الوطن الأم

الوطن الأم

يقول المولي عز وجل في كتابه الكريم “ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه” ولم يثبت العلم ولا التاريخ أن هناك رجلا عاش طبيعيا بقلبين في جوفه …. ولكن هل من الممكن أن يجعل الله لرجل من وطنين في قلبه؟

أقول إن الوطن الأم لا يعدله وطن ولا يسكن في القلب غيره وطن وإن تباعدت السبل والدروب وإن طال الزمن والغربة والخطوب … فالوطن الأم يسكن في القلب يسافر معك أين ما ذهبت ويظل يشدك اليه بحبل سري غير منظور لا ينقطع إلا بالموت … بل وحتي بعد الموت يتمني كل إمرئ أن يدفن في ثري آبائه وأجداده وإن فارقت روحه جسده في أقصي بقاع الارض بعيدا عن الوطن الام.

الوطن الام الذي ولد فيه الانسان وترعرع…. وأستنشق أول عبير من هوائه وأرتشف أول شربة من مائه وأكل أول لقمة من طعامه وتغبرت قدماه ووجهه وهو يحبو علي ترابه وخطا عليه أولي خطواته ونطق علي أرضه أولي كلماته ولعب في شوارعه وفوق مروجه مع أقرانه وأصحابه ودرس في مدارسه وتعلم من مشايخه وعرف معني الود والحب والحنان بين أهله وأقاربه وعشيرته وجيرانه وأحبابه وخفق قلبه بالحب أول مرة فوق أرضه وتحت سمائه…. ونقشت هذه الذكريات علي شغاف قلبه وظلت راسخة ناصعة متوقدة في وجدانه لم يمحها الزمن ولم تغيرها المحن ولم تبددها شدة الازمات والفتن. … هذا الوطن الام لا يمكن لأي وطن أن يطمع أن يتربع علي عرش القلب غيره … وإن تعددت المرافئ والقارات والمطارات والجنسيات والجوازات.

لقد شاءت الاقدار أن تتبدل الاحوال في الوطن الام فتم إسقاط علم الاستقلال بانقلاب العسكر في غفلة من الاباء والاجداد وتم تكبيل الوطن الام ومن عليه بالسلاسل والاغلال وأستحوذ عليه حفنة من الاوغاد بالقهر والاذلال … وتم مصادرة الكلمة الحرة وتكميم الافواه الناطقة والحجر علي العقول الحاذقه وقهر وإذلال النفوس الحرة الابية الصادقة …. وعلقت أجساد الاحرار علي أعواد المشانق في ساحات المدن …. وأصبح الوطن الام مستعمرة خاصة لشرذمة من المارقين ومرتعا خصبا للسارقين … ولم تعد تسمع فيه إلا نعيق المنافقين ونهيق الافاقين وعواء المفترسين ونباح الكاذبين.

وأنزوي الاحرار في الوطن الام … فهناك من لم يجد بدا من العيش تحت سياط القهروالغبن والتهميش وظلم الاشرار …. وهناك من هاجر متأبطا وطنه بين جنبيه فوجد مراغما كثيرا وسعة أو ضنكا من العيش ولكن لم تخبو جذوة الحرية والثورة في نفسه ولم يفارق الوطن الام موضعه بين الضلوع …. ومع قلة من المهاجرين تم رفع راية الاستقلال من جديد في غربة المهجر وكان قد نسيها أغلب سكان الوطن الام…. وصدعت حناجر المهاجرين تهتف بحرية الوطن الام … وانبرت اقلامهم تجاهد ضد الظلم والطغيان في الوطن الام …. وعلي الرغم من عقود السنين الطويلة وتبختر الباطل بالاعطية والاموال الجزيلة لم تلن للمهاجرين الاحرار عريكة ولم يعطو الدنية في وطنهم وشرفهم وحريتهم … ورغم الازمات والمحن والشدائد في الغربة ورغم التهديد والترهيب والترغيب للاهل في الوطن الام … ورغم يأس اليائسين وقنوط القانطين وسقوط المثبطين وجبن الخائفين لم ييأس المهاجرون الاحرار من روح الله ونصره ولم يزدهم إنتفاش الباطل وغروره إلا إصرارا علي إكمال الطريق حتي يتحرر الوطن الام من ربقة الطغيان والاستبداد.

والمهاجرون في الغربة ليسو جميعا سواء …. فمنهم من رضي بالدنية وقبل من الطاغوت المنح والعطايا ولم يرفع عقيرته يوما ضد الظلم والطغيان وكان يطأطئ رأسه كل صيف تحت رايات وصور الطاغوت ووجد في ديار الغربة العيش الرغيد والمال الوفير والامن والامان فتنكر للوطن بعد أن درس علي حساب قوت الفقراء والمعوزين والمظلومين وظن أنه بذلك قد حاز خير الدارين … فلست أعني بمقالتي هذه هؤلاء حتي وإن ركبوا موجة الثوار وترحموا علي شهداء 17 فبراير الابرار … وزعمو أنهم كانو معارضين رغم ان بعضهم كانوا أقرب الي الجواسيس للطاغية وأعوانه وعين علي المعارضة في الخارج.

وبعد ان استحكمت حلقات الازمة … واشتدت وتفاقمت ظلمة الليل والعتمة … إذا بالفجر ينبلج من جنبات المهاجر والامل يبتسم ويشع بنوره قبل السابع عشر من فبراير … وإذا بها ثورة عارمة وصحوة للوطن كانت للطاغوت قاصمة … فتنادي المجاهدون المهاجرون … وانتفض الذين كانوا في الوطن علي الجمر قابضون …. وانطلقت الشرارة من بنغازي الصامدة … وانتثر الشرر منها الي كل ركن في الوطن مؤازرة ومساندة … فأنتهي بفضل الله ومنته الطغيان … وسقط الي غير رجعة رمز القهر والظلم والبهتان.

وإذا بالمهاجر يعود الي أحضان الوطن الام الحنون … بعد سنوات من الفراق والاشواق والغربة والشجون …ولم يتثاقل بهموم المهجر وأحماله … ولم تثنيه عن نصرة الوطن مشاغله واعماله … فعاد الي الوطن الام مفعما بالامل ومتسلحا بما اكتسبه في الغربة من خبرة وعمل … يريد أن يطوي صفحة زمن التخلف ويساهم في القضاء علي الفساد والتملق والتزلف … فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان وهل ننكر علي المهاجر هجرته ؟ وهل نعاقبه بجزاء سنمار بعد نضاله وغربته ؟

لا ياسادة إنه جزء من الوطن والوطن جزء منه فله مالكم وعليه ما عليكم … وإن حمل جنسية بلده المضيف … فذلك الوطن الجديد لا يعدو ان يكون وطن بالتبني … وشتان بين الوطن الام والوطن بالتبني …. وما جعل الله لرجل من وطنين في قلبه.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً