تحول الجبهة إلى حزب: خطوة تأخرت ما يزيد على عشرين عاماً

تحول الجبهة إلى حزب: خطوة تأخرت ما يزيد على عشرين عاماً

منذ أيام قليلة أرسل إلي الصديق الدكتور عبد المجيد بيوك حافظة تحتوي مجموعة من الأوراق التي كنت احتفظت بها، أو بنسخ منها، وديعة لديه، عندما قررت ترك كل شيء، والعودة إلى الوطن، من تلك الأوراق التي أظن أني سودت منها مئات من الصفحات، بين مقالات وبحوث ورسائل، كنت أنشرها أو أقدمها إلى مؤتمرات ولقاءات أو أرسلها إلى أصدقاء ورفاق في مسيرة النضال ضد حكم الاستبداد الذي قبرناه.

وقد لفتت نظري، وأنا أقلب تلك الأوراق وأتصفحها، ورقة وجدت أني كنت وضعت لها العنوان التالي: “الجبهة ومستقبل العمل السياسي في ليبيا”، ثم فوجئت باكتشاف أن أحد العناوين الفرعية للمقالة التي تضمنتها تلك الورقة جاء على النحو التالي: “المستقبل السياسي للجبهة”، يليه عنوان فرعي آخر هو “التحول إلى حزب”.

هذه الورقة ترجع بتاريخها إلى أوائل التسعينيات، حوالي 91 أو 92، وكانت ضمن العديد من الأوراق التي كنت أتحدث فيها عن قناعتي بأن مختلف المعطيات التي أصبحت تحوط وتحكم حركة الجبهة، تحتم الوقوف وقفة تاريخية، لإعادة النظر في كل شيء: المبادئ والمنطلقات، ثم الأهداف، ثم الوسائل والهياكل التنظيمية. ولقد تحدثت كثيراً عن قناعتي بأن المنطلقات التي بنيت عليها الجبهة منذ تأسيسها لم تعد صالحة للتعامل مع المرحلة ومعطياتها ومستجداتها، وأن على الجبهة، إن هي أرادت أن تظل قادرة على التعامل مع المرحلة، أن تعيد بناء نفسها من جديد، على أسس مختلفة، ومنطلقات جديدة.

وقد وجدت في الورقة التي ذكرتها في بداية هذه المقالة أني تحدثت صراحة عن ضرورة أن تعيد الجبهة بناء نفسها كقوة سياسية منظمة، تتهيأ للتعامل مع متطلبات بناء البديل الديمقراطي، حالما تتاح الظروف للحركة السياسية الحرة، في منظور سقوط النظام، وانفتاح آفاق إعادة بناء ليبيا. ووجدت أني تحدثت صراحة ومباشرة عن ضرورة اتخاذ القرار المناسب والضروري بأن تتحول الجبهة إلى حزب سياسي، وهو القرار الذي اتخذته قيادة الجبهة بعد عشرين عاماً من تلك الدعوة المباشرة إليه.

وأقتبس هنا فقرات من تلك الورقة. أقول في إحدى الفقرات: “وهكذا ظلت الحاجة إلى البحث عن الهوية الفكرية والسياسية، التي يمكن أن يقوم عليها التنظيم في معركة المستقبل، قائمة وتزداد مع مرور الأيام إلحاحاً وضرورة، ذلك أنه بدون السعي الجاد والحثيث لإنجاز هذا البحث، فإن الأمل في تمكن أعضاء الجبهة الحاليين من مواصلة الالتقاء والعمل معاً في إطار “البديل السياسي” هو أمل ضعيف جداً، ولا يصح التعويل عليه، وسيكون الاحتمال الأكثر واقعية هو أن يجد هؤلاء الأعضاء أنفسهم، وقد تفرقوا، بين عازف كلياً عن المشاركة في العمل السياسي، وبين باحث عن جماعة سياسية لها فكر متميز، ورؤية محددة، يجد نفسه على وفاق معها، ومستعداً للمساهمة في العمل السياسي من خلالها.

إن هذا الاحتمال المؤسف هو احتمال واقعي وحقيقي، وسيظل هو المرشح للوقوع لا محالة، إذا لم يتم عمل حقيقي جاد لتوقي حدوثه، عبر إنجاز ما لم ينجز حتى الآن على صعيد تمييز الفكر، وتحديد الرؤية التي تعكس قناعات الغالبية من أعضاء الجبهة، وتكون صالحة لاعتبارها أساس اللقاء السياسي والعمل الجماعي المنظم”.

ثم قلت تحت العنوان الفرعي التالي (التحول إلى حزب) ما نصه: “وهكذا فقد مثلت بداية الحديث عن (مستقبل الجبهة السياسي) عملياً الخطوة الأولى في مسيرة البحث عن ملامح الأسس اللازمة لتحول الجبهة إلى (قوة سياسية منظمة) لها فكر متميز، ورؤية واضحة، وتصور للبديل السياسي في ليبيا المستقبل، ولها كذلك الاستعداد والتهيؤ لممارسة العمل السياسي المنظم بين جماهير الشعب، بمختلف قطاعاته وشرائحه وفئاته، وعبر مختلف المؤسسات الدستورية والاجتماعية المتاحة، لنشر فكرها السلمي مع سائر القوى السياسية العاملة.

وإذا كان التعريف اللغوي العلمي الصحيح لمفهوم (القوة السياسية المنظمة) هو لفظ (الحزب السياسي)، فلعله يكون قد آن الآوان، سعياً لأكبر قدر من الوضوح والتحديد، وتجنباً لأي لبس أو اختلاط في المفاهيم، لأن يتم الحديث صراحة عن مسألة الحاجة أو البحث في أهمية وشروط تحول الجبهة إلى (حزب سياسي) بالمعنى المحدد للمصطلح، ثم لأن يتم العمل الفعلي لاستكمال كل ما يلزم لذلك من دراسات علمية، وخطوات عملية تنظيمية.

إن أملنا الوحيد في أن يتحقق الهدف الاستراتيجي الذي ناضلنا، وما زلنا نناضل من أجله، وهو إقامة (البديل الدستوري الديمقراطي) هو في أن ندخل أو نواجه معركة ذلك البديل حالما يسقط النظام الحالي، ويتاح لكافة الليبيين فرصة العمل السياسي داخل البلاد، كقوة سياسية منظمة قادرة ومتهيئة للتحرك لتوعية وقيادة جماهير الشعب للتصدي لأية محاولات قد تقوم بها السلطة التي تتولى مقاليد الأمور، للتخلي أو التراجع عن تنفيذ المطالب الجوهرية الكبرى للشعب، التي تتمثل في مطلبين أساسيين هما: الشرعية والديمقراطية، ثم المساهمة في تأسيس الحكم البديل وإعادة بناء البلاد بما يحقق الاستقرار والعدالة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية”.

وها نحن أولاء نشهد تحول الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا إلى حزب سياسي، ولكن بعد ضياع ما يزيد على عشرين سنة من عمرها وعمر المناضلين فيها وعمر التجربة السياسية والنضالية في ليبيا في الوقت ذاته..

وكما يقال أن تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي أبداً.. فلا نملك إلا أن نبارك هذه الخطوة، وندعو لها وللقائمين عليها بالتوفيق في خدمة الوطن والثورة ومستقبل الأجيال.

د. يونس فنوش
yfannush@yahoo.com

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً