«حروبنا الطَيِّبة»

«حروبنا الطَيِّبة»

وراء كل حـرب قـذرة إعـلام فـاسـد، يغـدي الدهـمـاء بما يكفـي من الكـراهية والحـقـد لإبـادة الآخـرين ومحـوهم من الـوجـود. ولأن الرأي العـام ظـل دائماً مصـدراً قلق للدول الكـبرى ورأس المــال المتاجــر بالحــروب، تمت السيــطرة على وســائل الإعـلام الدولــية المتحكــمة في صنـاعة الـرأي العـام العـالمي. ويشــير المفكـر نعــوم تشومسكي في كتابه السيطـرة على الإعـلام «بأن فكــرة صنــاعة وتوجــيه الــرأي العــام بـدأت في منتصــف الحــرب العــالمية الأولـى».

ويــروي تشـومسـكي: «لـقـد كـان الأمــيركيون آنـذاك مسـالمين رافضــين للحــرب، بينـما كـانت إدارة الرئيـس ويلــسون عـازمــة على خــوض الحــرب ومـن ثم كـان على الإدارة الأمــيركية فعــل شـيء ما حــيال الأمـر. فتــوصلوا إلى فـكــرة إنشــاء «لجــنة للــدعـاية الحكـومية تســمى (لجــنة كــريل) وقــد نجـحت هـذه اللجـــنة خــلال ستـة أشهــر فـي تحــويل المــواطنــين المســالـمين إلـى مواطنــين تتملـكـهم الهــستيريا والتعـطـش للحــرب، والرغبــة فــي تدمــير كـل ما هــو ألمـاني، وخــوض الحــرب، وإنقــاذ العـــالم».

مصطــلح «الحـــرب الطـيـبة» الــذي روجــته وســائل الإعــلام الغــربية لـوصف الحــروب الأنجــلو- أمــيركية أصــبح «صــكاً أخـــلاقياً على بيـــاض» لتـــبرير خـــوض تلك الحـــروب – حسـبما كــتب المــؤرخ ريتـــشارد درايتــون – وتم استـخـدامه منذ الحــرب العـــالمية الثــانية، من أجـــل إقنــاع الــرأي العـــام بأنــهم يخــوضــون حــروباً واجــبة ومقــدسـة، وكمـا كتـب الصحــفي «جــون بيــلغـر» في تقـديـمه لكتــاب «حــراس الســلـطة»: «إن جـــرائم الحــرب المشــينة في العـــراق وأفغــانســتان، مثل قصــف الـقــوات الأمــيركية المــواقع المــدنـية العــراقــية بالقــنابل العنـقــودية، واستخــدام قـنــابل النــابلم والــيورانيـــوم في العـــراق وأفـغــانســتان لم يتــم تسجـــيلـها على أنـهـا أفــعـال تنــم عـن غــزو وحـشـي وهـمــجي، بل عـلى أنهــا مجــرد حـركة تحــرير اضـطــرارية، وتـم تــبريرها بأســـاطير ما يـعــرف بــ «الـحــرب الطــيـبـة» وكـان النــاقـل الــرئيــسي لـهــذه الأســاطــير هو النـظــام المــؤسس المعــروف باسـم المــيديا (وســائل الإعــلام)، مما دفـعه لاتهـام الإعـلام في الـتــورط فـي جــرائـم الـحــرب تلك.

الحــرب على ليبيا أيضـاً تـم تسـويقـها على أنهـا ضـمن حــروبهـم «الطــيبة» لإنقــاذ الليــبيين ونشــر قيـم العــدالة والحــرية والديمـقـراطـية، ولكن ســرعان ما تـم تحــويلـها إلى عراق أو أفـغـانســتان أخــرى تنهـشـها الحــروب الأهلــية والـــنزاعات القبــلية والجهــوية ومـرتع خصـب للجــريمـة بكــل أنـواعــها، ومـلاذ للإرهــابيين والعــصـابات المتســترة بالـدين مـن كل أنحــاء الدنيـا. ويستمــر الإعلام الغـربي والعــربي بلعـب نفــس الــدور المــشبوه ليضــفي القــداسة على غـزوات «الدمقــرطة» و «التحــرير»، لتتحــول بلــدان العــالم الثـالث إلى غــابات تتنـــاحر فيها شـعــوبها بعد تدمــير هويتــهم الجامـعـة ويصبــحون طــوائف وأعــراقاً وقبــائل متنــاحرة إلى أن يفـني بعضــهم بعـضا.

وكلمـا انطفـأ لهيـب حـرب أشعـلته المــيديا مـرة أخـرى، فلا سـبيل للتعـايش وإحـلال السـلام في بلـدان «الفضـائيات» في سمـائها لا تمــطر إلا الحـقـد والكـراهـية والتـحريض على الفــوضى والقــتل.

ومثلـما حـدث للـعـراق عقـب الـغـزو الأمــيركي لم يتركــوا فــرصة للإعــلام المحـلي، وانهـالت على ليبيا الفــضائيات والإذاعــات الأجــنبية المــوجَّهة، وخـداع النــاس بـ “أســاطير الحــياد” و “حــرية الرأي” و “أوهـام التعــددية” وهي في الحقـيـقة كــأذرع الأخـطـبوط برأس واحــد، ورأس مــال مـقنع ومشــبوه لا يعــلم   أحــد مصــدره عدا كـــونه ينــفق بســخاء لا محــدود على تلك الفضــائيات والإذاعــات لا لـشيء إلا من أجـــل اســتنزاف البــلاد وتكــريس الانقســام وإطـــالة عمر الفـــوضى واستمـــرار مســلسل الحــروب القبــلية والمـــذهبية، وإفشــال كل الحكـــومات المتــعـاقبة عن طــريق التــحـريض على أعمــال الشـغـب وممــارسة العــنـف ضـد مـؤسســات الــدولة. حتى تتحـــول الــدولة إلى ركــام، ثم يتكــفـل الإعـلام بإقــناعنا بأن هــذا الخــراب هو ثــمن «للحــرية والديمـقــراطية»، التـي لـن نجــني ثمــارهمـا قبــل مـئة عـام أخــرى.

ولأن الإعــلام المــوًّجه للــيبيا بمخــتلف توجــهاته وانتمــاءاته أخـــذ على عـاتـقـه بـأن لا يكـتمل فـصــل من فصــول الخـــراب بدونـه. فــإنه لـم يتـــوقف عن الــترويج لحــروبه «الطــيبة» بمخــتلف شعــاراتها ســواء تـلك التي تدعـي مكــافحـة «الإرهــاب» أو خصـــومهم الــذين يدعــون مكـافـحة «الانقــلابــيين». ومَن يجــرؤ على رفــض تلك «الحــروب القــذرة» لـن يكــون في نظــرهم إلا متــواطئاً مع الخصـم، أو خــائناً لا يستحــق الحــياة.

وبالتــأكيد، لـن تنتـهي «حــروبنا القــذرة» إلا عنـدما يختـفي الإعـلام الـذي يســاندها ويـروج لها؛ أو يعــود الإعلامـيون إلى رشــدهم. أو يمتــلكوا الشـجاعة لـرفـض أن يكـونوا مجـرد أدوات لصنـاعة الـرأي العـام وتضــليله ومجـرد عبـيد لــرأس المـال الأجــنبي والمحــلي الـذي وظــفـّهم من أجــل استمــرار مشــروع نهــب وتخــريب هــذا البـلد المنـكوب بأمثـالهـم.

واخيراً اذكر الاعلامـيين بقـول المفـكر الفـرنسي ريجـيس دوبـريه «إن الثـورة الاعلامية هي ثـورة سـياسـية، والعكس ليـس صحيحاً» بمعـنى أن الاعـلام وحـده من يستطـيع قـلب مـوازين القـوى وانـهاء الحـرب واحـلال السـلام إذا شاء.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً