إنها قادمة… فمن يستطيعُ إيقافها؟

إنها قادمة… فمن يستطيعُ إيقافها؟

في يوم من أيام يونيو… استيقظت طرابلس صباحاَ على جو لطيف هادئ لا يُنذر بأية عواصف أو حرارة عاليــة… شيئاً فشيئاً ومع صعود الشمس في السماء، قدِمت معها زوابع رملية وضباب كثيف يشبهُ تلك الزوابع الجافة في قلب الصحراء الكُبرى.

يصبحُ الهواء أصفر اللون ويعلق به الغبار بدرجات متفاوتة، احياناً يكون ذلك على شكل عاصفة ترابية وأحياناً يكون بشكل أقل.

تتراكمُ ذرات الرمال في أعتاب بيوتنا ونوافذنا  وعلى زجاج سياراتنا التي بدأت تتسخُ بسرعة بشكل جماعي كلما هبت زوابع كهذه.. هذا إضافة إلى أضرار أخرى أعمق من هذه السطحية، إنه التصحر، وهو المسؤولُ عن تزايد هبوب هذه العواصف على المدن بشكل غير مسبوق.

خصصت الامم المتحدة يوم السابع عشر من يونيو سنوياً يوماً عالمياً لمكافحة التصحر، وتكون مكافحتُه بالتوعية بأخطاره وماهيّته، ثم مساعدة الأمم على وضع خطط واستراتيجيات  لوقف التصحر في العالم.

في شمال إفريقيا تعدُ ظاهرة التصحر وتدهور الأراضي الزراعية مشكلة مشتركة بين دول المنطقة، وحتى دول جنوب أوروبا بدأت تحذر من وصول التصحر إليها رغم وجود البحر بين القارتين. وتساعد حكومات دول جنوب أوروبا حكومات شمال إفريقيا على إيجاد سياسات وخطط ناجحة للتقليل من معدل تدهور الأراضي والتصحر.

إذ أنّ رمال الصحراء التي تنتقل مع الريح وتصل أوروبا، تكلف الحكومات خسائر مالية كبرى بدءاً بإضرار الغطاء النباتي وتقليل الانتاجية الزراعية، وحتى زيادة معدل الأتربة والغبار بالجو وتغير طبيعة مناخ المنطقة. هذا باستثناء زيادة معدل هجرة دول الصحراء في إفريقيا نحو أوروبا بعد إخفاق حكومات هذه الدول في تنمية المناطق الريفية والزراعية وكساد المشاريع الزراعية وتوفير فرص عمل، إضافة إلى ازدحام المدن على حساب الأرياف.. قد تكون الظروف السياسية لهذه الشعوب هي التي شغلتنا عن الالتفات للتصحر، لكن هذا لا يعني أنه سبب هامشي في صعوبة الحياة هنــا.

قبل عدة أشهر نشرت وكالة علوم الفضاء الأمريكية NASA تقريراً مصوراً أكدت فيه العثور على رمال من الصحراء الكبرى في غابات الامازون. ولنا أن نتخيل حجم المسافة التي سافرتها ذرات الرمال الصفراء فوق المحيط لتستقر هناك.. ولنا كذلك أن نتصور كمية الرمال التي تدخل البيوت وتملأ الجو سنويا ونحن جيران الصحراء.

الصحراء… وجدت قبلنا

لقد وُجدت الصحراء الكبرى في النصف الجنوبي من ليبيا ودول شمال إفريقيا منذ القدم، ولطالما كانت الصحراء الكبرى سمةً جغرافية من طبيعة تضاريس القارة وجغرافيتها، وحتى عندما هاجر العرب من شبه الجزيرة العربية إلى شمال إفريقيا، استقروا حول الواحات وقرب الساحل، حيث مصادر المياه والخضرة، ما يعني أن الصحراء وجدت قبلنا وقبل وجودنا، فكيف اليوم نرفع التحذيرات منها ومن زحفها نحوها وكأنها غريبة علينا؟!

يقول الدكتور بشير نوير الأستاذ الجامعي في جامعة طرابلس المتخصص في استصلاح التربة “إن الصحراء التي يحذر العلماءُ اليوم من تقدمها وظهور طقسها وملامحها في المُدن، هي قطعا ليست الصحراء الكبرى، بل إن المقصود بالتصحر هو تدهور في طبيعة الأراضي وتغير في السمات الطبيعية للتربة والأراضي للمناطق التي خارجَ نطاق الصحراء، بسبب زحف رمال الصحراء شمالا ً إذا لم تجد ما يقاومها ويردعها. وهو ما اصطُلح على تسميته علمياً بتدهور الأراضي “Land Degradation” ويقعُ ضمن نطاق ظاهرة التصحر “Desertification”. والسبب الرئيسي كما يقول د. نوير هو الاستعمال السيء للتربة وغياب التخطيط  في اتباع مبادئ التنمية المستدامة لاستغلال هذه الأراضي.

تاريخ من مقاومة التصحر في ليبيا

على مدى عقُود كان بين ليبيا والصحراء تاريخ من المقاومة والهدنة؛ فقد استطاعت ليبيا أن تقلل من سرعة زحف الرمال نحو الشمال، وأن تقلل من خسائر تدهور الأراضي، وذلك عبر تجربة استصلاح الأراضي المعروفة دولياً  بـ”التجربة الليبية” في مقاومة التصحر والتي اتبعتها فيما بعد دول أخرى كالسعودية وإيران وغيرهما.

في عام 1961 اعتمدت هذه الفكرة في ليبيا، ولم تأت نتائجها في تثبيت التربة وصدّ الرياح الرملية إلا بعد سنوات من العمل والإنفاق والصبر، وقد لجأت السلطات آنذاك لمساعدة من الأمم المتحدة في تنفيذ الفكرة، بعد أن وجدت نفسها عاجزة أمام تدهور الأراضي وتصحر التربة، الذينِ كلفا البلاد خسائر كبيرة.

فِي عام 2012 انهارَ كل ما أنجزتهُ “التجربة الليبية” على مدى عقود في بضعةِ أشهر! لقد تسبب تجريف غابات شرق وغرب طرابلس الذي قامت به مجموعات مسلحة بشكل غوغائي وغير مسؤول في عام 2012، في أعراض سريعة بدأت في الظهور في محيط الغابات وداخل المدن والتأثير على حياة السكان بشكل سريع.

تقول ثريا الصديق مديرة جمعية أكسجين لحماية البيئة – وهي جمعية أهلية تهتم بحماية البيئة – إن كميات الرمال التي بدأت تتكدس على جوانب الطريق الساحلي ووسط الطرق ارتفعت بشكل ملحوظ منذ جرائم اختفاء الغابات.. وتحدثت الجمعية بعد لقاءات مع بعض الأهالي أن معدل الأتربة التي تدخل البيوت والمدارس اصبح ملحوظا أكثر.. وأصبح الناس يرفعون الإنفاقات أثناء البناء والتشييد لمنع دخول الغبار الذي اصبح منتشراً بشكل كبير ويحجب الرؤية ويتكدس في وسط الطرق بشكل غير مسبوق.

وفي تفسير هذه الشكاوى من المواطنين يقول د. نوير أستاذ علم التربة في جامعة طرابلس “إن جريمة اختفاء الغابات حول طرابلس أدت إلى أعراض سلبية في مقدمتها: تسريعُ حدوث التعرية الريحية للتربة، وهذه التعرية هي السبب في  ازدياد العواصف الرملية في طرابلس وما جاورها”.. وأضاف نوير بأنّ  اختفاء الغابات التي كانت تثبّت هذه التربة وازدياد ظاهرة التصحر سيسببُ كذلك في هدر كميات ضخمة من المياه الجوفية على الزراعة بسبب تغير طبيعة التربة، وذلك سيؤدي إلى زيادة ملوحة التربة والمياه.

التصحر والأمن الغذائي في ليبيا 

في مقدمة الخسائر التي يسببها التصحر لنا هي فقد الإنتاج الزراعي الوطني أو انخفاضه بشكل يضطر الحكومات إلى اللجوء للمساعدات الدولية حتى في السلع الأساسية.

نحن نعلم أن ليبيا بلاد تقوم أساساً على قطاع النفط ولا تعتمد في ميزانياتها بشكل كبير على الإنتاج الزراعي . إذ أن  نسبة الأراض الزراعية في ليبيا  لا تتجاوز أربعة في المئة بحسب أرقام منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الفاو. الحديث هنا ليس عن طموح في  إنتاج  زراعي يرفع الدخل القومي أو ينافس إنتاج دول زراعية أخرى، لكن الإنتاج الزراعي لكل بلد هو ضرورة لأجل تحقيق الأمن الغذائي على الأقل فيما يخص الحبوب والأعلاف والمحاصيل الاستراتيجية، كما أنه يوفر تنميةً وفرص عمل لسكان تلك المناطق، بدلاً من تحركهم جماعيا نحو المدن بحثا عن قوتهم وأرزاقهم.

تُثبتُ لنا التجارب والقصص أن هذه الأرض عانت ما يكفي وماتزال من جشع البشر وطمعهم وحتى حروبهم ونزاعاتهم اليوم.. قد يكون الحديث عن أي مقاومة للتصحر والرمال في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها ليبيا ضرباً من الأحلام والتفاؤل.. لكن وما دُمنا عجزنا – على الأقل حتى الآن- عن مقاومة العنف والحرب وتصحر القلوب قد يكون بحثنا عن النماء والحياة في هذه الأرض نقطة بداية لتصالحانا.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 1

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً