الدستور الليبي والبحث العلمي!

الدستور الليبي والبحث العلمي!

اطّلعتُ على المبادىء الأساسيّة من نسخة الدستور التي أعدّتها لجنة الستين والتي برأيي المتواضع ورغم الجهود المبذولة من طرفهم لم تَرقَ إجمالًا إلى المستوى الذي كُنّا نتطلَّع إليه خاصّةً أنَّ اللجنة تحوي نُخبة من القانونيين المخضرمين ، وقد استوقفتني المادة 44 التي تنصُّ على: ” تخصص الدولة نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن إثنين في المائة من الدخل العام الإجمالي لتنمية البحث العلمي وتشجيع الإبداع ، كما تكفل سبل المساهمة الفعالة للقطاعين الخاص والأهلي في هذا الشأن ” ، وقد رأيتُ أن أُعلِّق تحديدًا على هذه المادة بحكم اختصاصي.

على الأرجح أنَّ لجنة الدستور قد اعتمدت في وضع هذه المادة على مبدأ أنَّ مقياس التقدُّم للدُّوَل ينعكس في نسبة الإنفاق على البحث العلمي مقارنةً بالناتج القومي الإجمالي والذي تقبع فيه ليبيا حاليًّا في آخر القائمة عالميًّا ، لكنّ وضع هذه المادة وتضمينها في الدستور كان عاطفيًّا ، فلا ترقى الدًّوَل بمجرَّد تخصيص نسبة معتَبَرة من الإنفاق الحكومي لمجال البحث العلمي تقترب من النسب الأعلى عالميًّا دون وجود قاعدة سليمة له.

يجب الاهتمام بالبحث العلمي وتهيئة المناخ المناسب له بعيدًا عن الفساد الذي استشرى في جميع مفاصل الدولة بما فيها البحث العلمي ( وقد شَهدتُ بعضه ) كَي ينمو تدريجيًّا على أساس وقاعدة علميَّة وتنافسيَّة صحيحة قد نستعين فيها مبدئيًّا بمؤسسات دوليَّة لتَجنُّب المحاباة والنهب المُقَنَّن والارتزاق غير المشروع الذي يمتهنه الكثير من الحُذّاق.

البحث العلمي ضرورة لا بُدّ من تفعيلها ووسيلة وهدف في آنٍ معًا لا مَناصّ من الوصول إليه ، لكن أن نُقَنِّن نسبة لا تقلّ عن 2% من إجمالي الإنفاق الحكومي وبنصٍّ دستوري تحت مُسمّى البحث العلمي فذلك إفساح للمجال لإهدار موارد الدّولة في ظِلِّ ثقافة  ” الغنيمة ” التي تَغَوَّلت أكثر بعد ثورة 17 فبراير في مُجتمعٍ كان ولا زال يسوده الفساد ، وكأنِّي بكُم بهذه المادّة تقولون وبحُسن نيّة وباللهجة الليبية : ( هاكُم أكثر من مليار دينار كل عام ودبروا كيف تصرفوهم)! تحت نص دستوري.

لقد تردّدتُ  كثيرًا قبل كتابة هذه المقالة ، فقد عوَّدَنا المسؤولون عن صَمِّ آذانهم قَبل وبعد ثورة فبراير ما أحبَطَني ودفَعَني للانزواء والتوَقُّف عن الكتابة منذ فترة ( ولَستُ أنا أبا الطيِّب لأُسمِع مَن به صَمَم )! لكنّ الأمر وصل لدسترة ما أراهُ معيبًا حتّى إن كان دافع المُشَرِّع غير ذلك.

كتبتُ عشرات المقالات قبل وبعد الثورة بما في ذلك ما يخصّ البحث العلمي وأشرتُ إلى  المستوى الوضيع الذي نحن فيه ، وللمقارنة والمقاربة فقد كان عدد براءات الاختراع العالميّة للعام 2008 :     28774 لليابان ، 61 للسعودية وواحدة لليبيا (لم تُمَوَّل من هيئة البحث العلمي بل كانت بمجهود وتمويل شخصي) ولم أسمع عن أخرى منذُ ذلك الحين.

الخُلاصة أنني لستُ ضدّ تمويل البحث العلمي بل من الداعمين لذلك بقوّة، لكنني أرى أنّ ذلك يتأتّى من خلال الدعم التدريجي مشروطًا بالنتائج ومصحوبًا بإشراف مؤسّسات دوليّة مرموقة لا من خلال دسترة نسبة تقارب الأعلى عالميًّا دونما ضامن لمردود ، كما أنني أتحفَّظُ على كفالة الدستور لسبل مساهمة القطاعين الخاص والأهلي في دعم البحث العلمي فهذا يأتي تلقائيًّا من خلال تبادل المنفعة والتنافس لا بنصٍّ دستوري .

أخيرًا أُذكِّركم ببعض ما كتبت في مقالة لي بعنوان (البحث العلمي بين الأماني والواقع) الذي نُشِرَ بشهر مايو 2010 :

” إذا رجعنا إلى المراكز البحثية فمن الواجب أن تقوم على منهج واضح المعالم وبشفافية كاملة، وأن تكون هناك قاعدة بيانات دقيقة عن النشاط العلمي الجاري، وأن يوجّه الإنفاق لأهداف محددة وبشكل خاص على البحوث القابلة للتطبيق أو للاستفادة منها بشكل مباشر؛ ومن الواجب أن نستفيد من تجارب من سبقنا حتى لا تتكرر الأخطاء ولنا في التجربة المصرية خير مثال، فقد ولدت متعثرة مرتبكة (كحالنا الآن) وبقت كذلك لعقدين من الزمن منذ إنشاء المركز القومي للبحوث سنة 1956، ولم تتقدم إلا بعد إدخال تمويل القطاع الخاص متمثلاً في الشركات المحلية والعالمية فقَلَّ التخبّط والعشوائية وظهرت الإنتاجية متمثلة في أوراق علمية وبراءات اختراع كثيرة جداً مقارنة مع التجربة التي سبقتها والتي على ما يبدو نخوض عمارها الآن بعد مضي نصف قرن!.

لا يمكن لنا أن نتقدم في مجال البحث العلمي ونحن ننفق ما تيسَّر من أموال قليلة على سفريَّات متكررة لذوي الحظوة لا طائل من ورائها، وعلى عقد المؤتمرات (العلمية) بما يمكن تجميعه من أوراق هزيلة مكرّرة والتي تنتهي بتوصيات سئمنا سماعها لتكرارها بشكل سمج، وكذلك ببرقية للقيادة السياسية لا تخلو من المداهنة والرياء لغرض التغطية على القصور والتجاوزات. فبنظرة عابرة إلى تركيبة مؤسساتنا التعليمية والبحثية ستكشف لنا وبكل يسر عن خلل كبير ونقطة ضعف قاتلة، إذ أنّ المعيار للمناصب القيادية في الغالب ليس الكفاءة أو الأقدمية أو ما إلى ذلك من المعايير العالمية المتعارف عليها، بل القرابة والعلاقات الاجتماعية والانتساب لمؤسسة أو حركة معينة دون الالتفات إلى إمكانياتهم وما يمكن أن يقدّمونه، وهنا يجب أن نقتدي بتجربة بعض الدول الخليجية التي كانت يوماً ما متأخرة عنا، بفتح المجال التنافسي بغض النظر عن الجنسية والانتماء (على الأقل في صورة لجان خارجية ذات كفاءة لتقييم جدوى المشاريع البحثية ) مما انعكس في تقدم جلي لتصنيف مؤسساتهم التعليمية والبحثية.

لعلّه من الإيجابي من ناحية المبدأ قيام الهيئة الوطنية للبحث العلمي مدفوعة بقرار سياسي مشجِّع بتخصيص مبلغ سخي مقارنة بما كان السنوات الماضية، لكن التحفظ يبقى قائماً على الكيفية التي تم بها اختيار مشاريع الأبحاث من ناحية المواضيع والكلفة أو الجدوى والمردود، فقد تم كل ذلك بارتجالية ومحاباة، وهنا يجب أن أُذكِّر القائمين على الهيئة الوطنية للبحث العلمي بأنه لا يُقاس تقدم الشعوب في مجال البحث العلمي فقط بنسبة ما ينفق على البحث العلمي مقارنة بالناتج القومي الإجمالي، بل بكيفية إنفاقه بما ينعكس في صورة بحوث علمية منشورة بدوريات عالمية محكَّمة وفي تنمية وازدهار المجتمع وحل مشاكله، وأربأ بالمسئولين على القطاع بأن يقوموا بالتباهي بأنه تم صرف مبلغ كذا وكذا دون أن يعطونا نتائج ما صرف وإلاّ كان ذلك هدرًا يجب أن يحاسبوا عليه، وبصفتي الأكاديمية ومن خلال ما أشاهد فإنني أُحذّر من أنّ الأمور تسير بالاتجاه السلبي، وأتمنى أن تثبت الأيام عكس ظنوني فتنشر خلاصة أبحاث المشاريع التي تم اعتمادها وسُيّلت أموالها في دوريات عالمية محكّمة وإن كان ذلك ضرباً من الأماني التي لا يمكن تحقيقها إلا بالأخذ بالأسباب ونبذ الارتجالية والتركيز على حساب النتائج بدل الاستعراض والشكليات، والله الموفّق “.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً