القوة العسكرية ـ القوة الناعمة

القوة العسكرية ـ القوة الناعمة

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

تتخذ الحرب التي يقوم بها أعداء العرب والمسلمين أسلوبين متوازيين، سميا في العصور الوسطى بنظرية السيفين سيف القوة العسكرية وسيف القوة الناعمة أو حرب الكلمة، وهي النظرية التي نادى بها ريموند لول (1232 ـ 1316 م) في العصور الوسطى ، وهو أكبر منصر في ذلك الوقت .
فالمواجهة المادية السافرة هي حرب الجيوش ، ضد أمه العرب والإسلام التي تمثلت في معارك كثيرة انتصر فيها المسلمون بسبب تفوقهم الروحي على الأعداء ، وقد اعتبرها الأوروبيون غير ذات جدوى لأنها عديمة التأثير ، بل ربما بسبب تفوق المسلمين الروحي تنقلب وبالاً على الأوروبيين وتحمس المسلمين للقتال أكثر ، وقد أدرك الأعداء هذه الحقيقة عن طريق التجربة المباشرة مع المسلمين ، حيث ذكر المؤرخ جوانفيل (1225 ـ 1317 م) الذي رافق الملك لويس التاسع ملك فرنسا الذي قاد حملتين صليبيتين ضد العالم الإسلامي أنه لما أسر في مدينة المنصورة بمصر دخل عليه في سجنه فوجده يبكي ، ويقول : ( الآن بدأت حرب الكلمة ضد العرب والمسلمين ) لأنه لم يستطع الانتصار عليهم عسكرياً ، بمعنى حرب الدعاية والتغريب والتشكيك في القيم والمبادئ والمعتقدات ( حرب القوة الناعمة ) لأن تأثيرها أعظم وأشد .
وقد عمل نابليون بونابرت (1769 ـ 1821 م) بهذه الوصية ، وعندما جاء إلى مصر في الحملة الفرنسية جلب معه على ظهر إحدى السفن مجموعة من الفتيات الراقصات فلما تهامس الجنود والضباط الفرنسيون عن الجدوى من ذلك ، قال لهم : هذه أفضل فرقة في أسطولي وعن طريقها سأحتل مصر وسترون ذلك ، وفعلاً تحقق ما كان يخطط له .
وبعد أن احتل مصر انتشرت الملاهي والمراقص والبارات والخمارات ، وتم فصل رجال الدين عن التدخل في الحياة العامة وأمرهم بالبقاء بالمساجد فقط ، وأن تكون الفتوى متعلقة فقط بأمور الدين بمعنى ( أن يكون ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) فلا يتدخل أحد منهم في أمور السياسة أو الحكم أو الاقتصاد أو التعليم أو ما يحدث بالحياة العامة أي ما يحدث في الشوارع ، واستطاع أن يفصل المشايخ المعمين أصحاب العمائم عن الناس وتأثيرهم في هؤلاء الناس ، لأنهم كانوا يتزعمون الثورة والمقاومة ضد الفرنسيين بقيادة الأزهر الشريف ، وهكذا بدأ التغريب والتحديث فالفصل بين هؤلاء المشايخ والحياة العامة .
فتأثير الفساد بجميع أنواعه في المجتمعات يقود إلى انهيارها وهزيمتها وبالتالي خسارتها المعركة يحكى أن إحدى المخابرات الأجنبية جندت مسؤلاً كبيراً بإحدى الدول الإفريقية فقالوا له : لا نريد منك شيئاً إلا شيئاً واحداً وهو أن تعين بمؤسستك أو إدارتك كل من هو ( فاسد ـ خناب ـ كذاب ـ قليل أصل ـ حقير ) هذا كل ما نريده منك فقط ، وفعلاً تدخلت هذه المخابرات بهذه الدولة وأصبحت تحت سيطرتها وتحكمها بالكامل لأنها انهارت عن طريق هؤلاء .
كذلك تذكر كتب التاريخ الإسلامي إن القائد الفارسي رستم قائد الفرس بالقادسية أرسل جاسوساً ، وقال له اذكر لي ما تراه بمعسكر المسلمين وما تراه بمعسكرنا الفرس بمعنى ( قارن بين الاثنين ) فجاء هذا الجاسوس إلى معسكر المسلمين فرأى بعض جنود المسلمين يتدربون على السلاح ، وبعضهم يقرأون القرآن ويجلسون في حلقات الذكر ، ورأى بعضهم يصلون رآهم كما تصفهم كتب التاريخ ( فرساناً بالنهار رهباناً بالليل ) ، وعندما رجع إلى معسكر الفرس رأى بعض الجنود سكارى مخمورين ، ورأى بعضهم يزنون بالنساء ، ورأى بعضهم نيام طول النهار ، فرجع إلى القائد رستم وكان صاحب حكمة فأخبره بما رأى فقال له رستم : نحن انهزمنا منذ اليوم فلا تخبر أحداً بما رأيت …
وهكذا فإن القوة الناعمة أسلوب مهم وخطير يهدف إلى تمزيق وحدة الصف والتفريق ونهب الخيرات ، والتشكيك في المعتقدات والقيم وهو أسلوب خفي غير ظاهر وغير معلن ، يعتمد على المكر والدهاء ، فالقوة الناعمة تقابل وتكمل الأسلوب العسكري وهي أخطر وأدهى وأنجع في تحقيق أهداف الأعداء ، في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب .
جوزيف ناي :
يعتبر المنظر لمفهوم القوة الناعمة في أمريكا ، وهو أستاذ في جامعة هارفارد ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني ومساعد وزير الدفاع الأمريكي في عهد كلينتون ، وقد دعا جوزيف ناي أمريكا إلى استخدام أسلوب القوة الناعمة بالتوازي مع القوة العسكرية حتى تحقق أهدافها .

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

اترك تعليقاً