المكان مسمى له وجوه عديدة، ولكن في هذا الكم من المعانى للمكان سنتناوله بوصفه الحيّز الذى يقف عليه فرد، مجّموعة، جماعة، جموع من الناس، تتفاعل وتنّفعل به، تتأثر وتؤثر فيه ، فهم يؤسسونه و يُأسسهم معنوياً في الآن نفسه، وان بتفاوت، ونتيجة هذا التفاعل والانفعال ينبثق المكان من متاهات العدم , الى فضاءات التعيّن عَلَم في الوجود ، فيصير بيت فلان ، القرية س ، المدينة ص ، وهكذا ، وبهذا التفاعل بين المكان والجماعة في مسيرتهما بتعاقب الاجيال المتوالية عليه ، ينتج ويتشبّع المكان بجملة من المفاهيم ، هى التى تضبط حركته وتفاعله مع الواقع والمحيط ، فتترسّم بهذا للمكان شخصيته المعنوية .
سنحاول في الاتي أن نقارب مكان ذو وجه مختلف ، فهو حالة ناذره واستثنائية ، ينبثق بها المكان في رحم المعاناة ، فيولد – المكان – مشوها مأزوم ، ويكون بذلك ما سنسميه ( بالمكان المعّضلة ) ، فان تمكن هذا المكان من تخطى معاناته بقدراته الذاتية وبمن فيه ، قد يعاود للمكان توازنه وتختفي تشوهاته ، أما إذا عبرته المعاناة بمفاعيلها على نحو تلقائي بعدما خطّت ابجدياتها عليه ، حينها سيضل – المكان المعضلة – مكبّل بقيد إيحاءاتها يرّسف في أغلال معاناته على نحو ابدى ، يُظهر تشوهاته من وقت لأخر ، عندما يجد المنّفذ والمنّفس الذي من خلاله يمرر تعبيراته عن تأزمه ، وغالبا ما تطفح في سلوك صادم وعنيف ، يسّتفز محيطه ، و يسّتشّعره كل مراقب قريب أو بعيد، فأحياء السود داخل المدن الأمريكية ، كما تحاول عدسات هوليود تُظهرها أمام مشاهديها في اشرطتها السينمائية ، بأنها احياء ذات حياه بإيقاع مختلف ومتخلّف، يتخلله الكثير من التشوهات من ترويج وتعاطي للمخدرات الى القتل والسرقة ، يغلف تفاعلها المشوه هذا عنف بلون قاني ، كل هذا يحدث داخل أزقتها القذرة ، ولكن , ليس كما تحاول أن تقوله شاشات هوليود ، لأنها أحياء بسحّنة داكنة ذات أنف أفطس ، بل لأنها – في تقديري – نتاج وامتداد طبيعي لمكان انبثق في رحم معاناة عبودية الرق بكل مساويها ، وبرغم ما طالها من محاولات جادة وجوهرية على يد اصلاحيين من امثال (مارتن لوتر) ومن جاء بعده وقبله ، لإعادة تأهيلها ، كى تتخلص مما خطّته يد رواسب الماضي في داخل أعماقها السحيقة ، بحروف وابجدية سفن العبيد القادمة من شواطئ الأطلسي الإفريقية ، لتعّبره وتفّرغهم على شواطئه الأمريكية ، مؤسسة بذلك ما اسميناه بالمكان المعّضلة ، فيشّرع هذا المكان المعّضلة وبمفاعيله الذاتية ، في مأسسة محتواه من السود , بمفرداته المشبّعة بالكثير من المضامين السلبية ، ليجعل من به عبيد ، ويضعهم على درجة واحده مع البهائم.
وبالعودة إلى شواطئ الأطلسي الإفريقية ، حيت المراكز النشطة لتصدير تلك البضاعة الملونة في الماضي ، وبتتبع تاريخها البائس ، نجد كل شواطئ القارة السوداء ، كانت تضم مراكز تصدير شبيهة ، وان كان شاطئها الشمالي اقل نشاطا على الإطلاق ، ربما لسببين اثنين ، أولاهما نُرّجعه إلى الثقافة السائدة على امتداد الضفة الجنوبية للمتوسط المناهضة لتجارة الرق والعبودية ، والداعية للتحرّر منها ، متكئة في ذلك على أديباتها المقدّسة بدأ من ( فك رقية أو اطَعام في يوم ذي مسّغبة ) وليس انتهائنا مع التساؤل الإنساني التي جاء على لسان عمر : – متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ! ، وثانى الأسباب يرجع إلى بُعد المسافة والشُقة بين مصادر هذه البضاعة الملونة ومراكز تصديرها ، فعبور المسافة ما بين جنوب الصحراء و البحر شمالا ، تتخللها مشاق كثيرة ، تكون نتائجها بالغة الخسارة على أصحاب هذه التجارة ، التي يساق فيها العبيد في قطعان مشيا على الأقدام ، لا يصل منهم إلى نهاية الرحلة إلا القليل ، وحتى هذا القليل تجرّده طول الرحلة ومشاقها من كل مواصفات البضاعة الجيدة ، فيظهر منهك هزيل ضعيف لا يقوى على حمل نفسه إلا بمشقة ، مما يدفع بعض التجار على التخلص من بضاعتهم بالتخلي عنها لحال سبيلها ، ومن هذا الكم المهمل المنهك الهزيل الملون ذو الأنف الأفطس يتأسس – المكان المعضلة – على أنقاض سوق النخاسة ، ليكون وعائه المكاني والمُغذى له في ألان نفسه بكل ما يحمل هذا السوق من إيحاءات و مضامين صاغتها مفرداته البائسة ، ليتشكل منها وجدان هذا الكم المهمل الملون البائس ، فتاورغاء المكان تأسس على نفس المنوال مند عقود بعيدة ، ربما ترجع إلى ما قبل العهد التركي ، غير إن تاورغاء المكان تمكن من التعايش مع تأزمه بيسر كبير ، نُرجع ذلك إلى محيطه القريب الذي لا يقر تجارة الرق ، ويرى بأن الأصل في الإنسان أن يولد حرا ويعيش كذلك.
وبقدوم سبعينات القرن الماضي ، وتحكّمه بمقاليد الوطن (ليبيا) ، دهب هذا في اتجاه واعتماد واثارة وتغّدية التناقضات الاجتماعية بين ابناء الوطن الواحد (ليبيا) ، وجعلها أرضية اساسية لإدارة وسياسة البلاد ، فشَرع من جانبه في جسْ مَوَاطن هذا المخزون المدمّر ، وكانت تاورغاء المكان ، احد اهتماماته لأسباب عديدة ، وبما يملك من حس استثنائي ، تمكّن من التسرب والتغلغل إلى الأعماق النفسية البعيدة لتاورغاء المكان ، واستتار ونشّط مخزونه الكامن في الأعماق ، الذي تخلّق وتشكل مع ولادة المكان ، ودفعه وجعله يطفو على السطح في خطوة أولى لكبّسلته وإعداده للتفجر متى أراد له ذلك ، ومع انتفاض الوطن مع نهايات شتاء 2011 م ، واندفاعه نحو دروب الحرية والمواطنة ، دًفع تاورغاء المكان والمُعدّ سلفا للتفجر , في طريق واحده من أهم جبهات الثورة الوطنية الليبية ، فانفجر وتشظّى تاورغاء المكان محدثا دمار هائل بذاته ، وألحق ضرر معنوي ومادي بمحيطه .
قد لا نختلف بأن معالجة هذه النتائج وما ألحقته من أضرار معنوية ومادية ، تثم بالملاحقة القانونية لمرّتكبيها ، ولكن – وفى تقديري – الخطوة التالية والاهم تكون في تناول ومعالجة الأسباب التي ظهرت أعراضها فى سلوك مشوه صادم ، شبه جماعي ، مُسفّها لكل الاعتبارات الإنسانية والدينية والوطنية ، و في تقديري ايضا ، بان هذه المعالجة يجب الا تتجاهل بل تتكئ على ظروف وملابسات نشأت تاورغاء المكان ، التي تشٌده بقيود وأغلال ماضي بعيد ، تظهر مفرداته وعلى نحو يومي لساكنيه ذوى المسّحة الداكنة , في كل ملمح وعلامة ورمز يطل به حاضر المكان ، ليرّتكس بمن فيه في أعماق معاناة تمكّنت من برّمجته بمن فيه وبما يضم , في أباءهم الأولين ، ولا يستطيع حاضرهم الفكاك منها ، ليس هذا وحسب ، بل إن هذه البرّمجة ستضل تتحكم في كل ما يضم المكان في أفعاله وانفعالاته الظاهرة والباطنة في الحاضر والمستقبل ، أن لم يثم تفكيكها ، ففك القيود والأغلال التي تشد تاورغاء ا لمكان وتحريره من رقّبة المكان المُعّضلة ، هي الخطوة الأساسية لإعادة تأهيلها ودمّجه بالوطن على نحو ايجابي ، وقد قامت انتفاضة شتاء 2011 م ،بالخطوة الاساسية في هذا الاتجاه عندما خلقة التداعيات المناسبة ، التى دفعت في اتجاه تشظّى تاورغاء المكان متحررا من اغلال وقيد المكان المعّضلة , متناثرا ومنتشرا على كامل امتداد رقعة الوطن ، وما تبقى من المعالجة – في تقديرى – لا يعدو عن ملاحقة هذا الشتات المُحرّر , حيت وجد ومساعدته بتوّطينه وفى اى مكان حَلّ به داخل الوطن ، ومع الزمن سيعاود هذا التشظي توازنه ويشفى من تشوهاته.
أما الدعوة إلى إعادة إنتاج تاورغاء المكان من جديد ، هو – في تقديري – خطوة يجانبها الصواب ، لأنها ببساطة شديدة , إعادة تكبيل وشدْ تاورغاء المكان إلى قيود وأغلال ما اسميّناه بالمكان المُعضلة ، والذي , وان حدث ذلك سيضل يُغديه بكل ما قد يضرّه و يدمره ، وقد يأتي في لحّظة ما , من يستغل كل هذا الاحتقان في كيان تاورغاء المكان ، ليوظفه لغير صالح ما يضمه تاورغاء المكان ولغير صالح الوطن المأمول ، كما حدث له مع ماضيه القريب ، فألحق به أذى كبير , وشوه صورته , أمام الوطن وأهله والمحيط الإقليمي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً