الفساد والفساد المقنن

الفساد والفساد المقنن

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

في شهر فبراير الماضي أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي لسنة 2017م، وكالعادة جأت الكثير من الدول العربية والإسلامية على رأس هذه القائمة السيئة السمعة، ليبيا بترتيبرها التاسع قبل الأخير تسابق كل الصومال والعراق والسودان واليمن وسوريا على التراتيب الأولى إضافة إلى أفغانستان وتركمنستان وهي على ذلك لسنوات دون تحسن يذكر، أما الدول البوذية والكنفوشيوسية ومن لا دين لهم واليهودية والمسيحية (الكافرة على رأي مذهب أهل السلف) فكانت أكثر شفافية لتعاملاتها وأقل فساداُ في أموال شعوبها ولم يدخل حضيض هذه الحلبة سوى فنزويلا وأنجولا.

على المستوى المحلي نُشرت تقارير كثيرة ما توصلت إليه هيئة الرقابة الإدارية من فساد مالي كبير ينخر في عظام الأمة، منها تورط كل من المصرف العربي الخارجي ومصرف الجمهورية في فتح خطابات ضمان لشركات همها الحصول على مبالغ من العملة الأجنبية، بل أن ما تم إستيراده لا يتجاوز أربعة عشرة في المئة من خطابات الضمان التي تم تحويلها، ولقد تابعنا ذلك عند إستيراد مئات من الحاويات الفارغة إلى ميناء طبرق وبنغازي وبعض المواني الأخرى، بل أن هناك من يتبجح ويقول أن أولئك مغفلون لأنهم إستورد الطوب والمياه، أما نحن فلنا ناقة الله وسقياها (لا حاويات فارغة ولا مملؤة).

الفساد مثل ألعاب الورق لا يتم بطرف واحد، فهو يحتاج إلى مستفيد من القطاع الخاص يدفع رشاوي ويربح أضعاف مما قدم، وموظف غير نزيه وغير مؤتمن يقوم بإهدار أموال الدولة مقابل رشوة، ولذلك فإن التعامل بين أفراد القطاع الخاص لن يؤدي إلى فساد مالي أو إداري لأن الكل حريص على عمله. ومما يساعد على الفساد مقارنة بالدول المتقدمة أن كل المؤسسات  في ليبيا في يد الدولة؛ مثل الكهرباء والماء والغاز والوقود والنظافة والمواصلات وتوريد السلع وحتى المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية التي ليس لها جدوى بيد الدولة، مما يجعل الدولة  عبارة عن مؤسسة ضمان إجتماعي كبير يوفر المعاشات الشهرية  المتدنية لعدد يقارب المليونين موظف دون مسألة عن إنتاج أوخدمة مجدية، وهذا هو العامل الرئيسى في إنتشار الفساد.

وفي هذا الإطار على المدى الطويل يجب تأميم جزء كبير من القطاع الحكومي والتخلص من التوظيف العشوائي والبطالة المقنعة والرشوة والمتاجرة بممتلكات الدولة وهو السبيل للتخلص من الفساد، فلو كان توريد الوقود وتوزيعه من القطاع الخاص بربح محدد أو منافس لما تم إهدار أكثر من 5 مليار دولار سنويا في الوقود لتنتفع به دول الجوار وحفنة من المهربين.

مشكلة الفساد أمران أساسيان: الأول أن أموال الدولة المخصصة لتنمية التعليم والصحة والبنية التحتية ورفع مستوى دخل المواطن تذهب إلى فئة قليلة كثيراُ ما  تٌهَرب إلى خارج البلد وتستمر الدولة في معاناتها للفقر والعوزوالتأخر حتى ولو كان لها موارد مثل ليبيا والعراق وفنزويلا. المشكلة الأخرى السمعة السيئة للبلد مما يؤدي إلى عزوف الشركات الكبرى عن الإستثمار في هكذا بلدان ورفع أسعار المشاريع المقامة، فالمشاريع المقامة في ليبيا تزيد تكاليفها عن الضعف مقارنة بتونس، كما تعتذر الكثير من الشركات الأجنبية عن العمل في ليبيا أو زيادة نشاطها.

من المعروف أن  تقارير الشفافية لها معايرها وطرق إستقاء معلومتها من مصادر موثوقة مثل البنك الدولي والكثير من المؤسسات المحلية والدولية، وكلما كان هناك حرية الصحافة وحرية الحصول على المعلومات الصحيحة وإستقلالية القضاء كان الأمر أكثر شفافية مما يساعد على مسالة المسئولين وتعديل القوانين المشجعة على الفساد، ومشاركة مؤسسات المجتمع المدني في الرقابة وصنع القرار.

هناك نوع من الفساد الليبي الذي لا يدخل في حساب منظمة الشفافية بحكم أنه فريد من نوعه، أولاهما تمويل خزينة الدولة للمجموعات المسلحة المتقاتلة عتادا وتموينا ومرتبات بمبالغ طائلة، بل وإبتزاز بعض المجموعات للدولة في الكثير من الأحيان، وما حدث في الجنوب وقفل الحقول النفطية والقتال على المعابر الحدودية خير دليل على ذلك. النوع الثاني هو الفساد المقنن بقانون فوقي لا يتزحزح، فمثلا أعضاء مجلس النواب ومجلس الدولة قد جاوز دخل كل فرد منهم المليون دينار عدا المنافع خلال أربعة واربعون شهرا الماضية، ولم يساهموا حتى في  سن قانون لغلق أبواب هذين المجلسين لستبشر الأمة بيوم جديد يدفع عنها بلا تواجدهما في المشهد الليبي التعيس.

ما قام به النائب العام مؤخرا خطوة جيدة للمكاشفة وتحديد مواطن الداء، وهذا يحتاج إلى دعم شعبي من مؤسسات المجتمع المدني لشد عضض القضاء وتقوية مؤسسات الدولة من أجل محابة الفساد والمفسدين، علما بأن أغلبهم إما وقع في حبرائل الشبكات الإجرامية الدولية او من الشباب الأقل حظا في التعليم فعميت بصيرته  وأصبح يلهت وراء المال والربح السريع بالتهديد حينا وبالسلاح أحيانا كثيرة، وعلى مدى ستون عاما رأينا ضحايا تهريب الخمور والتبغ وضحايا تهريب الجرارات وضحايا تهريب الدولار ثم ضحايا تهريب المخدرات وأخيرا ضحايا تهريب البنزين، فهل من مذكر؟

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

التعليقات: 2

  • محمد علي المبروك

    الكاتب الدكتور عيسى بغني احسنت واصبت عين الحقيقة في هذا المقال بتوصيفك للفساد لك تقديري على هذا الكلام السديد

  • نعمان رباع

    اشعر احيانا انني مع النسخة الليبية مع القامة الوطنية سالم عبد المجيد الحياري

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً