ملتزمون بالتفاؤل

ملتزمون بالتفاؤل

منذ بضعة أيام نشرت مقالة جعلت لها عنواناً، قلت إني ترددت كثيراً قبل امتلاك الجرأة على كتابته، يقول: (وجه الليبيين القبيح).. وقلت إني بلغت حالة من الغضب والسخط والاشمئزاز من مختلف مظاهر وسلوكيات الفساد والفوضى والتخلف، التي أخذت تطغى على سطح حياتنا، ولا سيما بعد انتهاء معركة الثورة الأولى، بخلاصنا من شخص الطاغية، حتى بات يراود الكثيرين منا إحساس ممض ثقيل بأن هذه المظاهر القبيحة هي ملامح وجهنا الحقيقي، وأن ما شاهدناه أثناء الحرب من ملامح جميلة رائعة وسامية، لم يكن له أصل ثابت في تربة شعبنا وبلادنا، ومن ثم فما كادت تهب عليه رياح التغيير، التي أخذت تعصف بنا بعد انعتاقنا من تلك القيود التي كبلنا بها نظام القهر والاستبداد طوال أربعة عقود، حتى انحسرت تلك الملامح الجميلة، فكشفت عما كان يختبئ خلفها من قبح وبشاعة وعفونة.

ولكني حرصت على أن أعبر في نهاية تلك المقالة عن قناعتي بأن هذه الملامح القبيحة ليست هي الأصل، وإنما هي الطفح الذي يظهر على الجلد، نتيجة إصابة الجسم بعلة ما، وربما تمثل في بثور ودمل وخُرّاج يملؤه الصديد، ولكنه سرعان ما يزول ويتلاشى عندما تعالج العلة الدفينة التي أعلنت عنها تلك المظاهر الخارجية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء اختيار بين أمرين: إما أن نسمح للهلع واليأس بأن يقضي على ما قد يكون لدينا من مقاومة للمرض، وإرادة للبحث عن العلاج، للشفاء منه، أو نعكف على البحث عن أصل الداء وأسباب العلة، ثم نبحث لها عن العلاج المناسب.

ولا شك أن الخيار الأول، أي الاستسلام لليأس، هو بمثابة الانتحار الفعلي.. ومن ثم فإذا بقيت لدينا فعلاً إرادة للحياة والبقاء، فعلينا ألا نسمح لليأس بالولوج إلى نفوسنا، وأن نصر على البحث عن أسباب الشفاء من العلة، وإزالة العراقيل من الطريق، والتغلب على المصاعب والعقبات.

إن ما عددته في مقالتي من ملامح القبح والبشاعة التي ظهرت على وجه حياتنا، هي من هذا القبيل، إنها أعراض سطحية لعلة أصابت جسدنا الوطني السياسي، نتيجة لاختلال الضوابط والحدود التي يجب أن تلتزم بها أجهزة هذا الجسد، حتى يقوم كل منها بوظيفته على أفضل وجه، وحتى لا يتعدى بعضها على بعض، فيختل عمل الجسم كله.

إن جسد الدولة الديمقراطية لا يمكن أن يقوم بوظائفه على الوجه المطلوب إلا إذا بقيت خلاياه (أي المواطنون) حية سليمة، وبقيت أجهزته الحيوية: المخ، القلب، الكبد، الكلى..إلخ (ويقابلها المؤسسة التشريعية، المؤسسة التنفيذية، القضاء، أجهزة الرقابة والمحاسبة) تؤدي وظائفها كما هو مرسوم لها، في تناغم وانسجام فيما بينها، حتى لا يصاب الجسم كله بالعلة والمرض إذا ما تخلف جهاز منها عن أداء وظيفته، فينسحب الأثر على سائر الأجهزة.

إن ما نشاهده من مظاهر الفساد المالي، نتيجة مباشرة لتوقف جهاز الرقابة والمحاسبة عن أداء وظيفته، ما أدى بنا إلى مشاهدة ذلك النزيف المرعب من أموال الدولة، التي تذهب في كل اتجاه، ولا يعرف أحد، من يسمح بصرفها، وأين تصرف، ومن سوف يكون المسؤول عن ضياعها وإهدارها.

وما نشاهده من انفلات أمني وعجز في قدرة الدولة على فرض هيبتها وسلطانها، نتيجة لانتشار الخلايا السرطانية التي تفشت في أنحاء الجسد، وأخذت تعبث به دون رادع أو مقاومة: إنها هذه الجماعات المسلحة التي امتلكت السلاح واستغلت ضعف أجهزة المقاومة في الجسد العليل، فأخذت تهاجم أعضاءه وأجهزته، وتعوقها عن أداء وظائفها. ولا أمل للجسم في الخلاص من العلة واستعادة الصحة إلا بمقاومة هذه الخلايا السرطانية بالعلاج الملائم، حتى القضاء عليها واستئصالها تماماً.
وما نشاهده من تفشي مظاهر الانفلات من الضوابط والمحددات للنظام العام والقانون نتيجة لغياب السلطة الرادعة التي توقف كل متجاوز عند حده، وتحول دونه وارتكاب المخالفة، وإلا تعرض للجزاء والعقاب. ولا أمل لنا في التمكن من مقاومة هذا الملمح القبيح ومعالجته إلا بالإصرار على امتلاك الدولة لتلك السلطة الرادعة، القادرة أولاً على مقاومة هذه السلوكيات قبل أن تقع، وقادرة ثانياً على ملاحقة مرتكبيها بعد وقوعها، ثم إصرارنا على امتلاك الجهاز القضائي المؤهل والقادر على تحقيق العدالة، بإيقاع العقاب والجزاء الرادع على كل من تسول له نفسه اختراق القانون وارتكاب المخالفة أو الجريمة.

