التاريخ الليبي المشترك من خلال تعاقب الأجيال

التاريخ الليبي المشترك من خلال تعاقب الأجيال

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

إذا كانت الجغرافيا لها الأهمية القصوى في تحديد هوية أي دولة فإن التاريخ المشترك لمكونات تلك الدولة هو الضامن لاستمرارها والحفاظ على مكتسباتها والتقارب الكبير بين مكونات المجتمع بشخصياته وشخوصه المختلفة، تعاقب الأجيال في الدولة الواحدة يخضع أولا إلى مؤثرات داخلية وسياسات محلية ثم إلى مؤثرات إقليمية ودولية وينتج عن ذلك تغيير كبير للثقافة السائدة ونظرة الأشخاص إلى الحياة مع تعاقب الزمن ومنها يحدث التغيير والتطور الاجتماعي للمجتمع، وثقافة الجيل وما يصاحبها من انحسار الفوارق بين الأفراد والجماعات أصبحت أكثر أهمية في العقود الأخيرة بسبب انتشار وسائل الاعلام المختلفة، مما جعل التحرك الجماعي ممكنا في الكثير من الدول لجلب خير أو دفع ضرر رغم ما يقابلها من نزعة الفردية في المجتمعات الحديثة.

لا يوجد اتفاق على فترة الجيل رغم التعريف الواضح لها وهى الفترة من ولادة إلى ولادة، أي من فترة ولادة الشخص إلى فترة حصوله على أول مولود وهذه الفترة تتغير من شعب إلى أخر وبين الريف والمدينة، ولذا هناك من قال أن الجيل ثلاث وثلاثين سنة وآخرين خمس وعشرين وغيرهم بين العشرين والثلاثين، وهذا طبيعي لأن الزمن يحتوي على فترة النشاط الجسمي والعقلي من خمسة عشر إلى الثلاثين وفترة طفولة.

أجيال النصف الأول من القرن العشرين:

تميز النصف الأول من القرن العشرين بعدم الاستقرار إلا لسنوات معدودة، فبعد دخول الإيطاليين في سنة 1911م كان هناك رفض ليبي جماعي لتواجدهم وبذلك أنظم الشباب في حركة المقاومة والجهاد ضد المستعمر الدخيل، ورغم أن الشعور الوطني لم يكن ناضجا في تلك الفترة ولكن كان الجموع تحركهم قناعة محاربة عدو الدين وهو ما جعل التعاون بين فئات المجتمع من جميع أنحاء ليبيا موجه ضد عدو واحد قبل أن يقوم الايطاليين بحبك دسائس “فرق تسد” بتقديم السلاح والمال للعملاء من أجل ضرب حركة الجهاد، ويسرد لنا التاريخ الكثير من المعارك في الغرب والشرق والجنوب التي شارك فيها العديد من المكونات والمدن والقرى جنبا إلى جنب وأحرزوا انتصارات باهرة.

ولقد ساعدت شبكة القرى والواحات لمد المجاهدين وتقوية عضدهم وترتيب صفوفهم لإعادة الكر على المستعمر، ومنهم من أستقر به المقام في المكان الجديد إلى اليوم. في فترة الثلاثينات وبعد القضاء على حركة الجهاد تواصلت حركة التجارة والنقل بين الأجزاء المختلفة لليبيا وقام الكثير من النشطاء بالإشراف على نشر التعليم وإيصاله إلى المستويات الدنيا والطبقات المهمشة من الشعب خلال الثلاثينات والأربعينات مما خلق جيل له رؤيا رافضة للوصاية ومطالبة بالاستقلال في نهاية الاربعينات من القرن الماضي.

أجيال النصف الثاني من القرن العشرين:

الفترة من سنة 1945 إلى 2025 يمكن تقسيمها إلى ثلاث أجيال، جيل الستينات وجيل السبعينات ثم التسعينات ثم جيل الألفين، أما الثمانينات فهو جزء من السبعينات وجزء من التسعينات، وهذا التقسيم له حيثيات دولية وإقليمية فمثلا جيل الستينات هو جيل التحرر من الاستعمار وبداية الدولة، أما جيل السبعينات فهو أخر الأجيال الكلاسيكية التقليدية جيل ما بعد هزيمة 1967م، يأتي بعده جيل التسعينات هو جيل الصحوة الإسلامية والتيارات الدينية،

جيل الستينات جيل المهارات:

يبدأ من مواليد بداية الأربعينات إلى 1955م، هذا الجيل عاش طفولة الفقر والعوز ونقص في الغذاء والملبس فأوجد لنفسه سبيلا لاكتساب مهارات متعدد وحرف مختلفة، فهو مزارع وصانع ويجيد البناء وهو معلم أو موظف، عاصر بداية استقلال ليبيا وتحصل على المعونات الامريكية  من دقيق وذرة للبيوت وحليب في المدارس، جيل سكنت عدة عائلات في بيت واحد، تقاسم الجميع المتوفر من المؤن، ولا أسوار عالية بين الجيران، وهو جيل النظام الطبقي الملكي والاصطفاف القبلي في الانتخابات، وهو جيل الانتعاش الاقتصادي في الستينات وإنتشار الوجودية في الغرب وما رافقها من الانحلال، ولها إنعكاس داخلي في إنتشار الملاهي والحانات بالمدن، وهو كذلك جيل العمالقة من الكتاب أمثال العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ والممثلين مثل إسماعيل ياسين وفريد شوقي وعبدالمنعم مدبولي ورافق هذا الجيل الأفلام المصرية حيث تعرض في ديار عرض في طرابلس وبنغازي وهناك عرض للأفلام متنقل لكل المدن والقرى الليبية من وزارة المعارف، والتي لها كذلك صحف يومية ومجلات أسبوعية مثل البلاغ والحقيقة  وليبيا الحديثة. بدا الراديو في ليبيا سنة 1957 ولكن عدد الأجهزة قليل والمتوفر منها كبير الحجم يصعب نقله حتى منتصف الستينات عندما إنتشرت أجهزة الراديو المحمولة، برعت خديجة الجهمي في البرامج الاجتماعية بالراديو وعلي الشعلية ومحمد مرشان ومحمد صدقي في الأغاني العاطفية، أما الباقي فمعظمة إنتاج مصري مثل ليلى مراد وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب واللبنانية مثل صباح وفيروز.

هذا الجيل له علماءه وكتاب ليبيين أفداد، منهم على مصطفى المصراتي وبعيو وفشيكة ومن قبلهم الطاهر الزاوي وعلى معمر، وكان أخر المميزين الطادق النيهوم وعمر النامي وعمر الشيباني وخليفة التليسي. وللبعض من جيل الستينات فرص للدراسة في أمريكا وبريطانيا والعراق ومصر، ولهم وجهة سياحية الى المغرب ومصر، ولقد أعطيت الكثير من الفرص للشباب المهتم بالدراسة كمنح من روسيا وأمريكا وبريطانيا.

أما عن الاناقة فهي بارزة عند رجالات الدولة الذين يتميزون بالقيافة العالية والملابس النظيفة والزي الموحد للكثير من مؤسسات الدولة مثل المصارف والجيش والشرطة والمستشفيات وبعض المدارس، وكذلك المهنية العالية في التعامل والشروط التعجيزية لقبول الموظفين، حتى أن البطالة تجاوزت 30 في المئة من الشعب الليبي مع وجود موظفين وعمالة أجنبية مثل المصريين والايطاليين واليهود.

جيل الستينات لا يحمل طابعا إيديولوجيا سوى النخبة (التي انقسمت بين ناصريين وقوميين عرب والاخوان والشيوعيين) ولا تهمه المذاهب، بل أنه أقل تدينا مما نراه اليوم وأقل اهتماما بالمسائل الدينية والعقائدية، وأقل مراعات للشعائر الدينية، فالمصلين قليلون ومن يحج أو يعتمر أقل، ما يهمه هو التنمية والخروج من الفقر. بالمقابل جيل الستينات غيور على وطنه خادم له صادق الى حد كبير خالي من النفاق خدوم لابناء وطنه. فمنهم من لازم الزراعة والرعي وهم الاعظمية من السكان ومنهم من تحصل على عمل مع يهودي في دكان أو إيطالي في مزرعة والقلة لها عمل في الحكومة.

جيل الستينات كل الوقت كله له، الجلوس على مأدبة الغذاء الجماعية عادة متواترة والقيلولة بعد الغذاء لا مفر منها وتناول كوؤس الشائ الأخضر مع الخبز للعامة، أما عند زيارة عزيز فان الكرم يكون بالشاهي الأحمر مع اللوز. ويستمر الحديث والسمر الى أخر الليل. أما الشباب فهم في مقاهي الليبين والايطاليين مثل مانيسكو وأليسكو وشاطي الليدو رغم فقرهم وقلة ما بين أيدهم.

أما عن المراءة فلم يكن اللباس الجاهز متوفرا للعامة وكانت مكينات الخياطة التي دخلت حديثا سبيلها الى تفصيل ملابسها؛ القفطان والرداء والفراشية وحداء الفيلالي لباسها المتداول، ولا وجود للعباية السوداء، والفضة والسواك والكحل طريقها للتزيين، وبذلك شاعت محلات بيع الكتان، مثل الفيرا والكريشة للرداء والباصمة وشنب جمال للنصف الأعلى من القفطان حيث أن الكثير من النساء لا يستطعن شراء 3 أمتار من الكتان للقفطان الواحد، أما الكتان المخطط والدوك للرجال. في حين أن المعدومين من الفقراء قد قاموا بخياطة أكياس الدقيق وأستعملوها لتفصيل السراويل والقمصان.

جيل الستينات عاصر عدة انتخابات لمجلس النواب أخرها سنة 1964م وكان مشاركا فعالا، رغم ما صاحب ذلك من قبلية مقيته وصلت إلى إنقسام مجتمعي في الكثير من المدن الليبية. ومارس الرياضة في المدارس وأنشاء النوادي بالامكانيات قليلة، وأشرف على الفرق المسرحية والموسيقية في نهاية الستينات، ومنهم من تعلق قلبه بالكشافة وبرامجها العملية لتدريب النشء وخدمة المجتمع.

جيل الوضوح لا نفاق فيه وعمل لا توقف له  ومهارات لا تنتهي وصدق لا كذب له ومعانات علقت بذهنه، حتى أن أحدهم رفض علم الاستقلال بعد ثورة 2011 لأنها تمثل له حياة الفقر والمعاناة المطبوعة في الذاكرة.

جيل السبعينات جيل الطفرة:

جيل الطفرة جيل مواليد من1955 إلى 1985 أكبركم سناً عمره الآن 67 سنة، وأصغركم سناً عمره 37 سنة. هو جيل الغني بعد الفقر، والتعليم بعد جيل الامية والانفتاح المحدود بعد الانغلاق الكامل. هذا الجيل عاصر حروب طاحنة منها حرب لبنان في 75 وحرب ليبيا ومصر في 77 وحرب تشاد في 79 وحرب العراق وإيران.

في الطفولة كانت البداية مع التلفزيون الأبيض والأسود ثم الملون، شاهدوا كارتون سندباد ومغامرات ناحول وافتح يا سمسم، وهناك من أستمر في متابعة ماوكلي , وريمي , وهايدي , والمناهل ،وسامبي، والكابتن ماجد والنمر المقنع. ونادين، ومن ألعابه الغميضة والخميسة ووابس و الأولاد صنعوا سياراتهم من علب حليب الكرنيش وزيت قرطاج وأصطادوا العصافير بالمقلاع او الفخاخ، أما البنات فصنعن العرائس من قطع الخشب وخرق الكثان، والبيوت من صناديق الكرتون. جيل لم يتدمر صغاره ولا كباره من عصاء شيخ المسجد ولا من مدرس الفصل وتعلم أن المعلم هو الاب والجار هو العم والصديق هو الأخ، والمجتمع هو الحاضنة.

أما الكبار فكانوا من متابعي مسلسلات فارس ونجود و الغروب وليالي الحلمية ولن أعيش في جلباب ابي والعيال كبرت والولد سيد الشغال ومسرحيات ريا وسكينه, ومدرسة المشاغبين، ولا ننسي مغامرات غوار الطوشي ووادي المسك، جيل أستمع كثيرا لامكلثوم في المقاهي تردد اروح لمين ودارت الأيام والاطلال و أنت عمري. وفي المساء يجتمع على الريمينو والشكوبة إلى أخر الليل.

جيل يحب القراءة جدا، ومغرم بالقصص والروايات العالمية مثل البؤساء والشيخ والبحر وأحدب نوتردام و مجدولين وذهب مع الريح. ولا شك أنه يطلع على الاخبار اليومية في صحف البلاغ والرائد وليبيا الحديثة ثم الفجر الجديد والفاتح والشمس والجماهيرية.

جيل الطفرة عاش بدايات الصحوة وبزوغ فجر رجال الدين والدعاة والاستماع الى مشائخ الازهر، وتأثر البعض منهم بذلك الخطاب الديني، من هؤلاء الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي أهتم بالتفسير، أما أشرطة شيخ الكشك التي إنتشرت بين الشباب كالنار في الهشيم لما لها من معارضة وقدح في حكم العسكر وحكم الاستبداد، إضافة الى كتابات سيد قطب وشعر أحمد فؤاد نجم والشاعر عبد الرحمن الابنودي المنادين بالتغيير والخروج عن العسكر والذي تحقق لاحقا وأجهض.
جيل عاش جيلين مختلفين : تربية الأجيال السابقة من الصدق والأمانة والمبادرة والقيادة والعيش في جيل العولمة وإنتشار المعلومة، حتى أصبح له التصور الصحيح للدين والحياة، جيل لا يخشى عليه من تقدم العمر فهم الأكثر فهما للحياة، إنهم جيل الزمن الجميل.

جيل السبعينات جيل الطفرة، بازدياد دخل ليبيا من النفط زاد المستوى المعيشي للافراد وتوفرت فرص العمل وأصبحت ليبيا ورشة شمال افريقيا حتى سنة 1977م أي قبل وقوعها في مخطط التفقير والحروب وضياع أموال الدولة في شطحات السياسة مثل حرب تشاد والانفاق على التسليح.

جيل السبعينات كانت دراسة البعض منهم في بريطانيا وأمريكا حيث كان الايفاد على نطاق واسع، ووجهتهم السياحية اليونان وإيطاليا ورومانيا وبولندا ثم تركيا، وساعد على ذلك أن الدينار الليبي يعادل 3 دولارات، قبل 1982م. ولذا فهو جيل متفتح تعلم اللغات وجال الكثير من الدول وأطلع على نظمها وتأثر بالنظام الغربي كثيرا ولذا هو الممثل للطبقة العاملة الوسطى في أجهزة الدولة الليبية حتى الان.

جيل التسعينات: جيل الصحوة:

ينتمي لهذا الجيل مواليد 1975 إلى 1995م وهو جيل مختلف عما سبقه من أجيال، جيل التسعينات نتاج لتفسير هزيمة 5 يونيو 1967م حيت أنقسم المفكرون المسلمون إلى قسمين؛ الأول يحمل العسكر والاستبداد الهزيمة والتخلف، ولذا يخلص الى أن الصحوة يجب أن تتجه للتخلص من الأنظمة الاستبدادية القائمة، وهؤلاء يمثلهم الإسلام السياسي وعلى راسهم تيار الاخوان المسلمين، أما القسم الاخر فيفسر الهزيمة بسبب ابتعاد الأجيال السابقة عن الدين (كما أسلفنا)، ولذا عاقب الله المسلمين بالهزيمة والتخلف، وهذا يتزعمه التيار السني السلفي بشتى أنواعه.

إنحسر التيار الأول بسبب الضربات الموجعة من العسكر لاتباعه في مصر وسوريا وليبيا والجزائر وبقي التيار السلفي في المشهد بتمويل غير محدود من السعودية، وموافقة الحكام العسكر، لأنه يهادن السلطة ويقف معها ويقتصر عمله على مناصرة العسكر والاستبداد في محاربة الحداثة والديموقراطية والانتخابات وأي تعاون مع الغرب، وتسطيح الدين لينصب على أمور طقوسية وروايات وقصص مختلف عليها مع وقوف التاريخ عند القرن الثالث الهجري.

ذلك الضخ الإعلامي في الكثير من القنوات التلفزيونية والمواقع والتسجيلات أوجدت جيل الحركة السلفية في ليبيا الذي أن كان متعطشا لهذا الخطاب بسبب تسفيه العقيد القذافي للسنة النبوية ومنع الحديث عنها لسنوات. هذا الجيل رفضه النظام الجمهوري في بداية الثمانينات وأطلق عليه مجموعات الزندقة، ثم أجازه بعد حادثة القصف الأمريكي لمواقع في طرابلس، تم تحالف معه بعد سنة 2005 عندما أصبح أحد أبناء العقيد القذافي مؤمنا بهذا الفكر. ومن الملاحظ أن قبل سنة 1986م لم يكن هناك شخص يسدل في ملابسه أو يقبض في صلاته ولا أحد يهتم بتراص الارجل ولم يسمع أحدهم بالتهجد أو استعمال السواك للرجال في ليبيا ولن تجد شاب اطلق لحيته، وهذه تقاليد المالكية والاباضية، بعدها تحول جمع كبير من الشباب إلى تلك المظاهر القادمة مع المذهب الحنبلي السعودي.

هذا الجيل عاش في فترة طغيان الدولة، فحضور المعسكرات الصيفية لاشبال وبراعم الفاتح قصرا، وحفظ مقولات الكتاب الأخضر في المدرسة وقبل نشرة الاخبار وفي الاحتفالات عادة يومية، كما أنه جيل الوقوف في طوابير طويلة من أجل علب الحليب أو الطماطم أو قطع الصابون، جيل سجلت في كتيب العائلته ما تحصل عليه من أثاث البيت مثل ثلاجة أو غسالة، ووضع له مخصصات سنوية للصرف الأجنبي لم تلتزم بها الدولة سوى مرات معدودة.

جيل التسعينات أكثر تعبدا والتزاما بالصلاة، وأكثر إهتماما بالسنة النبوية وحفظا القرأن الكريم وغيرها من المسائل التعبدية الشخصية، ولذا يمثل الشيحة الأعظم من أئمة المساجد، والقليل منهم من يزاول المهن وهو جيل لا يقراء غير القرأن وكتب المذهب الحنبلي، سماع لمحاضرات مشائخ الحنابلة، ولكنهم أقل التزاما بشؤون المجتمع مثل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بشؤون الامة ووسائل نصرتها وبناء عزتها ودفع الضرر عنها، والأخطر من ذلك هو فصل الاخلاق عن الدين، ليصبح الدين طقوس تؤدى مثل الصلاة في المساجد وتلاوة القران وصيام أيام محددة من السنة، ومحاربة السحر والصوفية وتبديع المختلف في المذهب، أما الصدق والأمانة والعمل الصالح ومحاربة التهريب والايفاء بالعهود فهي ثانوية.

جيل التسعينات تابع تفكك يوغسلافيا وحرب البوسنة والهرسك والحرب الشيشانية والجرائم الفظيعة في روندا وحرب الخليج الثانية، .

خلال ثورة فبراير 2011 لم يشارك منتسبو السلفية في الثورة وألزموا بيوتهم بناء على فتاوي مشايخ حنبلية، ولكنهم ما أن نجحت الثورة وإستثبت لها الأمور حتى أصبح لهم قوة عسكرية ضاربة بعدة مسميات والاهم من ذلك هو الاستيلاء على الأوقاف بما تملكه من إمكانيات مادية وسلطة في تعيين خطباء المساجد ومراكز تحفيظ القران لتصبح هذه الفرقة من أكثر المؤثرين في الراي العام، بنشر فكرها المناهض لتأسيس قواعد الدولة، منها الصدح العلني بتحريم الانتخابات والديموقراطية وتحريم معارضة السلطة أو محاسبتها أو نشر مقالات عنها وهو يعارض مبدا الحكم الرشيد ويشجع على الفساد والمحسوبية.

هذا التيار سفه كل المنظومات السابقة مثل تحقير المذاهب المتبعة والاهتمام بالأمور الثانوية مثل شكل اللباس ومحاربة السحر وتبديع الصوفية والدخول في نقاشات جانبية مثل حلق اللحية وإسدال اللباس ولعب الكرة والبناء على القبور وغيرها من المسائل الثانوية بديلا عن معالجة مشكلة الشورى والتبادل السلمي للسلطة والتاخي والتراحم ووسائل بناء الدولة وإسعاد البشر بما أتاهم الله من خير بدل نبذ الدنيا والعيش على مخترعات وتقنيات الدول الكافرة كما يزعمون.

رغم هذا فان القسم الاخر وربما الأكبر من الشباب هم شباب بداية العولمة، في طفولتهم انتشرت الألعاب الاليكترونية مثل أجهزة أتاري وسوبر ننتندو وبعد ذلك بلاي ستيشن، وللكبار كان التلفزيون الملون والفيديو يعرض الأفلام المختلفة مثل المسلسلات الأردنية والسورية، والمسلسلات المكسيكية المدبلجة، وهذه الفترة بداية الدورات على برمجيات الحاسوب، ولكن هذا الجيل كذلك عانى من سنوات الحصار، من منع استيراد السلع الترفيهية والفواكه وقلة أستيراد المواد المعمرة. وواجه هذا الجيل إنهيار الدينار الليبي إلى ما يقارب 3.5 دينار للدولار الواحد. فشاع تهريب المواد الغذائية المدعومة إلى الخارج والتي ساهم فيها الليبيين كثيرا.

في هذه الفترة شاع استعمال الصحون الفضائية لالتقاط القنوات ولكن بمبالغ خيالية وبموافقة من الدولة لتركيب صحن فوق البيت، كما أن جهاز الكومبيوتر والطابعات تحتاج إلى موافقة أمنية لاستعمالها، بل أن الطلاء الرشاش يمنع بيعه أو استعماله مخافة أن يستعمل في كتابة المناشير ضد السلطة. هذا الجيل كذلك وضع في  معسكرات التدريب ففقد أي امل في الحصول على عمل بديل سوى الجلوس في المعسكرات والقواعد العسكرية بالالاف.

أخيرا أن وجود هذا الجيل على منابر المساجد ودعم الأوقاف لهم أسهم كثيرا في فشل قيام الدولة الليبية مثل تحريم الأحزاب والانتخابات والديموقراطية وتثبيط الناس للمطالبة بحقوقهم المشروعة وشرعنة الفساد لمجلس النواب والدولة والحكومات والفتوى بعدم الخروج عليهم أي جيل ساعد على إدامة الفوضى ولكن دون تعميم.

جيل الألفينات: جيل العولمة أو الجيل الرقمي

جيل الألفينات ولد في ظروف مختلفة عمن سبقه من أجيال فهو جيل نهاية الأيديولوجيا من توجهات سياسية ومذاهب دينية، جيل تسلح بالمعلومة وهو صغير، جيل الفردية والانطلاق الى الأفضل. ينتمي لهذا الجيل مواليد ما بعد 1995م فتح عينيه على تقنيات العصر. في طفولة هذا الجيل كانت قناة سبيستون (قناة شباب المستقبل) المنهل العذب للعلم والثقافة والترفيه، فتابع الكواكب العشر وأبطال الديجتال وغامبول ، ثم تحول على  ألعاب الاكشن المختلفة من أتاري إلى سوبر ننتندو وألعاب الثلاثة أبعاد وأخيرا الى  أجهزة رقمية وسائل اتصالات محمولة وإنترنت ببرامج وتطبيقات لا تنتهي على رأسها وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وأنستجرام والاتصال في مجموعات على الواتس اب.

هذه الأجهزة جعلت منه شخصا ملما بثقافة العصر ولكنها أتعبته ورسخت للانطوائية والعزلة والفردية في العمل والانجاز، بالمقابل تحرر من القيود المذهبية والقبلية وأصبح العالم مجاله، وتطوير قدراته ومهاراته ديدنه. جيل الألفينات لم يعد يقرا الصحف والمجلات الورقية ولا يعبا بالسياسة كثيرا، مأسورا في قلاع التواصل الاجتماعي، والمهارات الفردية فلم تعد الهندسة والطب من أولويات طموحه بل انتقل إلى مجالات أخرى مثل تقنية المعلومات والشبكات بشتى فروعها.

من الناحية الدينية انتقل جيل الألفينات من الخطاب التقليدي الذي يعتمد على التهديد والزجر والوعيد لشيخ بمظاهر داعية يرتدي جلباب قصير ولحية طويلة الى مدائح او دروس لأشخاص بمظاهر عصرية تنوه إلى سماحة الإسلام وعظم شأنه.

نعم لم تتاح لهذا الجيل فترة استقرار ولا دعم من الدولة ولا مواطن شغل، ولكنهم شعلة فردية مضيئة، فهم من وصل الى أعلى المراتب في سباقات الرياضة والموسيقى والادب وحفظ القران الكريم، رافعين اسم ليبيا عاليا في الكثير من المسابقات الدولية، ومنهم من أوجد لنفسه عمل بقدراته وهوياته، ومنهم من سقط فريسة للمجموعات المسلحة الخارجة عن القانون بسبب الحاجة الماسة إلى عمل.

جيل الألفينات هو الشعلة لثورة 17 فبراير 2011م وهو كذلك في أكثر من اثني عشر دولة أخرى، جيل أمن بالحريات الانسانية العامة وتحرر من قيود الأيديولوجيا، فكان انحيازه للوطن باهرا، قدم هذا الجيل ألاف من الشهداء في سبيل إنهاء حكم الاستبداد وهو المحرك لمقاومة حكم العسكر وداعش، وهو الضامن لاستمرار التغيير لأنه جيل التغيير بلا شك.

لا شك أن جيل الالفينات في كل قرية ومدينة هو المحرك للبناء وللأعمال الخيرية وتقديم المساعدة بلا تمييز، فهو الواثق من نفسه، المنجز للعمل بروح الفريق، وهو الذي بنى قدراته وكفاءته في مقتبل العمر ولم ينتظر حتى يشيب راسه وينحني ظهره حتى يصبح خبيرا أو حكيم، فلقد تغير العالم، وهذا مالم يدركه أجيال صناع الفشل السابقين المتشبثين بالكراسي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً