دور السلطة القضائية في دعم الاستقرار ومكافحة الفساد

دور السلطة القضائية في دعم الاستقرار ومكافحة الفساد

د. جمعة الزريقي

مستشار سابق بالمحكمة العليا

لا يخفى عليكم الدور الذي تقوم به السلطة القضائية في أي دولة، وبموجب الدستور الصادر سنة 1951م، فإن استقلال القضاء من أهم ما جاء فيه، وكذلك الإعلانات الدستورية التي صدرت بعده، واستقلال القضاء يعني تميزه بسلطات هي الضمان في استقرار البلاد، فمن خلال الرقابة الدستورية على القوانين يمكن لها من متابعة كافة التشريعات والقوانين والقرارات التي تصدر عن السلطة التشريعية، فالرقابة الدستورية في كل بلدان العالم تمثل الوسيلة لمعالجة انحراف السلطة التشريعية، وتصويب أخطائها، وكذلك الرقابة على ما تقوم به السلطة التنفيذية، سواء المجالس الرئاسية أو الوزارية وما يتفرع عنها، فمن خلال الطعون الإدارية التي ترفع ضد القرارات، يمكن للسلطة القضائية الرقابة على تلك القرارات وتقييمها والنظر في الطعون التي يقدمها ذوو الشأن فيها، وإصدار الأحكام بشأنها. 

لا يمكن في أي بلاد أن تقوم كل السلطات بواجبها سليمة، ففي الغالب يمكن أن يحدث لها انحراف في ممارسة اختصاصاتها، أو من قبل بعض أجهزتها، ولهذا نصت الدساتير على استقلال القضاء لكي يضمن رقابته على بقية السلطات وتقييم أدائها وإصلاح انحرافها بالأحكام التي تصدرها بالأوضاع القانونية التي رتبها المشرع مسبقا في التشريعات، من أجل أن تكون السلطة القضائية هي الراعية لمصلحة الوطن وإعلاء شـأنه ومصالح سكانه جميعا، تنفيذا لقول الله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء : 58) وقد نص الإعلان الدستوري الصادر في 3 أغسطس 2011م على أن (السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على مختلف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقا للقانون، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون والضمير)، ومن ثم فإن كافة السلطات في الدولة ينبغي عليها أن تسير في عملها على الطريق المستقيم ولا تنحرف عن جادة الصواب.

كيف تسير الدولة حاليا، مجلس رئاسي يصدر القرارات، مجلس نواب يصدر القوانين ومجلس الوزراء والوزراء يصدرون القرارات، وجهات أخرى تقوم بعدة إجراءات لتنفيذ وظيفتها، ولا يمكن الحكم على هذه الإجراءات بأنها سليمة في عمومها، ولكن مع وجود الجهات الرقابية، يمكن التنبه إلى بعض الأخطاء، ولعل من أهم الجهات التي يحق لها وبقوة القانون، ممارسة الرقابة على كافة التصرفات، ولكن السلطة القضائية لا تقوم من تلقاء نفسها بمباشرة الرقابة القضائية إلا في أحوال خاصة، وفي الغالب تُباشر اختصاصها عندما يسعى المتضرر من تلك الإجراءات بالطعن فيها أمام المحاكم المختصة، وعندها تشرع السلطة في مباشرة اختصاصها القانونية، وتبسط رقابتها من خلال الأحكام التي تصدرها، وتباشر عن الطريق الذي حدده المشرع في تنفيذ تلك الأحكام.

وضع المشرع الطريق الذي رسمه للطعن في الأحكام حتى يطمئن المدعى والمدعى عليه ويمكنه الوصول إلى حقه، فإذا صارت الأحكام نهائية نص القانون على كيفية تنفيذ الأحكام وقرر الوسيلة اللازمة لإجبار المحكوم عليه – شخصاً كان أو جهة عامة – على تنفيذ الحكم والاقتضاء منه إذا لم يقم بتنفيذ واجبه، لهذا نصت المادة 237 من قانون العقوبات على عقوبة التقصير أو الامتناع عن القيام بالواجب، وإذا كان الموظف العمومي قاضيا أو عضوا بالنيابة  العامة، اعتبر ممتنعا أو مهملا أو معطلا، وتطبق عليه العقوبة إذا توافرت شروها، وقد نص قانون المرافعات في المادة 720 على الأحوال التي يجوز فيها مخاصمة رجال القضاء وأعضاء النيابة، ومنها حالة (إذا رفض القاضي أو أهمل دون سبب مشروع الإجابة على طلب أو عريضة لأحد الخصوم أو رفض أن يقضي في دعوى صالحة للحكم ومنظورة لديه) وبينت المادة شروط تطبيق هذا النص.

أسلفت بأن لدينا الآن السلطات الثلاثة، ممثلة في مجلس النواب ومعه المجلس الأعلى والحكومات المتعاقبة منذ سنوات، ولدينا المجلس الرئاسي السابق والرئاسي الحالي، وكل هذه الجهات أصدرت العديد من التشريعات وقامت بالعديد من التصرفات، واتخذت العديد من الإجراءات، وهذه الأمور ربما تكون قد ألحقت أضرارا لبعض الجهات الاعتبارية أو الأشخاص الطبيعيين، ومجالهم لإزالة الضرر أو عودة الحقوق إليهم هي الطعن في تلك القوانين أو القرارات أو الإجراءات أمام القضاء، وطبقا للمبادئ الدينية والقانونية والحقوقية التي تسير عليها الدولة الليبية، والمقررة بالنصوص السابق الإشارة إليها، ينبغي على السلطات القضائية التي رفعت الطعون إليها أن تفصل فيها، وتقرر ما يراه السادة القضاة من حقوق للطاعنين أو للمطعون ضدهما وفقا للقانون وضميرهم الذي أقسموا عليه أثناء توليهم وظيفتهم حتى تستقر البلاد بسيادة العدالة في كافة مرافقها.

وباعتباري رجل قضاء سابق، وأستاذ جامعي حاليا متعاون، كنت مستشارا في المحكمة العليا، وعضوا في الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا منذ سنة 2002 إلى سنة 2015م، كنت أتابع كغيري هذه التشريعات والقرارات والإجراءات التي صدرت عن تلك الجهات، ولي عليها ملاحظات بحكم التخصص، ولا يمكن لأي رجل قانون يستطيع أن يحكم عليها بأنها غير دستورية أو أنها مطابقة للدستور، ولكنه يجوز له من الناحية العلمية البحثية أن يقوم بدراستها وإبداء الرأي القانوني العلمي حيالها، والذي أستطيع قوله الآن أمامكم أيها السادة والسيدات الكرام، هو أن هذه الإجراءات السابقة يجب أن يقوم القضاء بالنظر فيها وأن يقول كلمته حولها وبغير ذلك لن نصل إلى دولة القانون التي نطالب بها، كما هو الحال في مشروع الدستور الذي أقرته الهيئة المنتخبة من الشعب، فلا يملك أي إنسان ليبي أو أية جهة تملك أن تقول فيه صالح أو غير صالح، بل الكلمة للشعب الليبي وفقا للمادة 30 فقرة 12 من الإعلان الدستوري الصادر سنة 2011م، وكذلك التشريعات التي صدرت والإجراءات التي اتخذت وتم الطعن فيها أمام المحكمة العليا، يجب أن تقوم الدائرة الدستورية بالفصل فيها وبصورة عاجلة.

أيها السادة والسيدات، إن معالجة الفساد يكون بتفعيل القضاء، ونحن نجد أن المحكمة العليا للآسف الشديد – قد أصدرت جمعيتُها العمومية القرار رقم 7 لسنة 2016م بتأجيل البت في الطعون الدستورية إلى أجل يحدد فيما بعد، فهذا القرار يعتبر سابقة خطيرة في مسيرة القضاء الليبي، وبسبب ذلك توقفت الدائرة الدستورية عن النظر في الطعون المقدمة إليها في القوانين والقرارات الصادرة عن عدة هيئات منها مجلس النواب، والمجلس الرئاسي، ومجالس الوزراء وغيرها، ولهذا اعتبرت هذا القرار إنكاراً للعدالة وانحرافاً للسلطة القضائية عن الواجب المكلفة به وفقا لأحكام الدستور، وهو الفصل في الخصومات ويعتبر ترسيخا للفساد القائم حاليا بسبب ذلك، فعندما يمتنع القضاء عن الفصل في الخصومات، فإن أطراف الدعاوى قد يقدمون على تصرفات لا يمكن اعتبارها قانونية، ومن المحتمل ارتكابهم لفساد يصعب تداركه مستقبلا.

لقد كان قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا موضع استهجان واستنكار من بعض الحقوقيين الليبيين، بل ومن الممثل الأممي غسان سلامة، وقامت عدة مظاهرات أمام المحكمة العليا من قبل مجموعة من المحامين والحقوقيين استمرت عدة أيام للمطالبة بتفعيل الدائرة الدستورية رغم مضي أكثر من ست سنوات على توقفها، بعد أن تم الطعن في قرار الجمعية العمومية بوقف البت في الطعون أمام محكمة القضاء الإداري بطرابلس، وصدر حكم نهائي بإلغاء القرار ومع ذلك لم تستجب المحكمة العليا، ولكن، ومنذ شهر تقريباً، وبعد تغيير رئيس المحكمة العليا، قررت الجمعية العمومية أن تستأنف الدائرة الدستورية البت في الطعون المقدمة إليها، وبعد عقد اجتماعها الأول مع الرئاسة الجديدة، قررت تأجيل النظر في الطعون إلى أجل غير مسمى، فأسقط الأمر في أيدي المحامين والمتابعين السياسيين.

وإذا كانت الغاية من قرار الجمعية العمومية هو تفادي حصول مشاكل للبلاد فيجب وقف النظر في الطعون حتى تستقر الأمور، فهذه الغاية لم تتحقق الآن وبعد مضي ست سنوات على القرار المذكور هل استقرت البلاد وخفت المشاكل وتراخت المصائب على الشعب الليبي، ولم تعد البلاد منقسمة والسلطات موزعة إلى أصلية وموازية؟ الإجابة قطعاُ، لا،، والآن بعد مرور ست سنوات كاملة على صدور القرار، هل يجب السكوت على هذا الوضع والبلاد تسير من انقسام إلى آخر، وإلى خلاف وغيره، وحالة المواطنين تزداد سوءاً كل يوم، والتدخل الأجنبي في البلاد يتم في وضح النهار وبالمخالفة للقانون، والفساد يستشري في أركانها، وسفراء الدول يتجولون في كامل أنحاء البلاد، فكيف السبيل إلى الوصول بالبلاد إلى حالة الاستقرار والشروع في التنمية والتعمير التي من أجلها وقع التغيير في نظام الحكم.

إن مكافحة الفساد والقضاء عليه يتطلب التكاثف في محاربته على جميع الوجوه، وفي كافة الأصعدة، وعلى الأخص قيام العدالة بتطبيق القانون وعدم التراخي في الفصل في القضايا المقدمة للمحاكم، سواء في قضايا الفساد أو غيره، لأن من شأن تطبيق العدالة والإسراع في ذلك يطيب خاطر المتقاضين وسرعة الوصول إلى حقوقهم، والقضاء على المنازعات التي من أجلها رفعت الطعون والقضايا أمام المحاكم، وضمان استقرار البلاد.

والآن بعد أن تحقق لدينا ارتكاب المحكمة العليا جريمة إنكار العدالة بكل معانيها، ولما كانت السلطة القضائية التي كلفها الدستور بالرقابة الدستورية على التشريعات، قد تخلت عن ذلك بسبب غير مشروع، وعلة غير مجدية وتركت البلاد تخوض غمار الخلافات وتدور في الصراعات القائمة بين المتنفذين من أصحاب النفوذ فيها دون أن تقول كلمة الحق في تلك الطعون، وهذا من الأسباب التي تجعل الفساد يسود في أغلب أركان الدولة وعدم استقرارها ويحتاج الأمر إلى المزيد من الإجراءات للقضاء عليه، وأن عدم الفصل في القضايا والطعون، وخاصة الطعون الدستورية هو الذي جعل من الجهات المطعون ضدها تستمر في إجراءاتها دون رادع أو توقف عن إصدار القوانين والقرارات المخالفة للقانون، فإن هذا الآمر يتطلب من الشعب أن يقوم بواجبه تجاه إنكار العدالة.

والحمد لله رب العالمين.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. جمعة الزريقي

مستشار سابق بالمحكمة العليا

اترك تعليقاً