الاستراتيجية الأميركية تجاه أوروبا

الاستراتيجية الأميركية تجاه أوروبا

في البدء لابد من التأكيد على قاعدة ثابتة في العلاقات الدولية، وهي أنه ليس ثمة حب أو بُغْض في العلاقات بين الدول، لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بين الدول، لأن العلاقات بين الدول تحكمها دائماً المصلحة، وهي بذلك علاقات “برغماتية” محضة، وهي ليست على غرار العلاقات الانسانية الأخرى السائدة بين البشر المحكومة في الغالب بالعاطفة حُباً أو بٰغضاً.

وتأسيساً على هذه القاعدة، لا ينبغي لأيٍ كان ان يندهش إذا ما عرف ان لدى الولايات المتحدة الاميركية استراتيجية مضادة لأوروبا، ذلك الاندهاش المبني على ما بين الطرفين من تحالف استراتيجي تاريخي.

أن مصلحة الولايات المتحدة كدولة تستدعي أن تكون لها استراتيجية للتعامل مع اوروبا، تماماً كما لديها استراتيجيات أخرى مضادة لروسيا، ومضادة للصين، ومضادة للهند، بل ومضادة حتى لكندا… الخ.

إذا كان حرص الدولة اي دولة على حماية شعبها وارضها وثرواتها، ومصالحها اينما كانت تلك المصالح، يستوجب وضع استراتيجيات مضادة لكل دولة تتماس علاقاتها معها ايجابية كانت هذه العلاقات ام سلبية، فمن باب اولى ان تكون الولايات المتحدة وهي الدولة الاعظم في العالم ان تكون لها استراتيجيات مماثلة. وأي اندهاش من ذلك يدخل تحت مظلة السذاجة وانعدام الفهم.

لذا يُمكن القول بأن الاستراتيجية الاميركية ضد أوروبا، شأنها شأن الاستراتيجيات الاميركية الأخرى، تقوم على أساس حصار الخصم من جهتين أو أكثر، وكنا قد عرضنا في مقالة سابقة خطوط الاستراتيجية الاميركية ضد روسيا، حيث بيًّنا ان خلق حالة حربية في شرق اوكرانيا تسمح بتواجد علني لقوات حلف شمال الاطلسي على تخوم روسيا، هي في حقيقة الحال تهديد علني ومباشر للأمن القومي الروسي من جهة حدود روسيا الغربية.

وكنا قد بيّنا أيضاً أن الاستراتيجية الاميركية تستلزم أن تكون تلك الحالة الحربية في شرق أوكرانيا حالة مستمرة، قابلة للهدنة ولوقف اطلاق النار لأمد قصير فقط، ولن توافق الولايات المتحدة على تسوية نهائية للنزاع في شرق اوكرانيا بأي حال، أي أن أوار الحرب سيبقى متجدداً، لكي يتحقق الهدف الاميركي من خلق تلك الحالة الحربية، وهو إقلاق روسيا بشكل مستمر بهذا الهاجس المخيف وذاك امر سيؤدي بطبيعة الحال الى بقاء الجيش الروسي في تلك المنطقة في حالة استنفار دائم، وذلك سيكلف الخزينة الروسية مبالغاً طائلة من شأنها استنزاف موارد الدولة.

غير أن للأمر وجه آخر في هذه الاستراتيجية الاميركية الماكرة، التي تستخدم العنصر الواحد في حصار اكثر من خصم، ويربط الاستراتيجيات الاميركية ببعضها، بحيث يكون تحريك عنصراً من عناصر استراتيجية من هذه الاستراتيجيات، يكون في نفس الوقت تحريك لعنصر في استراتيجية اخرى، فتحريك النزاع في شرق اوكرانيا هو يعمل في اتجاهين في نفس الوقت، الاول ضد روسيا، والثاني تجاه اوروبا.

فخلق هذه الحالة الحربية في شمال أوروبا، هو ليس لحصار روسيا من ناحية الغرب فحسب، بل هو أيضاً حصاراً للاتحاد الأوروبي نفسه، فأوروبا التي تعاني تاريخياً من خوف يُمكن تسميته (فوبيا روسيا). هذه (الفوبيا) قد تكون هي التي رجحت في الماضي لدى قادة اوروبا اذ ذاك، القاعدة التي مؤداها ان “الهجوم خير وسيلة للدفاع”، ودفعتهم الى القيام بمحاولة غزو روسيا في عقر دارها، قبل ان تقوم هي بغزو اوروبا، ولهذا قام نابليون بغزوته الفاشلة لاحتلال روسيا، وحاول ” ادولف هتلر” الذي لم يكرر محاولة الغزو فحسب، بل كرر الفشل أيضاً.

فرُغم ان الجيش النازي كان قد وصل الى مشارف موسكو، الا أن الجيش الأحمر صده واستمر في مطاردته الى ان احتل برلين، بل تعداها الى قرب الحدود الغربية لألمانيا، حيث التقى الجيش الاحمر السوفييتي مع باقي جيوش الحلفاء وتم دحر وتحطيم النازية مرة واحدة والى الابد.

أقول ان الحالة الحربية التي حبكتها الولايات المتحدة هناك في شرق أوكرانيا، من شأنها بطبيعة الحال استفزاز الدب الروسي وإثارة مشاعره العدائية ضد أوروبا، واستحضار صور القتل والدمار المحفورة في الذاكرة الروسية منذ اعتداء نابليون وعدوان هتلر في الماضي، فضلاً عن ان الحاضر شهد قيام الاتحاد الاوروبي بضم كل دول شرق اوروبا التي تحللت من هيمنة موسكو ومن الارتباط بحلف وارسو، للاتحاد الأوروبي، وكذلك ضم عدد من دول شرق اوروبا الى حلف شمال الاطلسي الذي زاد من حنق الروس على اوروبا وتوجسهم خيفة من نوايا هذا الاتحاد الاوروبي، الذي يبدو كرأس حربه للقوات الاميركية.

وما زاد في اتساع الهوة بين الروس واوروبا، ان دول البلطيق، التي تعرضت عام 1990 لمحاولة من روسيا لإعادة الهيمنة عليها، ورُغم ان المحاولة كانت قد أخفقت في تحقيق مبتغاها، غير أن ما خلفته من هلع في نفوس قادة وشعوب تلك الدول، دفعها الى الاسراع في الانضواء تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، لحماية دولهم من تهديد الدب الروسي المتربص بها.

هذا فضلاً عن ان أوكرانيا نفسها تسعى حثيثاً للانضمام للاتحاد الأوروبي، بل وللاصطفاف في طابور حلف شمال الأطلسي أيضاً، ولما أسقط الأوكرانيون الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا ونصبوا آخر ذي ميول اوروبية، فإن موسكو اعتبرت ذلك تجاوزاً اوكرانياً للخط الاحمر، ما دفع الدب الروسي الى التهام شبه جزيرة القرم واجزاء من شرق اوكرانيا. وذلك كان تصرف واضح الدلالة على ان روسيا لم تعد توافق على التفريط في نصف اوكرانيا الشرقي تحت اي ظرف من الظروف.

هكذا أصبح الدب الروسي متحفزاً مبرزاً مخالبه وانيابه، مثيراً الرعب القديم الجديد في وجه اوروبا، وهو الذي سبق له وأن ألتهم أكثر من النصف الشرقي لقارة أوروبا عندما كان يطارد جيوش “هتلر” المتقهقرة.

ان احتلال شبه جزيرة القرم وشرق اوكرانيا، هو اجراء عملي من قبل روسيا تجاه اوروبا، كما انه امر واقعي وليس مجرد تخمين او افتراض، وذلك ما جعل فرائص اوروبا ترتعد، بعد ان تأكدت من نوايا الروس، وبهذا باتت اوروبا واقعة تحت تهديد حقيقي مستمر من قبل روسيا، وذاك هو أحد فكي الكماشة الاميركية لحصار اوروبا. ان النزاع في شرق اوكرانيا بات شغلٌ شاغل للروس ولأوروبا في آن.

أما الفك الاخر لتلك الكماشة فهو في جنوب الاتحاد الاوروبي، هناك حيث الشرق الاوسط وشمال افريقيا.

بات مؤكداً ان الشرق الاوسط فقد الكثير من بريقه الاستراتيجي على الاقل من وجهة نظر الاستراتيجيين الأمريكان، حيث ان مخزونه النفطي لم يعد يثير اهتمامهم بعد اكتشافات النفط الصخري، الذي ادى الى انخفاض اسعار النفط، فضلاً عن انه لم يؤدِ الى استغناء الولايات المتحدة عن استيراد حاجاتها من النفط فحسب، بل انه دفعها الى السماح بتصدير النفط وهو امرٌ كان محظوراً منذ عدة عقود.

كما ان الاستراتيجيين الأمريكان يرون ان الممرات الاستراتيجية للتجارة العالمية في الشرق الاوسط ، قناة السويس ، باب المندب، و مضيق هرمز، قد تدنت اهميتها امام انتشار استعمال الانابيب في نقل النفط ، مثل خط “نابوكم” لنقل نفط وغاز بحر قزوين الى تركيا، وخطي “السيل الجنوبي” و”السيل الشمالي” لنقل الغاز الروسي الى اوروبا، وخط نقل الغاز من ايران الى الهند، وخط نقل النفط من روسيا الى الصين، وخط نقل النفط من نيجيريا الى اسبانيا، وخط نقل الغاز من الجزائر الى اوروبا، وخط نقل الغاز من ليبيا الى ايطاليا، وغير ذلك من خطوط انابيب نقل النفط .

لذلك ولأسباب اخرى يضيق المقام عن سردها، فإن الاستراتيجيين الاميركيين حولوا اولوية اهتمامهم من الشرق الاوسط الى الشرق الاقصى، حيث تمر السفن التي تنقل مواد التجارة العالمية، وحيث سيكون مضمار التنافس بين القوى العظمى، هناك حيث يتربع التنين الاصفر (الصين)، وحيث يمتد جسد الدب الروسي، هناك حيث الخشية من تغول كوريا الشمالية التي لم تنفك عن محاولة تصنيع اسلحة الدمار الشمال والتي لا تهدد الدول الحليفة للولايات المتحدة في تلك المنطقة بل انها تهدد اراضي الولايات المتحدة نفسها.

لما كان ذلك، وكانت الولايات المتحدة بحكم كونها القوة الاعظم في العالم، لا تزال ترى للشرق الاوسط وشمال افريقيا اهمية استراتيجية اخرى تتمثل في حصار الاتحاد الاوروبي من جهة الجنوب.

لذا فإنها اعادت ترتيب الاوراق الشرق الاوسط بشكل يوشي بمهارة استراتيجية مميزة، وكانت اولى الاوراق هي تدجين إيران وتقليم اظافرها النووية، وازاحة الثقل الاقتصادي التركي من منظومة الاتحاد الاوروبي، وتم تكريس اسرائيل، تركيا، وإيران اثافي ثلاث في الشرق الاوسط. ذلك هو مثلث القوى في الشرق الاوسط، الذي سيكون شغله الشاغل في القرن القادم هو محاربة الارهاب الناشئ عن المنظمات الاسلامية المتطرفة، وذلك بعد تمزيق اتفاقية سايس بيكو واعادة تفتيت باقي دول المنطقة الى دويلات شيعية وسنية وكردية وعلوية.. تقودها جماعات اسلامية ليست متطرفة، وتكون الدويلات السنية تحت مظلة تركيا، والدويلات الشيعية والعلوية تحت هيمنة إيران، وستبقى اسرائيل بيضة القبان في المنطقة.

ومرحلياً تغادر الولايات المتحدة الشرق الاوسط بعد ان اشعلت النار في كل  اطرفه ، وتركت وراءها “داعش” وحركات اخرى متطرفة ستنشر الارهاب في المنطقة ، و ستساعد على اجلاء شعوبها الى اوروبا ، ومضاعفة الهجرة غير المشروعة من افريقيا وآسيا الى اوروبا ، وهو ما من شأنه ان يعرض القارة العجوز لخطر الغزو البشري غير المسلح، هذا من جهة ومن جهة اخرى سيهاجر الارهابيون الى المنطقة من كل فج عميق وذلك سوف لن يكون بالنسبة لأوروبا مجرد فزاعة من نمط “خيال المآتة” فحسب ، بل سيكون ذلك خطراً حقيقياً تحسسته باريس ولندن ومدريد وبروكسيل وبرلين . وهكذا ستكون اوروبا تحت وطأة رعب الارهاب والهجرة غير المشروعة والمخدرات. هذا هو فك الكماشة الثاني في الاستراتيجية الاميركية ضد اوروبا.

وبهذا يتبدى ان اوروبا واقعة بين فكي كماشة، الأول متمثل في الدب الروسي الذي قضم ثلث اوكرانيا، والفك الثاني في الجنوب يتمظهر في الارهاب والهجرة غير المشروعة وتجارة المُخدرات، وتجارة السلاح.

كما ان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي يدخل في سياق اضعاف القوة الاقتصادية للاتحاد الاوروبي، فضلاً عن كونه يعد حصاراً للاتحاد الاوروبي من ناحية الغرب.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عبدالسلام الرقيعي

دبلوماسي ليبي

اترك تعليقاً