انتفاضة فبراير تُراجع مسيرتها ولا تتراجع

انتفاضة فبراير تُراجع مسيرتها ولا تتراجع

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

صحيح أن انتفاضة فبراير لم تكن ثورة مخطط لها ولم يحظى الشعب الليبي بأدبيات ليتشربها ويتتبع خطواتها المخطط لها، إلآ أن تشبع معظم الشعب الليبي بالخوف والكراهية لنظام “الكتاب الأخضر” وخاصة خلال العقود الثلاثة الأولى، باستثناء فئة قليلة من الإنتهازيين، بعد ذلك وقع الجميع بين مد وجزر الحرس القديم “اللجان الثورية” وبين مساندي مشروع ليبيا الغد “الوجه الأخر للجماهيرية” وبنسخة جديدة بإكسسوارات حقوقية، صحيح التحديات التي واجهتها انتفاضة فبراير جمة إلا أنه تظل حركتها مستمرة ولو أنها بطيئة ومتعثرة. تستعرض هذه المقالة مراجعة لأبرز التحديات التي تواجهها إنتفاضة فبراير.

التحديات الداخلية.. الرياح لا تكسر إلا الأغصان الضعيفة:

نعم من السهل أن نعلق ضعفنا وعدم نجاحنا على مشجب الأخر وعلى الرياح الخارجية التي لم تهد من بعد انتصار الحلف الأطلسي في الجولة الثانية للحرب العالمية، والتي هي بالتأكيد كانت وتظل عاتية بعد الإنتفاضة، أو الثورة، حيث عاشت ليبيا مرحلة اللادولة. أتجه انصار الانتفاضة بما يحملونه من خوف وكراهية دفينة صنعتها مقولات الكتاب الأخضر: البيت لساكنة، السيارة لمن يقودها، شركاء لا أجراء، التجارة ظاهرة استغلالية، الأرض ليست ملكاً لأحد! وحملوا السلاح ضد مؤيدي القذافي ومناصريه وأنتصروا. تلك المقولات التي صنعت الخوف من دكتاتورية الجماهيرية والكراهية لمن كانوا سبباً في سلبهم بيوتهم، وسياراتهم، وتجارتهم، ومصانعهم، وأراضيهم. آثار الخوف والكراهية كانت سبباً في كسر أهم دعامتين، بعد أن حول الاقتصاد الشعب إلى متسول والسياسة إلى قطيع بتوجيهات القائد، في عمق بنية الشعب الليبي، وهما:

  • البنية الأخلاقية
  • البنية الاجتماعية

البنية الأخلاقية: في ظل فوضى الجماهيرية ضاع صمام الأمان الضابط للشعب الليبي “عيب” “حرام” وبانفلات الصمام الضابط لسلوكيات الناس  في ليبيا تحول الغالبية إلى قطيع لا يحكمه أي قانون ولو كان قانون الغابة. بترسيخ الفكر الكتاب الأخضر ضاعت الملكية الخاصة، والحقوق، والكرامة بل وحتى مصطلح الخبرة والتراتبية المدنية والعسكرية، والفضل يرجع للتصعيد الشعبي واللجان الثورية التي أقتحمت جميع النظم الإدارية وحتى العسكرية. هذه التركة المنفلتة لم تأخذ في الإعتبار بعد انتفاضة فبراير ولم يلتفت إليها بل إنسحاب الكثير من أحرار فبراير من ساحة الصراع، وانسجام البعض، على السلطة والمال والسلاح ساعد على استمرار الانفلات المجنون. لم يصرف الوقت الكافي لإعادة تأهيل البنية الأخلاقية للشعب الليبي المغيبة بأدبيات الجماهيرية “الغوغائية”.

بالطبع هذه الخلخلة في البنية الأخلاقية دفعت بالإنتفاضة، وبشكل غير إرادي أو بالأحرى بردة الفعل، إلى انتهاكات أخلاقية في حق الطرف الآخر الرافض لإنتفاضة فبراير. لم تكن هناك أي تنبيهات بالخصوص وربما يرجع ذلك إلى الإنشغال بمقاومة المناهضين لفبراير وضمان الانتصار على انصار دكتاتورية الجماهيرية.

البنية الاجتماعية: تطبيق مقولات الكتاب الأخضر عملت على تمزيق النسيج الاجتماعي وخاصة بعد تشريع التعدي على أرزاق الناس وممتلكاتهم، وكان الاغتيال الحقيقي للبنية الاجتماعية بعد مسلسل التصفية الجسدية لكل من له رأي يختلف عن مقولات القائد الملهم معمر المدمر للروابط الاجتماعية والصانع للروابط بنكهة اللجان الثورية. تشريعات الكتاب الأخضر لم تترك مكان إنساني وأخلاقي للتركيبة الاجتماعية في ليبيا، وخاصة في المدن، إلا ومزقت جميع أواصره بعد إدخال سوس اللجان الثورية ضمن النسيج الاجتماعي الذي انتهك حرمات الأسرة الليبية المحافظة.

التأثيرات الخارجية.. ورياح التكسير

قبل فبراير 2011 لم يكن تعامل حركة المعارضة الليبية بندية مع المجتمع الدولي، وليس من المبالغة لو قلنا بأنه كان استغلال لليد العليا للأجنبي. ضعف المعارضة وُظِف لخدمة أغراض ليست بالضرورة في صالح الشعب الليبي بقدر ما هو خدمة للصراع الدولي ومصالح دول خارجية. مع كل عيوب الدكتاتور معمر القذافي إلا أنه كان يمتلك الكلمة الفصل في ليبيا وهذا ما رغب المجتمع الدولي في استمرارية التعامل معه، وقد رأينا محاولة تمكين حفتر وأخرها في أبريل 2019م لإمتلاكه نفس النزعة الدكتاتورية التسلطية، إلا أن خروج القذافي على خط مصالح بعض الدول واستلطاف التدخل الصيني الناعم لأفريقيا بالبناء والقروض التنموية، والتفكير في صك عملة الدينار الأفريقي، وسحب بساط النفط من فرنسا بعد فرشه لها، أقنع الحلف الأطلسي بدعم الإنتفاضة.

الظروف بعد فبراير 2011م مكنة لجميع استخبارات العالم استباحة الأرض الليبية واقتحام برياحها العاتية ما تبقى من دواليب اللادولة الإدارية والتغلغل في المجتمع المدني، نتيجة غياب الوعي والثقة العمياء، من خلال جمعيات الإغاثة والمؤسسات الإعلامية، وحتى الدعم الحربي للإطاحة بالقوة العسكرية للقذافي، بل وتدمير بنية الدفاع الجوي بليبيا. وبعد أن نسجت الكثير من الاستخبارات الأجنبية خيوط التواصل مع أفراد ومؤسسات داخل الوطن، بعضها بصبغة عسكرية تحركت لخدمة مصالح دولها، وأكتفت بالنظر إلى ليبيا كغنيمة مع تجاهل كامل لمن يعيش على أرضها من بشر.

الصراع الدولي على أرض ليبيا تفاقم بعد أن وطأة قدم روسيا أرض ليبيا،وإشعال حرب الغاز والنفط في أوكرانيا، وطرد فرنسا من مالي والنيجر وبوركينافاسو وأفريقيا الوسطى، إضافة إلى الهاجس الأمريكي من التنين الصيني بأفريقيا. كما وأن دخول تركيا على الخط الدولي البعيدة في 2011م والقريبة بعد 2019م، ومُناورات أردوغان، بعد الاتفاقية البحرية والأمنية أذكى الصراع وعقد من الموقف الدولي مما زاد تمسك المجتمع الدولي المسيحي (كاثوليكي، بروتستانتي، وأرثوذكسي)، لخدمة مصالحه ووقف تمدد التنين الصيني، بشخصية خليفة حفتر البديل والوجه الأخر لمعمر القذافي والذي كان واضحاً بعد الهجوم على طرابلس في أبريل 2019م.

مهمة سيطرة الحكومة اليوم والاستقرار صعبة جداً وليبيا تمثل رقم مهم في المعادلة الجيوسياسية للبحر المتوسط وشمال أفريقيا بعمقها، ويمتد إلى الشرق الأوسط وبؤرة التوتر (إسرائيل).  فالمناورة السياسية التي تتطلبها الحكومة اليوم هي الحرص على إبراز تماسك الشعب الليبي بأصله وأخلاقه، وبنيته الاجتماعية بالشرق مع الغرب والجنوب، ليكون موقفها التفاوضي مع مصالح المجتمع الدولي أفضل بكثير لو أن هناك تصدع في البنية الاجتماعية وضعف في البنية الأخلاقية.

تحديات اليوم لحكومة الوحدة الوطنية يمكن تلخيصها وبالترتيب في الآتي:

1- وقف نزيف الاستنزاف لخزينة ليبيا الذي انتشر بالأنانية المقيتة، وبغياب الأخلاق، وإحترام قانون الله “الحرام” وقانون المجتمع “عيب”.

2- تحويل مشروع المصالحة من كلمات جوفاء لدغدغة العواطف، والاستهلاك السياسي إلى برامج عمل تكشف حقيقة الانتهاكات الجسيمة في حق الشعب الليبي، وإيجاد وسائل لجبر الضرر وتصحيح المؤسسات العدلية باحترام القانون، بعد استبعاد القوانين الظلمة، وابتداع قوانين لمرحلة العدالة الانتقالية.

3- صد الخطر الخارجي ومحاولاته المستمرة لتمكين مشروع الدكتاتورية واضح المعالم والقادم من الشرق الليبي بقيادة خليفة حفتر.

خاتمة:

يتراىء لنا اليوم بأنه، وبعد انتفاضة فبراير، استخدام نفس أدوات سيطرة دكتاتورية الجماهيرية بصناعة الخوف والكراهية لن يرتقي بالبنية الاخلاقية، ولن يقوي النسيج الإجتماعي،  فعلينا، سلطة ومجتمع مدني، استدعاء مصطلح العيب والحرام في حياتنا العملية والخاصة  ليكون الصمام الأخلاقي والناظم للنسيج الاجتماعي لبنية الشعب الليبي. وتظل منابر المساجد، بعيداً عن التطرف الوهابي، والإعلام العامل المساعد الأكبر في إرجاع عربة البنية الاجتماعية للشعب الليبي على سكة الأخلاق الحميدة.

لتعلم سلطة اليوم بأن قوة موقفها التفاوضي مع المجتمع الدولي يتطلب عنصرين مهمين:

  • قوة البنية الأخلاقية والإجتماعية للشعب الليبي
  • الموازنة بين مصلحة الشعب الليبي أولاً ومصالح باقي القوى الدولية وبدون السماح لعودة الدكتاتورية العسكرية

جمر فبراير يغطية إنتشار هباء الفساد المالي إلا أن أي محاولة لعودة الدكتاتورية العسكرية سيؤججها من جديد وستقذف فبراير بحممها على كل من يفكر في العودة للدكتاتورية العسكرية ولو كانت العودة ببدلة مدنية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

اترك تعليقاً