قضية اللاجئين والتحديات

قضية اللاجئين والتحديات

د. ملك مصطفى

رئيس الشبكة الدولية لحقوق الإنسان والبيئة، أدبية وشاعرة

تحية إكبار وتقدير للشعب الليبي لكل من يعمل على سلام وأمن وبناء هذا البلد العظيم ليستعيد مجده الماضي شموخا وتقدما وكرامة تصون لكل الأجيال القادمة مكانتها، الأجيال التي ستحمل راية بناء هذا البلد مجدا وعزّا وهيبة بين دول العالم أجمع.

شكرا لكم على دعوتكم لنا ، شكرا لكم على ثقتكم التي منحتمونا إياها لنكون معكم ولنبحث معا عن الحلول الأنجع التي تخدم بناء ليبيا ومستقبلها الأمن الكريم، إن حرصكم على وطنكم يشجع كل الوطنيين الأحرار للوقوف معكم في وجه الصعاب لتذليلها.

نحن نعلم أن ظاهرة اللاجئين ليست وليدةَ التاريخ الحديث، إذ يعد أول اللاجئين في التاريخ هو النبي موسى عليه السلام الذي دفعت به المجاعة هو وأهله إلى اللجوء إلى أرض مصر. وقد لا يكونون أول من لجأ إلى مصر في العام 1650 ق.م، فوادي النيل الخصيب كان مركزَ جذب وأرض ضيافة لأقوام الصحاري المحيطة والشحيحة . ثم أنّ تاريخَ البشرية مليئ بالحروب والثورات والمجاعات الدافعة للهجرة واللجوء الحروب التي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر والثورة  الفرنسية في القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر أخذت ظاهرة اللجوء طابعا قوميا تمثلت في ثورات 1848 التي عُرفت “بربيع الشعوب” في أوروبا، وأغلق اللاجئون المليون الثاني بعد انفصال الدول البلقانية عن الإمبراطورية العثمانية وقد تفاقمت حركة اللجوء مع اندلاع موجة الاضطهادات والمذابح الجماعية للمسلمين في روسيا القيصرية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.

وعلى النطاق العربي كان العراق أول نظام منتج للاجئين ومن ثم الصومال ولبنان والسودان وصولاً إلى أكبر أزمة للاجئين في الوقت الحاضر وهي الأزمة السورية، إذ تتوقع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن يصل عدد اللاجئين السوريين بحلول نهاية السنة إلى 6 مليون، يضاف إليهم نحو 7,6 مليون نازح داخل سوريا.

لن أطيل عليكم ولكن أذكر أن أهم ما يحتاج إليه المهاجر اللاجئ سواء أكانت هجرة قسرية أم بإرادته، يحتاج إلى ذراعين تعانقانه وتصلان به إلى وطنه الأم.

وليكون البلد المضيف مثل ملك الحبشة الذي وصفه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بأنه مَلِك لا يُظلَم عنده أحد.

قضية اللاجئين، قضية القرن، تجربتي.

أنا من وطن نصفه شهيد ونصفه الآخر لاجئ والباقي مازال ينتظر

يُعرّف اللاجئ بموجب القانون الدولي على أنه شخص أجبر على الفرار من وطنه هربًا من الاضطهاد أو من تهديد خطير يمس حياته أو حريته أو سلامته الجسدية. وقد يكون ذلك مرتبطًا بالعرق أو الدين أو الجنسية أو المعتقدات السياسية، وأيضًا بحالات الصراع أو العنف أو الفوضى.

ويتم منحه حق اللجوء لكل من هو بحاجة إلى الحماية الدولية. اللجوء هو حق أساسي وعُرف دولي لابد من الالتزام به، أقر لأول مرة في اتفاقية جنيف لعام 1951 بشأن حماية اللاجئين. في الاتحاد الأوروبي، وهذُا يعني فتح الحدود وحرية التنقل، وتأمين مستويات عالية من الحماية للاجئين وهذه الإجراءات يجب أن تكون عادلة وفعالة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي وملتزمة بإنشاء نظام اللجوء الأوروبي المشترك وأن يتم فحص قضيتهم وفق معايير موحدة.

تجربتي في جزيرة ليسفوس

حين كنت أعمل في جزيرة ليسفوس في اليونان، بين العامين 2015 و 2016، حين كانت الأزمة بأشدها، وحين كان خفر سواحل اليونان يُغرق القوارب المطاطية أو يدعها تغرق أمام عينيه، دون أن يرمش له جفن، لأن المجرمين وتجّار الأرواح البشرية كانوا يحشرون اللاجئين في قوارب غير صالحة للإبحار تقوم برحلات محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا، فلا يكاد المركب يبتعد عن الشاطئ حتى يتوقف المحرك والذي هو بالأصل لا يعمل وعندها لا تفيد الصافرات ولا الصراخ ولا الدعاء لأن خفر السواحل اليوناني كان يتجاهل ما يسمع وما يرى، ولأن من ضمن مخططاتهم إغراق هذه المراكب لمنع وصول اللاجئين إلى اليونان، وهي دولة العبور الأولى التي تمتلك مفاتيح الجنة الأوروبية.

آنذاك كنت أعمل مع الأطفال القاصرين. آلاف من الأطفال واليافعين تركوا سوريا وحدهم أو برفقة جيران لهم أو قريب بعيد. أطفال انتشلوا من حضن الأم الدافئ ليسيروا مئات الكيلومترات، بل آلافها، متعرضين لكل ما يمكن أن يتعرض له طفل في غابة من الوحوش البشرية، وحين يصلون إلى شاطئ تجار الحياة والمراكب المطاطية، كان عليهم أن يدفعوا الثمن أساور الأم التي خبأتها من يوم عرسها إلى يوم أسود. لم يرحم التجار أحدا، ولا حتى الأطفال، بل كانوا يأخذون من كل واحد منهم 800 دولار ويأخذون منهم كل ما يحملونه من ذكريات أخذوها على عجل معهم. هؤلاء الأطفال، (وهنا أتحدث عن أطفال من السبع سنوات إلى الرابعة عشر أو الخامسة عشر، لأنني عملت معهم واستقبلتهم) منهم من كان يصل على قيد الحياة إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، وهو بالرمق الأخير، لأن أمه كانت تدعو له وتصلي ولأنه وعدها أن يصل إلى بلد آمن يحملها إليه بعد سنوات. كانوا يصلون يرتعدون بردا وألما وجوعا وحرقة على من تركوا وراءهم. هناك في مخيم اللاجئين، مخيم موريا، كان الأطفال وكل القاصرين يبقون مدة أسبوع، بعد ذلك يخيرونهم بالبقاء في بيت مخصص للقاصرين إلى أن يتموا الثامنة عشر عاما أو يتابعوا رحلتهم سيرا على الأقدام ليصلوا إلى جنة الخلد التي كانت آنذاك ألمانيا.

دول العبور: الانتهاكات وتجاهل حقوق اللاجئين العالمية

أظن أننا جميعنا شاهدنا ما كان يتعرض له اللاجئون لم ننس، ولا نستطيع أن ننسى، وخاصة الأطفال في رحلتهم الشاقة الطويلة جدا المليئة بتجار الأعضاء البشرية، (الذين كانوا يدّعون أنهم من منظمات إنسانية، ليلجأ اليهم الأطفال) مليئة بالشرطة العنصرية وكلابها، مليئة بشريعة الغاب البشرية، وحين يصلون تكون بانتظارهم مفاجآت مرعبة كثيرة، والضياع فيها أمر غير مستحيل.

وهذا إنما يرمز إلى حجم الواقع المأساوي لظاهرة الهجرة غير الشرعية لأنه لا مجال للانتظار تحت القصف والدمار، لا مجال للبقاء في أرض تحولت إلى معتقل كبير لا رحمة فيه ولا وسيلة للبقاء…. هذه المأساة الإنسانية العالمية جعلت شبكات الإجرام وتجار الأرواح والأعضاء البشرية يمارسون كل أنواع الجريمة… آنذاك صار البحر الأبيض المتوسط عميلا لهؤلاء وشريكا لهم حيث كان يبتلع يوميا مئات الأرواح من نساء وشباب وأطفال وكبار بالسن دون أن يرحم أحدا، فاللاجئ الهارب من الموت هو وأطفاله كان يتعرض إلى ثلاث شبكات إجرامية: التجار والبحر وخفر السواحل اليوناني وغير اليوناني في دول العبور.

يتعرض اللاجئون العالقون على الحدود في أي دولة من دول العبور إلى انتهاكات متكررة، تبدأ بالضرب المبرح والسجن وسرقة أموالهم وهواتفهم وتركهم بالعراء، أو إغراق قواربهم وإبقائهم على الجزر المهجورة ليموتوا جوعًا وعطشًا، وهذه جرائم ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي.

بالإضافة إلى عمليات الإعادة غير القانونية للاجئين والمهاجرين التي تقوم بها السلطات اليونانية في البرّ والبحر.

وفي معظم الحالات، كانت أعمال العنف المذكورة تنتهكُ الحظر الدولي للمعاملة اللاإنسانية أو المهينة، كما كانت الأفعال المرتكبة في بعض الحالات تبلغ حد التعذيب، بالنظر إلى شدّتها أو نية الإذلال أو العقاب الكامنة وراء هذه الممارسات.

التحديات الداخلية التي تواجهها دول العبور والبلد المضيف

أعلنت الوكالة الاتحادية الألمانية للعمل زيادة البطالة في ألمانيا للمرة الأولى منذ أشهر، وذلك بعد تسجيل اللاجئين الأوكرانيين. ولكن الأهم من موضوع البطالة في سوق العمل هو نشوء اليمين القومي المتشدد ولا تقتصر المشكلة  على ألمانيا بل هي بدأت تنتشر وتمتد في الدنمارك، تشيكيا، المجر، النرويج وفرنسا، بالإضافة إلى صعوبة الإندماج والتقبُل من الطرفين، من الضيف والمضيف، فمن ناحية عدم معرفة اللاجئ عما ينتظره في البلد الجديد من عادات وتقاليد وقوانين لم يسمع بها قبلا، فمعظم الهاربين اللاجئين لم يخرجوا من مدينتهم أو قريتهم قبل التشرد والنزوح… وبالتالي الأمر المستهجن الغريب ينطبق على سكان البلد المضيف الذي لا يعرف شيئا عن ضيوفه الذين جاؤوا وانتهكوا هدوءه وراحته وغطوا الشوارع والحدائق والحقول، ولأن مسؤولي البلد المضيف لم يفكروا بتهيئة وتحضير أبناء البلد بإعطاءهم فكرة أو درسا عن هؤلاء المغلفون بالتعب من يكونون ومن أين أتوا. التهويل ممّا يسمونه “أسلمة أوروبا” وهذا ما يلعب عليه اليمين المتطرف وللأسف إلى الآن لم يجرِ التصدّي له عبر النخب والمسؤولين كما ينبغي.

ارتفاع نسب الأحزاب اليمينية التي تزرع في عقول الناس أن مسألة المهاجرين واللاجئين، هي غزو إسلامي لا يمكن دمجهم في مجتمعنا.

وهناك تخوف من أن تؤدي أزمة الهجرة واللاجئين إلى تقسيم القارة العجوز بين دول تنادي بفتح الحدود، ودول تنادي بغلقها من خلال تشديد العوائق في وجههم. دون أن ننسى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الدول الأوروبية اليوم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

واجب دول العبور والاتحاد الأوروبي

تظلُّ أزمة المهاجرين وطالبي اللجوء العالقين على الحدود في دول العبور مأساة إنسانية في المقام الأول، يجري توظيفها واستثمارها سياسيًّا من كافة الأطراف، وفي دول تعيش صراعات داخلية وعدم استقرار يكون المجال أوسع أمام العصابات التي تستغل الوضع القائم من عدم الاستقرار لتقوم بعملية حجز اللاجئين للإتجار بهم واستغلالهم في أسوأ أنواع الاستغلال والضحية في النهاية هؤلاء الأبرياء الضعفاء الذين يتساقطون صرعى وجرحى، وتهان كرامتهم وتهدر آدميتهم.

على الاتحاد الأوروبي الخائف من تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أراضيه، أن يعمل بصدق على المساهمة في حلّ النزاعات الدموية في مختلف مناطق الصراعات الملتهبة وعليهم توفير المساعدات والإسعافات الأولية والتعامل مع هذه المأساة، كقضية إنسانية بحتة، والتوقُّف عن استخدامها كورقة تفاوضية من مختلف الأطراف، وضرورة أن يتمثّل الهدف الأول لحلّ تلك الأزمة في حفظ حياة وأمن وكرامة وحقوق أولئك المهاجرين قبل كل شيء.

هنالك حاجة ملحة لتوسيع نطاق المساعدة الإنسانية للاجئين والمهاجرين في جميع دول العبور وجعلها أكثر شفافية عن طريق التوعية المستمرة من خلال الإعلام المرئي والمسموع ومن خلال دورات تدريبية للتوعية والتعليم.

يجب أن يتوقف الحجز التعسفي للمهاجرين واللاجئين بشكل فوري. ويجب إنشاء ملاجئ تؤمن لهم الأمان والمساعدة على وجه السرعة والضرورة، ريثما يتم ترتيب إجلائهم.

لا يمكن لذلك أن ينجح إلا إذا توقفت أوروبا عن إعادة أولئك الذين يحاولون الفرار عبر البحر وإذا أمَّنت الدول الآمنة المزيد من الأماكن لاستقبال الناجين.

كل إنسان منا معرض للهجرة إلى بلد آخر، كل واحد منا ممكن أن يكون لاجئا اللاجئون ليس لديهم خيار فالخيار لنا والمعاناة المشتركة تصنع الأمل وتبني المستقبل.

العظمة لجميع الأوطانِ التي تحدثتْ بلغة الحبِ والكره، بلغة الفرحِ والحزنِ، بلغة الحياةِ و الموتِ، بلغة الأملِ في العودة للوطن والألم لفراقه.

لم يسع أي لاجئ أن يقول سوى ما قاله غسان كنفاني في روايته (عائد إلى حيفا) “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية: الوطن هو ألا يحدث ذلك كله” نحن على أملٍ بامتلاك تلك التأشيرة التي ستقلنا إلى وطننا ونحن على أملٍ أننا سنعود.

الشكر لكل الجهات الليبية الداعمة والمعززة لدعم المبادرة لإحقاق حقوق اللاجئين والدفاع عنهم وحمايتهم في كل دول العبور.

والشكر الخاص لكافة العاملين بجهاز دعم الاستقرار ورئيسه على الجهد الذي يبذلونه من أجل حماية اللاجئين.

شكرا لكم والنصر لكل الشعوب التي تناضل من أجل حريتها وأمنها واستقلالها عاشت ليبيا حرة متوحدة أبيّة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. ملك مصطفى

رئيس الشبكة الدولية لحقوق الإنسان والبيئة، أدبية وشاعرة

اترك تعليقاً