هل الليبرالية هي الحل؟

هل الليبرالية هي الحل؟

صدح الآذان وقرع أجراس الكنائس في القاهرة ودمشق وبغداد منذ ما يزيد عن 1400 سنة ، وسماع قرع أجراس الكنائس في العالم الغربي وعدم سماع صدح الآذان هناك لهو الدليل الدامغ على أزمة الفكر الليبرالي.

ولكن ألسنا بذلك نقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه عديد دعاة الليبرالية عندما ساووا بين الإسلام وبين تطبيقات المسلمين له ؟ إطلاقاً فهذا من مرتكزات الفكر والفلسفة الليبرالية.

غير أننا نرى أنه من الظلم البين عقد مقارنة بين الإسلام وبين الليبرالية فالأول رباني والأخير بشري . فالمقارنة غير جائزة علمياً ومنطقياً . وإن أمكن المقارنة بين الفكر الليبرالي والفكر الإسلامي ، فكلاهما بشري ، وهذا ما وقع فيه العديد من المستشرقين بخلطهم بين الإنتاج البشري الإسلامي الفكري أو تطبيقاته وبين الإسلام ذاته.

ماذا عن الليبراليين العرب ؟! نعتقد بأن أهم ما يميز الليبراليين العرب أنهم غير ديمقراطيين . نعم فهم لا يحتملون فوز خصمهم السياسي الإسلامي . وهذا ما كنت متأكداً منه سابقاً وتأكد لي عند زيارتي لمصر . فالليبراليين هناك لم يرضوا ولن يرضوا بنتائج الانتخابات . وتفسيرهم لذلك أن الشعب المصري ( طيب ) و ( اتضحك عليه ) هكذا.

الليبراليون العرب لايحتملون رؤية أغلبية إسلامية !!! النائب الليبرالي عمرو حمزواي يتسأل هل سيتم تحريم الخمر من قبل الإسلاميين ؟!! أليس من مبادئ الديمقراطية أنه يحق للأغلبية أن تجرم و تمنع ما لا يمس ولا يخالف المبادئ الدستورية كأن تمنع التدخين مثلاً . وإذا لم يحقق الإسلاميين في مصر وعودهم الانتخابية لمن أنتخبهم بما لا يخالف الدستور ألا يصبحون حينئذ خائنين لوعودهم؟

إن الليبراليين العرب يرحبون بالديمقراطية ….. ، الجملة ناقصة ، وتكملة الجملة كالتالي … يرحبون بالديمقراطية التي لا تأتي بالإسلاميين ، لأن الفكر الليبرالي وفلسفته فكر إقصائي متعالي لا يعترف إلابنفسه . ولا ينظر للآخرين إلا كما ينظر الأب لطفله الصغير.

وهنا نود أن نوضح ونؤكد أنه ليس من هو إسلامي ليبرالي أو علماني بالضرورة. هذا خلط بين الثقافات وانتشار لفوبيا الإيديولوجيات . الكثير منا يقع في هذا الخلط دون أن يدري الفروق بين المجتمعات والثقافات والحضارات وسياقاتها.

أصل الفكر الليبرالي هو الأحادية والانغلاق . إن الليبرالية لا تبدوا كما هي ، شيء جميل وجذاب ، والكلمة السحرية للعدل والمساواة والحرية . عدد لا بأس منا لا يمتلك تصوراً حقيقياً عن الفكر والفلسفة الليبرالية الغربية.

بادئ ذي بدء يجب أن نعترف بالحق كما علمنا قرآئننا ورسولنا صلى الله عليه وسلم ونقر دون مواربة أو تشكيك بأن للفكر الليبرالي فضائل كثيرة ، لاسيما في تنظيره وتجسيده لمبدأ التداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات وتأكيده على الحريات وحقوق الإنسان وغيره مما أرتبط بالفكر الليبرالي . ولكن نجزم بأن الليبرالية تحوي تناقضات وإشكاليات خطيرة ؛ لانعدام أي أساس أخلاقي أو معنوي ، بل انعدام أساس فلسفي غير متناقض لها.

لقد أباح الأب الروحي لليبرالية جون لوك قتل الهنود الحمر أو أخذهم أسرى وعبيد إن قاوموا الاحتلال البريطاني لأمريكا . فالهنود الحمر ليسوا أمة في نظره ولذلك فإن الأوروبيين هم الأجدر بامتلاك هذه الأرض كونهم الأقدر على استغلالها.

أما جون ستيورات ميل الأب الروحي لليبرالية الكلاسيكية فقد دعى لامتزاج القوميات لتهجين السلالات ، مع اشتراطه بقاء الفئات الأقوى والأميز ثقافياً الشريك المهيمن على عملية التخصيب . فالآخرين في نظره غير عقلانيين ولم يبلغوا سن الرشد وبذلك وصل ميل إلى شرعنة الامبريالية واحتلال الأخريين. بل أن ميل منح الأمم الليبرالية الأكثر تقدماً الحق في احتواء وإخضاع الفئات الأقل تقدماً من الأمم الليبرالية.

مثالنا عن الكنائس والمساجد في بداية المقال يجسد أكبر عيوب الفكر والفلسفةالليبرالية وهو عدم الاعتراف بالآخر عكس ما يصرحون!!.

قد يستغرب البعض ذلك ؛ ومرد ذلك خلطنا بين القبول بالآخر وبين الاعتراف به . الفكر الليبرالي لا يعترف بالآخر وإن عاش وتعايش معه ، ولذلك ارتبطت نشأة الفكر الليبرالي بأكبر عملية استعمار وإبادة لشعوب بأكملها ؛ وذلك لوصول الفكر الفلسفي لليبرالية لحالة الكبرياء وانسداد الفكر البشري ، اعتماداً على أن الليبرالية جسدت الحرية والعدل والمساواة . وعندما يصل أي فكر بشري إلى إدعاء هذا التطابق بينه وبين المثل العليا كالحرية والعدالة والعدل والمساواة ، سينظر لنفسه على أنه نبي أو رسول لإنقاذ الآخرين ولو بالقوة . فهل يمكن لرسول أن يعترف بمن بُعث لإصلاحهم وإنقاذهم . لذلك تجد الكثير من الليبراليين حتى في عالمنا العربي ينظرون للإسلاميين على أنهم جهلة ورعاع ومتخلفون.

وبما أن الرسل والأنبياء الربانيون لديهم أساس أخلاقي عميق عكس الفكر والفلسفة الليبرالية ، أدى ذلك لكل المآسي التي ترتبت على الفكر الليبرالي قديما وحتى حديثاً.

لو عدنا لبداية الفكر الليبرالي ، سيستغرب الكثير قول البعض بأن المؤسس الفعلي للفكر الليبرالي هو مكيافيلي !!! واستغرابنا منبعه رسمنا لصورة مسبقة عن مكيافيلي والتركيز على كتاب الأمير فقط دون باقي إنتاجه الفكري . ولعل المبدأ الذي رسخه مكيافيلي في الفكر الليبرالي هو الفصل بين الأخلاق والسياسة ، أو النسبية الأخلاقية لاحقاً !!!.

الكثير منا يعتقد أن جون لوك ومونتسيكو وغيرهم من أعلام الفكر الليبرالي منظرون لحرية الإنسان وحقوقه أياً كان عرقه أو دينه أو جنسه أو حالته ، وهذا من الخلط الكثير . فجون لوك كان تاجراً للرقيق !! مفارقة صادمة للبعض ، فضلاً عن ما أصله وشرعنه بحق الهنود وباقي العالم الغير متحضر.

أساس فكر لوك هو النظرية الذرية ، أي أن الأصل هو الذرة أي الفرد وهو عينه أساس المأزق الأخلاقي لليبرالية ، وهو الفر دانية المتطرفة . ولكن هنا يجب أن ننتبه إلى أن حرية الإنسان لدى مؤسسي الفكر والفلسفة الليبرالية ليست حرية أي إنسان ، بل حرية الإنسان المالك ، ولذلك مثلاً حُرمت المرأة في بريطانيا من التصويت حتى بدايات القرن العشرين ، وحُرم السود في أمريكا من كل حرياتهم وحقوقهم ، وفولتير مثلا يرى بأن لطبقة النبلاء حقاً ليس لباقي الشعوب بل ذهب لاستثناء باقي الشعب من التعليم.

لقد قلب الفكر الليبرالي النظرة إلى الإنسان ، فبعد أن نظر إلى الإنسان على أنه كائن عقلاني على يد ديكارت ، أنقلب لدرجة التطرف لكائن اقتصادي على يد الليبرالية . فبعد الليبرالية الغائي يكاد ينحصر في تأكيد الجانب المادي للإنسان فقط.

إن كتب جون لوك تحوي تناقضاً صارخاً يدلل على تهافت أساسه الفلسفي والفكري للحرية .فهو من ناحية يؤكد الأساس التجريبي للمعرفة ونسبيتها ، ثم يأتي ويقول بيقينية الحكم الأخلاقي السياسي ، ووجود قانون طبيعي سابق على تكون الاجتماع المدني.

جون لوك يناقض نفسه بين تأكيده على استحالة أن ينتج العقل البشري إلا معرفة نسبية ، وبين تأكيده الجازم لنظريته السياسية المستندة على مفهوم القانون الطبيعي ، والتي هي قاعدة الفكر الليبرالي الحديث !!!!

فمن أهم مساؤي الليبرالية أنها حررت الإنسان من سلطة السياسة ألا أنها كبلته وقيدته بسلطة الاقتصاد.

قد يتساءل البعض أليس لليبرالية سند أخلاقي ؟ نعم لها أساس أخلاقي وهو نظرية المنفعة بدلالتها الفردية لجيرمي بنتام . والمنفعة هنا تقاس قياساً كمياً. فلكي نعرف أخلاقية الفعل والسلوك يجب أن نقيس المنفعة واللذة المتأتية عنه وفقاً للمحددات التالي:

1- الدوام : اللذة المستمرة أفضل من المؤقتة.
2- الشدة : اللذة القوية أفضل من الضعيفة.
3- اليقين : اللذة المؤكدة أفضل من غير المؤكدة.
4- القرب : اللذة العاجلة أفضل من الآجلة.
5- الخصوبة : اللذة المثمرة لغيرها أفضل من غير المخصبة.
6- الصفاء : اللذة الخالصة أفضل من المصاحبة بألم.
7- الامتداد : اللذة المتعدية لعدد من الأفراد أفضل من المقتصرة على فرد واحد.

وامتداد اللذة عند بنتام ليس مقصداً بل يأتي بصورة عفوية ـ فالأصل هو منفعة ولذة الفرد ،فالتاجر يبتغي منفعته ولذته ولكنه بطريق غير مباشر وبدون قصد يحقق منفعة ولذة المشتري . فبنتام يشترط في نقاء اللذة إلا تنطوي على تضحية من جانب الشخص للآخرين.

ولكن بنتام وجد أن مقياسه الكمي لا يصلح لقياس جميع اللذات كالقراءة مثلاً ، فنجده وبشكل عجيب يقترح مقياساً معيارياً قيمياً فيقيسها بالمال !!!!! أي يجب أن تحسب مقدار المال الذي ستصرفه على القراءة ومقدار المال الذي ستجنيه من القراءة!!!!

إن انعدام الأساس الأخلاقي لليبرالية الغربية ، ووصلها لدرجة متطرفة من الكبرياء والعلياء ومساواتها بين الفكر البشري والمثل العليا ،فضلاً عن تناقضها الفلسفي البين ، وتركيزها في باكورتها على الفرد المالك وغرقها لاحقاً في الجانب الاقتصادي البحت للإنسان بإبعاد باقي جوانب الكينونة البشرية ، وإيغالها في الفردانية هو سبب كل ما عانته وما تعانيه من إشكاليات وتناقضات لا تبتدئ من تفكك المجتمع وشرعنة احتلال الآخر وسوقه كالأغنام ولا تنتهي بالانهيار الاقتصادي 2008.

إن المتتبع للنتاج الفكري للفكر الليبرالي الغربي يجد أن فكره كان ينبع من أزمة معينة محاولاً تجاوزها ، ملتجئاً في ذلك للتأصيل الفلسفي المتهافت ولو كان خيالياً. وهو عينه نقطة ضعف هذا الفكر . كما أن مفكري وفلاسفة التيار الليبرالي الغربي : إما أن إطلاعهم الفكري على الإنتاج الفكري والفلسفي والثقافي للحضارات والثقافات الأخرى محدود وهو ما يصم أعمالهم بالضعف العلمي ، أو أنهم لا يتسمون بالموضوعية وهو ما يجعل علمية وحيدة إنتاجهم الفكري والفلسفي محل شك كبير.

وما أوردناه من نقد ليس القصد منه الانتصار على هذا الفكر ، بل أننا نرى أن للفكر والفلسفة الليبرالية الكثير من الحسنات ، وهو كأي إنتاج بشري لا يخلو من المثالب ، وبقدر قدرة أي فكر إنساني على التقليل من مثالبه واستناده إلى أسس أخلاقية والنظر للإنسان بجميع جوانبه بقدر ما يقترب إلى الكمال ، والذي لم يتجسد في نظرنا إلا في الإسلام ، رغم قناعتنا بأن فهمنا للإسلام لن يبلغ درجة الكمال والتطابق وإلا وقعنا في ما وقعت فيه الليبرالية بمطابقتها بين الفكر البشري بقصوره وبين المثل العليا.

إن الفكر الليبرالي بحاجة للإسلام لينقذ نفسه من الأزمة والانسداد الذي وصل إليه في الجانب الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحضاراتي.

نحن نرى أنه من الحيف عقد مقارنة بين الفرك الليبرالي والإسلام. ولكننا سنتناول في مقالة قادمة إن شاء الله كيف يستطيع الفكر الاستفادة من الإسلام لإنقاذ نفسه أولاً والمساعدة في التقدم بالجنس البشري خطوات للأمام في هذه الألفية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً