الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن

الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

خلق الله البشر وأودع فيهم مهارات البقاء لحفظ النوع، فمنذ الولادة يجهز الطفل بخمسة انعكاسات توفر له سُبل العيش وتقيه من الأخطار المحيطة به، منها المقدرة على الرضاعة، واتقاء السقوط، وحفظ التوازن ومحاولة المشي، هذه الغرائز تعمل على استمرار الحياة للوليد الذي لا يفقه عن الحياة شيئا، ويعبر عن انزعاجه لأي نقص بالبكاء لتلبية الطلب من فوره، هذه الميكانيزمات لا تعرف بلد أو شعب أو دين، بل توفر لجميع مواليد الكون سُبل النمو والحماية.

مع السنة الثالثة إلى الخامسة يصبح الطفل شديد الأنانية، يريد كل شيء لنفسه، إن بقي على تلك السليقة يصبح رجلا أنانيا، نهما ماديا، ظالما لا يعير للآخر أي قيمة ولا للعرف أو الدين أي أهمية، فيتصادم مع الجميع وقد يمضي جل حياته في السجون أو يقتل على أيدي سفاحين مثله.

ولذا تتدخل الأسرة لتهذيب أخلاق الطفل في هذا العمر المبكر بزراعة القيم، مثل الصدق والأمانة ومساعدة الآخر واحترام الكبير والتعامل برفق وأن العمل شرف ونبذ العنف والظلم والكذب والسرقة، وهذه القيم لها جذور في العرف والدين والقانون، فإن نجح الوالدين في ترسيخ تلك القيم عند ذهن الطفل (وهو حق الطفل على والديه) أصبح شابا نافعا لنفسه ووطنه، بل يرتقي إلى مستوى الملائكة في التصور الديني، وإن فشل الوالدين في التربية فإنها الطامة الكبرى، ولكن لخطورة الأمر وُضع لها سدين آخرين لاتقاء شرورها وهي: زرع القيم خلال المنظومة التعليمية (وهذه كانت فاعلة ولكن قل تأثيرها كثيرا حاليا)، وزرع القيم من خلال منظومة المجتمع كالأعراف الاجتماعية التي تنبذ سيء الخلق وذميم التعامل، والمسجد، وفرق الكشافة والجمعيات والنوادي، وإن فشلوا في ذلك كان الشاب، خارج قيم الدين والقانون والمجتمع، شرذمة خاسرة لنفسه ووطنه، بل يعمل على زعزعة مجتمعه على مستويات مختلفة بداية من سرقة مقدرات الدولة مثل المصارف والتزوير للوثائق والكذب على المصالح العامة وسرقة أموال الدولة، والضلوع في شبكات التهريب والتهرب  الضريبي، وانتحال الشخصية، والعمالة للخارج، كما نرى الكثير من الشخصيات غير السوية التي وصلت إلى سدة المسئولية بطرق ملتوية، وتتدرج الجريمة إلى أدناها المخلة بالذوق العام مثل إلقاء القمامة في قارعة الطريق، وعدم احترام قوانين المرور، والتسيب عن العمل، والغش في التعامل، والتزوير في البيوع، وغيرها.

وحيث أن الغرائز أقوى من العقل عند من لم يتشبع بالقيم مبكراً، لذا يكون ميل الناس كبيرا إلى الأمور المادية الدنيوية التي تشبع نهمهم، ولا ترتقي بالإنسان، ويرجع ذلك إلى قصور علمهم بفلسفة وجود الإنسان على هذه الأرض، وهو التمكين وعمارة الكون ضمن قوانين إلهية ناظمة للحياة، لتكون فترة تواجد الإنسان على البسيطة مزرعة للآخرة.

في القرآن الحكيم وردت عبارة أكثر الناس عشرون مرة، منها إحدى عشرة آية توكد أن أكثر الناس لا يعلمون وهناك أربعة لا يؤمنون وثلاثة لا يشكرون واثنان إلا كفورا، وبذلك فإن القانون الرباني العام سيبقى ساريا، أن أكثر الناس لا يعلمون، منهم لا يعلم أهمية الدين، ومنهم من لا يعلم أهمية القيم، وفي الحالتين تكون التربية والنصح والتعليم وإعمال العقل على درجة عالية من الأهمية.

في شأن مواز، نجد أن كلمة أكثرهم وردت أربعة وأربعين مرة، وجل النعث موجه للكافرين وأصحاب الكتاب وغير المؤمنين، منها خمسة عشرة آية يقول فيها الله تعالى بأن أكثرهم لا يعلمون، وحالات أقل، بأنهم لا يشكرون، لا يؤمنون، فاسقون، لا يعقلون ومشركون.

وبذلك نجد أن عدم المعرفة غالبة في السلوك الإنساني العام، وهذا التقصير من المنظومة التربوية لتعليم الأحداث، يصبح مسئولية فردية بعد البلوغ، ويحاسب عليه الله ضمن واجبات التكليف، ولكن الدولة لا تنتظر العدل الإلهي في الآخرة بل تقيمه في الدنيا ليصلح حال الرعية وتتقي شرور الخارجين عن القانون بسبب عدم رسوخ القيم في عقولهم، ولذا ورد عن عثمان بن عفان أنه قال “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وذلك لأن هناك بعض الناس الذين لم يترسخ الإيمان في قلوبهم، ولم يربون على القيم الفاضلة، فلا يتأثرون ولا يرتدعون من النواهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه الحكيم ولا الدليل العقلي الناصح لهم، بل يقومون بالمنكرات والمعاصي والجرائم، ولا يمنعهم القرآن من فعل ذلك، ولكن متى عرف هؤلاء أن هناك عقوبة سواءً بالحبس أو بالغرامة أو بالجلد أو أي عقوبة أخرى، فإنهم يمتنعون عن القيام بهذه الخروقات أي كانت صغيرة أو كبيرة، فالعقوبة التي يضعها السلطان تُخيفه أكثر مما يخيفه كلام الله تعالى وتعاليمه، أو الخروج عن عادات وتقاليد الحضارة أو المجتمع. وبهذه المناسبة نثمن عاليا أعمال الأجهزة الضبطية التي وثقت الكثير من الجرائم ودفعت بمرتكبيها إلى كرسي العدالة، بل أن من حق الشعب أن يتم القصاص من كل خارج عن القانون ليكون عبرة لمن يعتبر.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً