من لم يمت من الحر مات من دُخَّان عادم المولد

من لم يمت من الحر مات من دُخَّان عادم المولد

عبد العزيز الغناي

ناشط سياسي ومدون

بمجرد ما أن تعود الكهرباء للمنزل وبمجرد ما تنتهي فرحتنا المؤقتة، حتى نبدأ نهرع لشحن ما يُشحن أو لتشغيل المكيفات والغسالات لمحاولة اقتناص دقائق من السعادة الفعالة المبنية على سيطرة وسيادة خارج نطاق تحكمنا.

حتى وإن جاء الكرينتو (التيار الكهربائي) ضعيفا ما بين الـ170 إلى 180 فولت فإنه كفيل بنشر السعادة وزرع الغبطة والشعور بنشوة الفرحة تلك الفرحة التي سُرقت من آخرين قطعت عنهم الكهرباء وهرب عنهم الكرينتو ليتوفر بين يديك وتحت سيطرتك.

الكهرباء في ليبيا مأساة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وإذا قال ماركس “إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة” فكيف لنا أن نصف تكرار انقطاع الكهرباء بين المهزلة والمأساة والشعور بالغضب والعجز والخوف وعدم المواطنة فوق دولة النفط والغاز والإشعاع الشمسي والثروات والشعب قليل العدد المتمتع بأسمى حالات الحرية.

بين التوليد والتوزيع والنقل وأعذار المسؤولين يتذوق الليبي صنفا من أصناف العذاب المخزي والموت البطيء، ولا سبيل لك للانتقاد؛ لأن مجرد انتقادك يحسبك على طرف سياسي معارض للحكومة، فالتهمة موجودة بأنك تبع فلان وعلان مباشرة دون أدلة، فما لك إلا أن تتجرع أصناف العذاب وأنت صامت ولك رب اسمه الكريم.

إذا كنت سبتمبري فسيرجع المناوئون لك المشكلة لحكم معمر القذافي وما قاله في خطابه الشهير عام 2004 وقصة من يشعل الإنارة والتدفئة في إعلام التدليس، وإذا كنت فبرايري فأنت سبب النكبة والنكسة وانهيار الشبكة، وإذا كنت تدعم الإسلام السياسي فسيقولون إن السيسي جعل من مصر بؤرة الطاقة في المنطقة، وإذا كنت تدعم العسكر فسيقولون إن هذه الأزمة سببها العقلية العسكرية، وإذا كنت مع الدبيبة فستجد الأعذار؛ لأن المتربصين بالحاكم كثر وإذا كنت مواطنا ينادي بالإصلاح فستسأل (من قال لك إن باشاغا سيصلح الكهرباء).

مع ارتفاع درجات الحرارة لن تحاربك الحرارة وحدها فالرطوبة ستكتم الأجواء وستؤثر على نقل الطاقة وستحاصَر من عدة محاور، محور الحرارة والرطوبة وضعف التيار الكهربائي وبنائنا ومبانينا التي نقطنها والتي لا نعرف فيها ثقافة العزل أبدا وانحسار الغطاء النباتي من الأشجار وتصحر المدن والقرى، هذه القوات التي تربض على ناصية لحظات حياتك الصيفية كفيلة بأن تحيل حياتك إلى جحيم لا تهنأ فيه بنوم ولا مأكل ولا مشرب ولا عمل ولا رياضة ولا حتى حوار أو نقاش مع الأهل والأصحاب.

وحينما تستسلم وتفتح النوافذ فسيهجم عليك دخان عوادم مولدات الجيران وصوتها المزعج وبعوض المدن الذي لن يحتاج إلى لدقائق معدودة ليسجل على جسدك لسعات أكثر من أهداف كريستيانو رونالدو خلال مسيرته الرياضية، ولمكافحة هذا أنت مضطر إما لرش المبيد أو إشعال أعواد ماهو أشبه بالبخور الطارد للحشرات الطائرة.

البيت الليبي برعاية الشركة العامة للكهرباء أصبح خلال ضوء الشموع التي تنير الغرف أشبه بكنيسة تقام فيها أعياد القداس، كما ينبعث منه رائحة البخور الطارد للبعوض فيما يشكل طقسا لمعابد الهندوس وإن اختلف الواقع عن التشبيه، فأنت في بحر الظلام والكتم وضيق التنفس وضنك العيش، ولا مهرب ولا ملجأ من هذا إلا شراء مولد ثم شراء الوقود والزيت وتوصيل هذا وإطفاء ذاك، وان سلمت بعد كل هذا ستجد المولد يشتغل لساعات معدودة ثم يعلن انهزامه أمام قسوة ظروف التشغيل والاستهلاك لتعرف أيها الليبي أن ما تصبر عليه لَتنوء عنه المولدات المصنوعة من الفولاذ.

مشكلة الكهرباء مع الحكومات هي معضلات داخل مشكلات، لكنها كلها تتمحور حول نقطتين: الأولى هي مجابهة الفساد والتقصير والاستهتار.

والثانية هي أن هذه الحكومات التي عادة ما تكون مؤقتة أو انتقالية هي حكومات تحاول التعامل مع الأزمة ونقلها للحكومة القادمة لاستعمالها من باب الابتزاز والمناكفة السياسية، لكن على أرض الواقع وباستثناء الحروب فلا أعذار ولا مبررات لهذا الأداء الهزيل للشركة، ولا داعي لكل هذه الأعطال والتأخر في توريد المواد ومعدات الصيانة، لا يمكن للعقل أن يستوعب أن هناك رئيس حكومة راض عن الضغوط المتولدة من الشعب جراء أزمة الكهرباء فهو بالتالي سيسعى لحلحلة الإشكال الحاصل منها، إلا أنه ولغياب الدستور والاستمرار في الاتفاقات والتوافقات السياسية عادة ما يكون منصب رئيس الحكومة محل تنافس لم يدم لكثر لذا فيستثمر – بالطبيعة البشرية – على سلفه أن ينعم بهدوء الشعب ورضاه على ملف الكهرباء.

السابقة التي ألحظها حاليا هي معدل التبرير والتطبيل والدفاع المستميت لأول مرة لحكومة من حكومات ما بعد فبراير خاصة حول أداء الكهرباء، فالجحيم أصبح في عيونهم زمهريرا والانقطاعات مبررة وتبقى أفضل من الإظلام التام (بلاك أوت) ودون النظر إلى الظروف الأمنية المهيئة وتوقف الحرب وتعديل سعر الصرف واستمرار تدفق النفط.

ملف الكهرباء كرة ملتهبة كانت تنغص حياة المسؤولين والشعب صيفا، لكنها مع الأسف أصبحت تحدث شتاءا، ملف الكهرباء لا يقبل التسويف أو التأجيل أو امتصاص الغضب، خاصة إذا كانت حكومة وعدت أكثر من مرة بالإصلاح ولم تفلح في هذا، تعطيل الدراسة وانهيار القطاع الطبي والصناعي والتعليمي وتدمير الأجيال، وارتفاع معدل الجريمة وتعطل منظومات الشبكة العنكبوتية التي من المفترض أن تقدم الخدمات للمواطن، فإن أردت أن تُطاع اطلب المستطاع يا رئيسنا.

وبدلا من أن تلعن الظلام أوقد شمعة واطرد البعوض وتغزل في إنجازات الحكومة وإن تأخرت قليلا.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عبد العزيز الغناي

ناشط سياسي ومدون

اترك تعليقاً