية للاستثمارات والمحفظة الاستثمارية الليبية الأفريقية والمحفظة الاستثمارية طويلة المدى وشركة الاستثمارات النفطية والصندوق الليبي للاستثمار الداخلي والتطوير كما تدير المؤسسة الجزء المتبقي من الأموال بطريقة مباشرة  في تصنيفات مختلفة تتمثل في :-

  • محافظ أسهم لمجموعة من الشركات الكبيرة في الأسواق العالمية
  • الدخل الثابت و أسواق المال في صورة سندات شركات و سندات حكومية بما في ذلك أدوات أسواق المال
  • محفظة صناديق استثمارية بديلة يتم إدارتها خارجياً

وفي 30مايو 2017 م ذكرت صحيفة ليبيا المستقبل نقلا عن رئيس مجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار أن المؤسسة حققت أرباح عن السنة المنصرمة 2016 قدرت ب 219 مليون دولار في شكل توزيعات أرباح من محفظة استثمارات الأسهم و حققت112 مليون دولار تمثلت في إيرادات من الودائع المالية، وأضافت  صحيفة بوابة أفريقيا بنفس التاريخ أن هذه الأرباح أودعت في حسابات خارجية لغرض إعادة استثمارها.

 

التحديات التي تواجه المؤسسة:

أفردت بوابة الوسط الصادرة بالقاهرة يوم 3 أغسطس 2015 مقالا نقلا عن مجلة اريبيان بزنس الامارتية إنها أجرت لقاء مع رئيس المؤسسة الليبية للاستثمار المعين من قبل الحكومة المؤقتة وصفا المؤسسة الليبية للاستثمار (بمثابة حفرة كبيرة سوداء وأنها عبارة عن حاضن لمليارات الدولارات من عوائد ليبيا النفطية).  وأضاف أيضا أن دولاً افريقية استغلت حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا و قامت بتأميم والتعدي علي أصول واستثمارات ليبية تقع داخل حدودها الإدارية وهي رواندا وزامبيا وتشاد والنيجر و التوجو.

ففي مارس 2017 قامت دولة اوغندة بتأميم شركة الاتصالات والتي تملك ليبيا حصة فيها قيمتها 69% في إجراء يفتقر للدبلوماسية وانتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي .وفي إجراء احترازي آخر سنة 2017 تمكنت المؤسسة الوطنية للاستثمار من استرجاع مبلغ 1.1 مليار دولار من خلال إبرام تسوية مع بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي، الذي تورط في عمليات فساد مالي لإبرام صفقات ما بين 2007 و 2009 بقيمة إجمالية قدرها 2.1 مليار دولار نقلا عن صحيفة عين ليبيا في  4 نوفمبر 2018. ونتيجة للظروف الصعبة التي مرت بها ليبيا بعد أحداث ثورة السابع عشر من فبراير  وما صاحبها من عدم الاستقرار والانفلات الأمني بشكل عام والمضايقات التي تعرض لها العاملين بالمؤسسة بمقرها الرئيس ببرج طرابلس بشكل خاص قررت إدارة المؤسسة في 8 من أغسطس نقل مقرها إلي مكان أخر من طرابلس بالقرية السياحية .

وذكرت صحيفة أخبار ليبيا بتاريخ 17 نوفمبر 2018 أن صحيفة بوليتيكو الأمريكية استلمت عبر بريدها الالكتروني بيان صادر عن المؤسسة الليبية للاستثمار تفيد فيه أن خمس دول أوربية تعدت علي الأموال الليبية المجمدة بالخارج وهى بريطانيا وألمانيا وايطاليا ولكسمبورج وبلجيكا.

وتفيد مصادر صحفية أن تحقيقات فتحت بشان أصول ليبية مجمدة في بلجيكا تقدر ب 16 مليار تم التصرف في عائداتها وأرباحها خلال الفترة من 2011 وحتى 2017 ل وأودعت بمصارف في لكسمبرج والبحرين لجهات غير معروفة . وبناءا علي هذه المعلومات شكل مجلس النواب لجنة لمتابعة الموضوع وشكل مجلس الأمناء بالمؤسسة الليبية للاستثمار التابع لحكومة الوفاق الوطني لجنة هو الأخر للتواصل مع النائب العام ومكتب المحاماة المكلف لمتابعة قضية التصرف في الأموال المجمدة ببلجيكا. وفي إجراء أخر مشابه أوقف محافظ مصرف ليبيا المركزي إجراءات صرف عهدة مالية قيمتها 50 مليون دولار خصما من حساب إحدى الشركات في البحرين كانت في طريقها للاستثمار في مصرف الطاقة الأول والذي اظهر مركزه المالي تحقق خسائر وصلت إلي 400 مليون دولار وكان يسعى لتخفيض رأس ماله لأسباب مالية.

ورغم شح البيانات والمعلومات عن وضع ومصير الاستثمارات الليبية بالخارج وغيابها عن كثير من الليبيين حتى أصحاب القرار السياسي فظل تكوين فكرة عنها وحجم عملها والتحديات التي تواجهها ترد من خلال وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والتي تفتقد أحيانا كثيرة للمصداقية والدقة في سرد المعلومات وأحيانا تستخدم لإثارة الراى العام أو النيل من خصم سياسي لا من دافع وطني والشعور بالانتماء .

 

الرؤية المستقبلية للمؤسسة:

الاستثمارات الخارجية معنية بتحقيق عوائد مالية تساهم في دعم الميزانية العامة للدولة وليس بالإمكان تحقيق هذا العائد في السوق المحلي و لتنوع مصادر الدخل القومي، ومن هنا تزداد أهمية الاهتمام بهذا التوجه الاقتصادي ودعمه وتذليل الصعاب أمامه لتحقيق مبتغاه.  ومن خلال السرد السابق للتحديات التي تواجهها المؤسسة الوطنية للاستثمار والتي جلها كان متعلقا بالبيئة الخارجية للمؤسسة كان لزاما وجود رؤية للتعامل مع المتغيرات المتعددة بأسلوب يعتمد علي مبادرات تحدث تغيرا ايجابيا وتنطلق من مبدأ أن ليبيا دولة واحدة تبني بجهود الكل.

وتؤسس الرؤية علي ان المؤسسة الوطنية للاستثمار هي مؤسسة كل الليبيين تعمل علي استثمار جزء من ثروة الشعب للحصول علي عوائد مجزية متاحة في الأسواق العالمية وتعمل بكل مهنية واحتراف وشفافية ويأتي علي سلم الأولويات أولا: متابعة تطبيق قرار مجلس الأمن الصادر في سنة 2011 بشان تجميد الأصول والأرصدة الليبية بالخارج وتشكيل لجان قانونية وتكليف مكاتب محاماة لها سمعتها لاسترداد الأموال التي تم التعدي عليها.  وطالما أن المؤسسة الليبية للاستثمار هي مؤسسة لكل الليبيين فقد آن الأوان ألان لتوحيد إدارات المؤسسة بين الشرق والغرب سواء من خلال تسوية سياسية أو الاحتكام للقضاء والاعتراف بعدالته ونزاهته فمن غير الممكن قيادة المؤسسة بإدارتين مختلفتين. ولا يمكن أن ننتظر قرارات رشيدة تحت التهديد والابتزاز  وبإعادة النظر للغرض الذي أنشئت من اجله المؤسسة وهو الاستثمار في الخارج واستمرارا لحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في الداخل فالأولي هو إدارة المؤسسة من احد المقرات التابعة لها  بالخارج سواء كانت في مالطا أو تونس او ايطاليا.

ثانيا إعادة النظر في طريقة التفكير في الاستثمار نفسه كمشروع اقتصادي لا سياسي والتحرر من قيود المخاوف والمخاطر والدخول لأسواق جديدة ومجالات واعدة باستخدام آليات الاستثمار الدولي الحديثة وبما يتناسب وإمكانيات المشروع والسوق المستهدف كالاستحواذ والدمج والشراكة وعقود الاستثمار والترخيص وغيرها .واختيار الأدوات الأكثر مناسبة وأكثر ربحية مثل إدارة الأسهم والسندات والأوراق المالية وشراء الأفكار وبراءات الاختراع ، كذلك الدخول في الاستثمارات الواعدة التي تحقق عوائد جيدة مثل قطاع الاتصالات و الصناعات الدوائية ، و التركيز على القطاعات التي تساعد على تحقيق الأمن ألغدائي للدولة الليبية من خلال الاستثمار في القطاع الزراعي ( زراعة الحبوب ) في الدول التي تتوفر فيها المياه و الاراضى  الخصبة. وإعادة النظر في المشاريع والاستثمارات القائمة لدعم الناجح منها والتخلص ممن يشكل عبء علي المؤسسة.

إن التوجه للسوق المحلي يعتبر إستراتيجية مهمة لأنها تحقق أهداف المؤسسة من تحقيق العوائد والرفاهية للمواطن الليبي وتحقيق الاكتفاء  الذاتي لبعض الصناعات والخدمات والذي أجازته المادة الخامسة من القانون رقم 13 لسنة 2010 المعني بتنظيم عمل المؤسسة وذلك بعد موافقة المجلس الرئاسي والذي لن يقف حائلا بين تحقيق هذه الطموحات .

ولعل أهم مجالات الاستثمار هو الصناعات النفطية والبتروكيماوية فليس من الحكمة أن ننتج النفط ونبيعه ونعيد شراء مشتقاته من البنزين والكيروسين وزيوت وشحوم وغيرها أيضا هناك فرص استثمارية جيدة في مجال الصيد البحري والسياحة .

إدارة المؤسسة لابد أن تتبنى الأفكار الطموحة وتدرسها وتضع الخطط اللازمة لضمان نجاحها ولعل احد الأفكار تولدت كنموذج لذلك عند متابعة مئات الآلاف  من الجمهور والشباب الليبي لمتابعة لقاء المنتخب الوطني أمام نظيره الجنوب أفريقي وكان الملعب وأرضيته سيئة جدا وفي الداخل الليبي ملاعب أسوء انشاءت منذ أكثر من 40 سنة تقريبا. ماذا لو استثمر جزء من المبالغ المخصصة للاستثمار في إنشاء مدينة رياضية متكاملة حديثة تقام بها الأحداث الرياضية الدولية ترفع من مستوى الرياضة في ليبيا ويكون عائدها للمؤسسة ووزارة الشباب والرياضة. حين الحديث يتعلق بالوطن يظل أن تحاول أن تضيء شمعة أفضل من أن تلعن الظلام وبدء العمل بخطوة أهون من تعليق الفشل علي ماضي لا يغنى ولا يسمن من جوع.

الرؤية تتضمن أيضا مواكبة التطورات التي يشهدا العالم اليوم والظروف الاقتصادية والسياسية المتقلبة والتي تحتاج إلي متابعة يومية والتعامل معها وهذا يحتاج إلي بيئة عمل داخلية مناسبة من خلال اختيار مجلس إدارة للمؤسسة من العناصر الوطنية المتخصصة القادرة على تقديم الإضافة للمؤسسة و تساعد على خلق الفرص الاستثمارية و معالجة الانحرافات و المشاكل التي تواجهها بعيداً عن المحاصصة و الجهوية وتقاسم السلطة، ومن ثم يبدءا العمل علي بناء هيكل تنظيمي سليم ومتطور للمؤسسة  وتفعيل الوصف الوظيفي لضمان شغل المراكز الوظيفية بالأفراد المناسبين لها بما في ذلك المراكز القيادية ( و لو أدى الأمر للاستعانة بالخبرات الأجنبية المتخصصة)وتنمية وتطوير قدرات العاملين بالمؤسسة والجهات التابعة لها، والعمل بروح الفريق والاهتمام باللجان والمستشارين لتقديم الراى والمشورة لمتخذي القرار بشان متابعة الاستثمارات الحالية ودراسة الأسواق وتحديد الفرص والتنبؤ بالتهديدات والمخاطر التي قد تواجهها استثمارات المؤسسة واتخاذ ما يلزم لمواجهتها وهذا يدعم وجود بنك معلومات جيد يوفر المعلومة المطلوبة في الوقت المناسب.

وبالنظر لأهمية المؤسسة الليبية للاستثمار والتحديات الجسام التي تواجهها وحماية لأموال الليبيين وحفاظا علي ثروة الأجيال القادمة خاصة وان الزمن عنصر مهم في الاقتصاد والاستثمار  فان المرحلة تتطلب من كل من تولي المسئولية لخدمة هذا الشعب واخص بالذكر مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق الوطني والحكومة المؤقتة ومصرف ليبيا المركزي ومجالس الإدارة بالمؤسسة الوطنية للاستثمار أن يتحملوا المسئولية القانونية والأخلاقية أمام الشعب الليبي وان يترفعوا عن صغائر الأمور وإعلاء مصلحة الوطن وايلاء الأموال الليبية بالخارج الاهتمام الخاص وبذل الجهد والتنازل من اجل الوطن لتوحيد المؤسسة وحسن اختيار إدارتها وتهيئة الظروف المناسبة لعملها، ورغم كل الظروف يظل الأمل كبيرا في أن تنتفض ليبيا وتزدهر مؤسساتها وتنعم بخيراتها بسواعد أبناءها وتضحيات شهداءها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أكرم عيسي عمر

خبير الإدارة والتخطيط الاستراتيجي

اترك تعليقاً