وما نشاهده من مظاهر فساد أخلاقي، هو في جزء كبير منه نتيجة مباشرة لنوعين من الخلل: أولهما الخلل في النظام التربوي، الذي يفشل في غرس الأخلاق الحميدة في نفوس النشء، منذ مراحل الطفولة الأولى والتعليم الأساسي، ومن ثم يتركهم لقمة سائغة وفريسة سهلة لمختلف المؤثرات والعوامل الخارجية، فينزلقون إلى الممارسات المرذولة، التي تبدأ باكتساب عادة التدخين، ثم تتطور وتتمادى حتى بلوغ مرحلة تعاطي المخدرات والإدمان عليها، والانتهاء إلى ارتكاب أفظع الجرائم والانتهاكات. أما الخلل الثاني فهو الخلل في النظام الاقتصادي، الذي يفشل في فتح آفاق بناء الحياة والمستقبل أمام الشباب، فيقعون في منزلقات البطالة، ومن ثم العجز عن الوفاء لا بمتطلبات بناء مستقبل، ولكن أيضاً بمتطلبات الحياة في الحاضر، ما يسد أمام الشاب أبواب الأمل في حياة شريفة كريمة، ويجعله فريسة سهلة لمختلف العوامل التي تجذبه إلى حدي التطرف، يمينا وشمالاً، فيتحول إما إلى متطرف في اتجاه التزمت الديني والانغلاق الفكري، حد التعصب لفكرة معينة، والاستعداد لحمل السلاح واستخدام أساليب الإرهاب لفرضها بالقوة على من يعتقد أنهم مخالفون لها، أو إلى متطرف في اتجاه الانحلال الأخلاقي، ومن ثم الاستعداد لارتكاب مختلف أنواع الجريمة، من سرقة واعتداء على حياة الآخرين وأموالهم وأعراضهم.

وواضح أن علاج هذا المظهر الأخير سوف يتطلب خططاً علمية مدروسة لبلورة نظام تربوي، يفلح في خلق المواطن الصالح المنتج الملتزم بضوابط الحياة العامة والنظام والقانون، وبالتزامن مع ذلك نحتاج إلى خطط لإيجاد نظام اقتصادي، يفلح في فتح فرص العمل والإنتاج أمام المواطنين عامة، والشباب بوجه خاص، حتى يجد الشاب ما يملأ حياته ووقته نشاطاً وعملاًً، وفي الوقت نفسه يملؤها ثقة وأملاً، فلا يجد الوقت ولا الروح الملائمة للانهيار في مهاوي التطرف أو الرذيلة أو الجريمة.

ولقد ذيلت مقالتي تلك بالتساؤل التالي: “فهل نعترف ونسلم بأن هذا الوجه القبيح هو وجه الليبيين الحقيقي؟”. وأجبت عن السؤال بالنفي، وقلت إن هذه الملامح القبيحة يجب أن ننظر إليها على أنها طفح مرضي، انتشر على جلد الوطن والثورة، ربما بسبب اضطراب أو خلل عارض طرأ في أداء أجهزة الدولة لوظائفها الحيوية، وعلينا أن نجد الوسيلة لمعالجة هذا الخلل وإيجاد العلاج الناجع له.

وأضيف هنا أن علينا ألا نستسلم أمام وطأة المرض واشتداد العلة، وأن نمتلك روح الصمود والمقاومة، ونبحث عن الوسيلة المناسبة لإيجاد العلاج الناجع. إن علينا أن نوصد أبواب نفوسنا بصلابة وقوة ضد محاولات اليأس والإحباط للتسلل إليها، وأن نتخذ من العبارة التي عنونت بها مقالتي هذه (ملتزمون بالتفاؤل) شعاراً لنا، بمعنى أننا سنظل متفائلين بقدرتنا على تحقيق الانتصار في المعركة الثانية من معارك الثورة، وهي معركة بناء الدولة، وأن علينا أن نمتلك الوسائل الضرورية لجعل هذا الشعار يستند إلى حقائق ومعطيات فعلية، نستمدها من قدرتنا جميعاً، أفراداً وجماعات، داخل مؤسسات السلطة وخارجها، على إدراك حقيقة الأهداف التي سعينا إلى تحقيقها من وراء الثورة، وأن نصر على مواصلة العمل والكفاح، بنفس روح البذل والعطاء والتنافس عليهما، التي شملتنا منذ اندلاع الثورة ورفرفت علينا طوال مرحلة خوضنا معارك السلاح ضد الطاغية وكتائبه وأنصاره، حتى نحقق النصر المؤزر النهائي في معركة البناء، الذي لن يكون إلا بتمكننا من القضاء على العلة أو العلل التي أصابت جسد الثورة والدولة، حتى يستعيد الجسد صحته وعافيته، ومن ثم قدرته على الحركة الفاعلة المنتجة في مرحلة إعادة البناء.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً