نحن والمسألة الأمنية

نحن والمسألة الأمنية

من المؤكد أنه لم يعد ثمة خلاف بين الليبيين، أصحاب المصلحة الحقيقية في ثورة 17 فبراير، حول فكرة أن المسألة الأمنية باتت هي القضية الكبرى الأَوْلَى بكل عناية واهتمام وتقديم. لقد باتت هي الأولوية المطلقة، بمعنى أننا لن نستطيع أن نفكر أو نحلم بإنجاز أي شيء ذي قيمة على صعيد تأسيس دولتنا الجديدة، ووضع خطاها على الطريق الصحيح، ما لم نعالج هذه المسألة بما ينبغي ويمكن من المعالجات والحلول الحاسمة والنهائية.

إذن فنقطة الانطلاق في مسيرة البناء يجب أن تكون من فكرة أن فرض هيبة الدولة وإحكام سيطرتها على كل مفاصل الأمن القومي والوطني هي الأولوية المطلقة، وهي نقطة الأساس للانطلاق نحو بناء الدولة.. فبدون إتمام سيطرة الدولة وفرض الأمن .. لن تكون هناك دولة ولا مستقبل.

بعد ذلك يبقى أمامنا بحث ما يلزمنا لمعالجة المسألة الأمنية وفرض سيطرة الدولة، وفي هذا الصدد أود التأكيد على الأفكار التالية:

  • الخطوة الأولى هي بناء المؤسستين العسكرية والأمنية بناء مهنياً احترافياً، بالرجال والمال والإمكانيات المادية (السلاح والآليات والأجهزة التقنية والفنية).. وهنا لابد من الآتي:
  • تكليف أفراد من داخل المؤسستين، من أولئك الذين يجمعون صفتي الوطنية والاحتراف… وذلك بكل بساطة من باب تطبيق فكرة إعطاء (الخبز لخبازه).. وعلينا أن نقر بأن بالعمل في المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية هو عمل مهني وتخصصي، يكتسب العاملون فيه تأهيلاً محدداً، وفق إعداد علمي ومهني مقصود ومبرمج، ومن ثم يكونون أقدر من غيرهم على أداء العمل بما ينبغي من المهنية والاحتراف والعلمية. وهكذا فإني أرى أن من الضروري أن يكون على رأس الجيش وعلى رأس المؤسسة الأمنية رجال من داخل هاتين المؤسستين.. وإني أحرص في هذا الصدد على الرد على من يشملون كل من عمل في المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية بالإدانة والاتهام، والوصف بأنهم ممن عملوا في النظام السابق، ما يعني التشكيك في وطنيتهم ونزاهتهم، واتهامهم بالضلوع في كل ما ارتكبه عناصر من هاتين المؤسستين من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان وغيرها. وذلك لأني أؤمن بأن هناك ممن عملوا في هاتين المؤسستين عناصر لا يرقى أدنى شك إلى وطنيتهم وإخلاصهم ونزاهتهم، ومنهم أولئك الرجال الذين كانوا من أوائل المبادرين للانحياز إلى ثورة الشعب، والمساهمة في كل الجهود الحربية التي قادتها إلى إحراز النصر. وإني واثق أننا يمكن أن نبرز من بين هؤلاء الرجال من نوليهم ثقتنا في إعادة بناء المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية.
  • بعد اختيار هؤلاء الرجال الذين نكلفهم بالمسؤولية، تكون الخطوة التالية اللازمة إعطاؤهم كافة الصلاحيات الكاملة للفعل والتصرف بناء على خطة محددة يضعونها لإنجاز المهمة، تمر بمراحل متتالية:
  • المرحلة الأولى تجنيد العناصر المطلوبة للمؤسستين، تبدأ من اختيار الأعداد الكافية، من أبناء كل المناطق والمدن الرئيسة، بعد الانتهاء من عملية فرز شاملة في أوساط العناصر العاملة أصلاً في المؤسستين، للإبقاء على العناصر المشهود لها بالوطنية والنزاهة والمهنية من كبار الضباط وصف الضباط والجنود.
  • المرحلة الثانية وضع خطط علمية مركزة لتدريب هؤلاء الضباط والأفراد وتأهيلهم تأهيلاً مهنياً، على أرقى ما وصلت إليه الدول المتقدمة في هذا الصعيد، وتأهيلاً سياسياً، لتأكيد تشربهم للعقيدة العسكرية والأمنية للدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحقوق والحريات وسيادة القانون.
  • المرحلة الثالثة تزويد هاتين المؤسستين بكل ما يلزم من إمكانات مادية ولوجستية: السلاح المناسب (ثقيل ومتوسط وخفيف)، الآليات اللازمة للحركة (سيارات، وناقلات جنود وأسلحة، طائرات مراقبة ونقل جنود وأسلحة…إلخ)، أحدث تقنيات المراقبة (على حركة المرور في شوارع المدن والتجمعات السكانية، وعلى الحدود والمنافذ البرية والبحرية والجوية)، إلى جانب تقنيات الاتصال، من خلال ميكنة العمل، بحيث يتم كله من خلال منظومات حاسوبية مربوطة مع بعضها البعض وبالحكومة المركزية عبر الشبكة العالمية.

بعد استكمال هذه المراحل أو أثناءها، يمكن التفكير في خطة العمل والتنفيذ، وقد يكون من المفيد الإشارة إلى فكرة تطبيق اللامركزية في الإدارة، من خلال إعطاء صلاحيات واسعة للمسؤولين في المناطق العسكرية ومديريات الأمن بالمناطق، وتحميلهم مسؤولية ضبط الأمن في مناطقهم، بحيث يمكن ويجوز محاسبتهم على أي تقصير قد يقع في حدود مناطق اختصاصهم.

ولعل من أولى مهام هاتين المؤسستين مجتمعتين وضع خطة لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة خارج المؤسستين الرسميتين، باستيعاب أفرادها كمجندين في هاتين المؤسستين أو عاملين في مختلف مجالات الحياة العملية، ولعله قد بات من تحصيل الحاصل التأكيد على أنه لا معنى مطلقاً للحديث عن دولة في ظل وجود جماعات مسلحة، لا تخضع لسلطة الدولة وقوانينها. في إطار الدولة السيدة لا يجوز أن يوجد السلاح إلا في يد السلطة التي يخولها الدستور ذلك، والحديث هنا بالتحديد والحصر على سلطتين هما: سلطة الجيش وسلطة المؤسسة الأمنية. وعلى هذا الصعيد لا يعود ثمة أي تفريق أو تمييز بين طبيعة من يحمل السلاح أو يمتلكه، من جهة أنه كان يوماً من الثوار المحاربين، أو أنه مارس دوراً ما خلال مرحلة الثورة وما تلا التحرير، أو أنه مجرد مجرم خارج عن القانون، يستخدم السلاح لممارسة الإجرام والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم. وفي الدولة السيدة لا يجوز للمواطن العادي أن يمتلك السلاح إلا بناء على ترخيص قانوني، يمنح له وفق شروط وحدود معينة. وهذا النوع من السلاح (الشخصي) لا يتجاوز السلاح الخفيف، وبالتحديد المسدس.

وبناء على هذا يكون على الدولة أن تسن التشريعات اللازمة لحظر امتلاك السلاح خارج نطاق المؤسستين الرسميتين، ثم تضع الخطط اللازمة لجمع السلاح من المواطنين، وفق مراحل زمنية ومهل قانونية، توفر لمن يمتلك سلاحا الوقت الكافي لتسليمه للجهات الرسمية، وإلا طبق عليه القانون، وأخذ منه السلاح عنوة.

ولعلنا لا نحتاج إلى كثير من التأكيد على أن ما تحدثنا عنه آنفاً هو خطوة أو خطوات أساسية لازمة للتمكن من بلوغ المرحلة التالية وهي مرحلة تفعيل القضاء والعدالة، وذلك لأننا جميعاً بتنا ندرك أن أحد العوائق الكبرى أمام تفعيل القضاء كان الانفلات الأمني وعجز الأجهزة الرسمية للدولة (الجيش والشرطة) عن فرض هيبة الدولة وسلطتها، فبات القضاة ووكلاء النيابة ومأموري الضبط القضائي عاجزين عن أداء مهامهم، لعدم ضمان أمنهم الشخصي، وعدم توفر الإمكانات المادية والعملية اللازمة. إننا نشتكي من انتشار الجريمة، ونطالب بالتعجيل بمحاكمة المجرمين من عناصر النظام السابق، الذين ارتكبوا في حق الليبيين ما نعرفه من الجرائم والانتهاكات، ولكننا في الوقت نفسه نلاحظ كيف أن أجهزة الدولة وسلطاتها عاجزة عجزاً فاضحاً عن ملاحقة هؤلاء المجرمين، وتوفير ما يلزم لتقديمهم للمحاكمة وإنزال العقاب الذي يستحقونه بهم.

ولا شك أنه سيكون على الدولة أن تضع خطة خاصة لمعالجة هذا الملف، تبدأ بإعادة فرز العاملين في سلك القضاء، وإبعاد من تحوم حولهم شبهات الفساد، بمختلف أنواعه ومستوياته، ثم إعادة النظر في التشريعات الخاصة بالعمل في هذا السلك، من جهة توفير كل ما يلزم للقاضي كي يحيا حياة كريمة مستقرة، تضمن ألا يجد نفسه مطلقاً ضعيفاً أمام مغريات الكسب المادي، ومن ثم الانزلاق نحو الارتشاء وممارسات الفساد، إلى جانب النص في الدستور على استقلال القضاء، وضمان أنواع الحصانة للقضاة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً