استقلال ليبيا لن ينفصل عن استقلال أفريقيا؟

استقلال ليبيا لن ينفصل عن استقلال أفريقيا؟

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

يحتفل معظم الشعب الليبي اليوم 24 ديسمبر 2023م بالعيد الواحد والسبعين (71) لاستقلال ليبيا وخاصة من عاش وهو مدركاً، أي في مرحلة التعقل، ملامح التحضر التي بدأت تظهر على أرض ليبيا وخاصة بعد ظهور البترول في 1961م، يحتفل بعيد الاستقلال من رأى بأم عينه اقتحام أحد بيوتهم بحجة البيت لساكنه أو سُلِبت إحدى سيارات والده بحجة أن السيارة لمن يقودها، أو تحول صاحب مصنع أو شركه إلى أجير يتلقى مرتب من دولة الجماهيرية، أو من سرقت له أرض  واسعة بحجة الأرض ليست ملكاً لأحد، كل من تأذى من هذه المقولات “الجماهيرية العطمى!”، يحتفل بعيد الاستقلال كل من يريد الخير والسلام والاستقرار لليبيا، ولضمان استمرارية استقلال ليبيا علينا أن نراجع في ذكرى الاستقلال تاريخ هذا الاستقلال وتاريخ نشأت ليبيا الحديثة؟

إعادة نشأت ليبيا:

أطلق الإغريق على كل ما هو غرب نهر النيل بمصر أسم ليبيا إلا أن ليبيا الحديثة اليوم انكمشت وتقلصت إلى حدودها الإدارية السياسية التي صنعها سايكس وبيكو.

الكاتب على يقين بأن تدخل النيتو في فبراير 2011م، جاء ضمن المخطط لتقسيم أفريقيا الذي بدأ في 1884، واليوم نرى تعميق التقسيم بإشعال الحروب في مالي، والسودان، أو تمدد الصراع ليشمل روسيا والصين وتمددهم في القارة، لم يكن مجيء النيتو لخدمة الشعب الليبي ولكن كانت إجراءات لإنهاء صلاحية الدكتاتور معمر القذافي، وذلك للأسباب التالية:

  • وصل الغضب الشعبي الليبي لدرجة الانفجار ورأت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا الاستفادة من هذا الغضب وتوجيهه لخدمة مصالحها.
  • خروج القذافي عن النصوص التي عليه قراءتها في السياسة وخاصة بشأن أفريقيا.
  • زد على ذلك حقد فرنسا “توتال” بعد سلبها حصة الغاز ومنحها إلى إيطاليا “إني”.
  • عملية استباقية للتموضع على جغرافية ليبيا لأهميتها الجيوسياسية وخاصة بعد تصريحات القذافي والإشادة بالقوة الناعمة التي تدخل بها الصين في أفريقيا بالبناء والعمران والتنمية.

بسطة تاريخية لنشأت ليبيا:

شمل اسم ليبيا تاريخياً رقعة كبيرة من شمال أفريقيا وترجع التسمية لقبائل الليبو الأمازيغية، بل أن التسمية شملت الرقعة الجغرافية بأفريقيا كلها حسب توقعات الأغريق.

تمتد مطامح الدول الأوربية في أفريقيا إلى الماضي البعيد الذي سبقنا بعدة قرون، فكانت محاولات الإغريق والرومان في الاستيطان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وإنشاء مدن تخدم حركة سفنهم التجارية، إلا أن هجوم البرتغال على سبتة  المغربية واحتلالها في عام 1415 كانت خطوة بمثابة المبادرة لفتح باب أفريقيا على مصرعيه للمطامع الأوروبية، ثم كان بعد ذلك مؤتمر برلين المنعقد في 1884، والذي استغرقت مداولاته 100 يوما لالتهام أفريقيا التي تساوي مساحتها عشرة أضعاف أوروبا، وبمشاركة الدول: إيطاليا، ألمانيا، أسبانيا، الدنمارك، السويد، البرتغال، روسيا، صربيا، المجر، رومانيا، الجبل الأسود، هولندا، أنجلترا، النمسا، النرويج، بلجيكا، وحضور أمريكا كمراقب والدولة العثمانية كشاهد “ما شفشي حاجة!”، والذي أعلنوا فيه بأن أفريقيا أرض لهم ومواد خامها مطلوبة لتشغيل مصانعهم وبشرها عمالة رخيصة لتحريك تنمية بلدانهم وإعمارها، والرقي بنهضتهم وفي نفس الوقت سيتم ترجيع منتجاتهم معلبة لهم وستكون سوق تجارية لأوروبا، مع استثناء دولة الحبشة الوحيدة لأنها نصرانية، وقد سبق المؤتمر فرش أرضية ملغمة ومفخخة بالخبث الأوربي تم بالإعلان عن المنظمة الإفريقية العالمية والمتسترة بعباءة الخدمة الإنسانية، والمستمرة إلى اليوم باسم حقوق الإنسان والإعانات والإغاثة الدولية، من بعد هذا المؤتمر أصبحت أفريقيا أرض مستباحة وتم تقسيمها بين الدول الأوروبية، تجنباً لأي حروب بينها، وأطلقت صفارة الهجوم فكانت إيطاليا الفاشية قد وصلت إلى ليبيا في عام 1911م.

من أسباب بدء الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو 1914، حادثة اغتيال ولي عهد النمسا السيد فرانز فرديناند من قبل صربي عام 28 يونيو 1914م مما أزم منطقة البلقان بعد طرد الدولة العثمانية وسيطرت النمسا عليها في عام 1908م، وانضمام المجر لها، والسباق الأمبرايالي للسيطرة على المال والصناعة والسوق، ناصرت روسيا صربيا ومنها كان تدخل ألمانيا وإعلان الحرب على روسيا في 1 أغسطس 1914م، فحاكم ألبانيا كان من ألمانيا، وانضمت إليها الدولة العثمانية، ولوقف التمدد الألماني في أوروبا تدخلت بريطانيا، في 10 و11 أغسطس 1914م أعلنت فرنسا وبريطانيا ومعهما صربيا والجبل الأسود وبلجيكا الحرب على النمسا.

في 10 مارس 1916م حرضت بريطانيا الشريف حسين على الثورة “العربية الكبرى” ضد الدولة العثمانية، وفي 6 أبريل 1917م انضمت أمريكا للحرب مع دول الحلفاء “الوفاق” بعد إغراق ألمانيا لسفن تجارية أمريكية بهدف تجويع الشعب البريطاني، إلا أنه في أكتوبر 1917 نجحت الثورة البلشفية مما أدى إلى خروج روسيا من الحرب وساعد ذلك ألمانيا في انسحاب جنودها من جبهات روسيا والاستعانة بهم في حربها ضد الإنجليز فكانت الفرصة مواتية لتحطيم الجيش البريطاني الخامس في مارس 1918.

وبعد انضمام قوات المارين الأمريكية قلب الكلفة لصالح الحلفاء ووقعت ألمانيا على وقف إطلاق النار في 11 نوفمبر 1918.

قُدِرت حصيلة الموت البشري بحوالي  22 مليون منهم 13 مليون مدني، وجرح 20 مليون إنسان وأسر 29 مليون إنسان.

في 28 يونيو 1919 وقعت ألمانيا معاهد صلح وقسم جزء من أرضها ليضم للدول المجاورة وتم تحميلها مسؤولية الأضرار التي نتجت عن الحرب، وانتهت الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر 1918م، وفي سنة 1923م وقعت الدولة العثمانية معاهدة “لوزان” بحيث صارت حدود تركيا ضمن إسطنبول وجزء من الأناضول.

خلال الحرب العالمية الأولى استولت إيطاليا على ليبيا ومع استمرار المقاومة ضد إيطاليا استمرت على الأرض الليبية من 1911 إلى 1944م، وعدت بريطانيا العرب بدولة كبرى تمتد إلى حدود الشام مقابل محاربة الدولة العثمانية، واستعانة بتطرف الوهابية وبتأجيج عنصرية القومية العربية، إلا أنها خدعتهم بحيث دخلت في مفاوضات سرية مع فرنسا بمصادقة روسيا وإيطاليا لتقسيم تركة الدولة العثمانية بالمنطقة العربية، فكانت اتفاقية سايكس وبيكو في المقابل لتحصل روسيا على أرمينيا الغربية والقسطنطينية والمضائق التركية ووافقت إيطاليا حتى يكون لها جنوب الأناضول، إلا أن حرب الاستقلال التركية 1919-1923م غيرت في المخطط المتفق عليه مع إيطاليا.

استأنفت الحرب العالمية الثانية في 1 سبتمبر (التاريخ الأسود في ليبيا) 1939 بأوروبا لتنتهي بموت حسب التقديرات من 50 إلى 85 مليون إنسان معظمهم مدنيين وقد ساهم في الموت الجماعي الآلات الحربية المتطورة من طيران وقنابل (ذرية).

بعد هزيمة المحور ومعهم إيطاليا استمرت سيادة إيطاليا على ليبيا إلى أن وقعت في باريس بتاريخ 10 فبراير 1947 على معاهدة سلام بينها وبين دول الحلفاء المنتصرين في الحرب وتحول التصرف في مستعمراتها ومن بينها ليبيا إلى الدول الأربعة المنتصرة.

جاءت المحاولة الأخيرة من بريطانيا من الباب الخلفي في 10 مارس 1949م حيث رتب وزير خارجيتها السيد إرنست بيفن مع وزير خاريجة فرنسا السيد كارلو سفورزا ومعهما إيطاليا مشروع  يُمكنهم من الوصاية على ليبيا ولمدة عشر سنوات وقدم للتصويت للأمم المتحدة في 17 مايو 1949، إلا أنه وبعد التصويت الذي أفشله انحياز هايتي لليبيا فكان إعلان الأمم المتحدة عن استقلال ليبيا في 21 نوفمبر 1949م، وفي 7 أكتوبر 1951م عقدت الجمعية الوطنية الليبية اجتماعها ببنغازي وتم إقرار الدستور الليبي.

في 24 ديسمبر 1951م كان إعلان الملك إدريس عن ميلاد المملكة الليبية المتحدة، وما نص الدستور الليبي وتحديداً بالمادة (11) إلا دعوة للمساواة التامة في الحقوق المدنية والسياسية، وتكافؤ الفرص، في المهام والواجبات “دون تمييز في الدين أو المعتقد أو العرق أو اللغة أو الثروة أو النسب أو الآراء السياسية أو الاجتماعية” لكنها لم تلقى فرصة التطبيق على الأرض فقد أجهز عليها انقلاب سبتمبر الأسود في 1969م.

إيطاليا خرجت من الباب ودخلت من الشباك!

في 24 ديسمبر 2011م كان أول خطاب بمناسبة ذكرى التحرير لرئيس الحكومة الليبية د. عبد الرحيم الكيب حيث ذكر بأن الحكومة تسعى لإنهاء المظاهر المسلحة وبوجود خطة لاستيعاب الثوار في الجيش والشرطة واستثمار جهودهم في الحفاظ على ثورة 17 فبراير وبناء الدولة، إلا أن المجتمع الدولي في ليبيا اتفق على استمرار المجموعات المسلحة، لاستخدامهم في بسط نفوذه على مصادر النفط، بعد التحرر من دكتاتورية العسكر والذي كلف الشعب الليبي حرب أهلية في 2014 و2019م، مع تجدد الاشتباكات من حين لآخر، خسرت فيها ليبيا شبابها ومالها وممتلكاتها على أرضها، ولدواعي لا ندركها تم تقليصها، ولكنه لم يكتمل مشوار تقليصها حسب رغبة حكومة الكيب رحمه الله.

ونحن اليوم نحتفل باستقلالنا من قبضة إيطاليا على مقدراتنا بالقوة إلا أنها مازالت تصل إليها بالسياسة، وهذا ليس بمشكلة ولكن تظل الأسئلة المطروحة مبعث للتساؤل الدائم: ما الذي يجنيه الشعب من ضخ الغاز والنفط لإيطاليا؟ وهل يساهم ذلك في التنمية؟ والسؤال الأصعب هل مازال مسلسل التقسيم باستخدام تهديدات سكاكين القبلية، وقطع الماء والنفط، وحروب الكراهية لاختلافاتنا العرقية، والمذهبية: سواءٌ كانت سياسية، أو دينية، أو فكرية يعطي فرصة للمتدخل الأجنبي في التفاوض على تقسيم ليبيا لتحقيق مصالحه؟ وهل ما يُمَكن لإيطاليا اليوم من بسط نفوذها الناعم في ليبيا يتم فيه توظيف اختلافنا العرقي والمذهبي؟ فتأمين مصادر الغاز والنفط لبعض الدول الغربية في المنطقة الغربية يوظف فيها الاختلاف العرقي، عرب أمازيغ، كما هو الحال في الجنوب: عرب، وطوارق (أمازيغ الصحراء)، والتبو، كما وأن النفوذ الروسي مع مصالح جزئية أمريكية يوظف الاختلاف السياسي بشكل أبشع وصل أن تحالفت فيه سبعة دول غربية وعربية على حكومة الوفاق الوطني في 4 أبريل 2019م ووظفت القبيلة بشكل مقرف نتج عنه بعث زرافات من خيرة شباب ليبيا للموت على أسوار طرابلس، ليبيا تخسر شبابها في معادلة لا تخدم حقيقاً إلا الأجنبي وظاهرياً العميل لهذا الأجنبي المتغلغل في الوطن.

مازالت ليبيا تطمح إلى الاستقلال:

الكاتب لا يرفض الشراكة الندية مع إيطاليا أو أمريكا أو روسيا ولكن للأسف العقلية الاستعمارية توشوش، من حين لآخر، وعن بعد لخلق توترات أحيانا بنزعة عرقية أو قبلية وهذا مقلق ومزعج لاستقرار ليبيا، فمعظم الشعب الليبي يرحب بالشراكة والربح للجميع ولكن يرفض تدخل الأجنبي وخاصة عندما تكون النتيجة جر ليبيا للحرب فهذا أمر لا يخدم ليبيا بل يكلفها الكثير، فقبل أن تتوحد مؤسسات الدولة مدنية وعسكرية فليبيا ليست مستقلة، وقبل أن تتخلص ليبيا من فكرة عسكرة الدولة فهي ليست مستقلة، وقبل أن تتحقق مصالحة وطنية حقيقية فليبيا مازالت محتلة، وقبل أن تشرعن اتفاقيات التعاون وتبادل المصالح مع جميع الدول الأجنبية في ليبيا فهي بدون سيادة.. ندعو الله، ونحن نخلد ذكرى الاستقلال، أن يتحقق الاستقلال الحقيقي ببسط سلطة الدولة المدنية على كامل التراب الليبي، وتتوحد مؤسسات الدولة، وتتحقق المصالح الوطنية بين الحكومة والشعب الليبي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أ.د. فتحي أبوزخار

باحث بمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

اترك تعليقاً