المصالحة أم المفاوضات السياسية

المصالحة أم المفاوضات السياسية

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

 

article1-1_30-9-2016

خلال الخمسة سنوات الماضية صال وجال أصحاب القبعات البيضاء والحمراء ليبيا كلها بمدنها وقراها، بجبالها وسهولها بحثا عن بصيص أمل للم شمل الليبيين ووقف إراقة الدماء في بلد تعبق رائحة الموت في جميع أركانه. رغم الجهود المتواصلة من مشائخ وأعيان وحكماء ليبيا بمسمياتهم المختلفة إلا ان مخرجات هذه اللقاءات ضئيلة على مستوى التجمعات السكانية (كصراعات قبلية أو مناطقية) وربما منعدمة على مستوى الوطن.

يتسأل المرء كثيرا لماذا هذا الفشل الدريع لهذه المؤسسات الاجتماعية التي بنيت على أسس أن المجتمع الليبي قبلي وجهوي ولا علاقة لها بنظم مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية (NGO)، رغم اتفاقهم على أن المصالحة هي السبيل الوحيد لإيصال الدولة إلى بر الأمان. مجلس أعيان ليبيا ومؤتمر القبائل والمجلس الأعلى للمصالحة عقدوا عشرات الاجتماعات بداية من مؤتمر المصالحة بالزاوية في ديسمبر 2011م ثم سبها ومصراته وغريان واجتماعات أخرى في بنغازي والزنتان والطويلة وحتى في مصر وتونس، وهذه جميعا لم تثمر الكثير.

في الملتقي الأخير للمصالحة بنالوت يومي 16 و17 سبتمبر 2016م كنت ضمن اللجنة التحضيرية وعن قرب من الكثير من المشاركين الذين تجاوز عددهم الألف من جميع أطياف الشعب الليبي بناء على ان اللقاء عام يضم أنصار 17 فبراير وأنصار 1 سبتمبر وممثلون عن قبائل الشرق الليبي وممثلون عن مجلس النواب ومجلس الدولة وعمداء البلديات المجاورة وآخرون عن المجلس الرئاسي وغيرهم ممن لا مع هؤلاء ولا هؤلاء.

ما يعوز مجالس أعيان ليبيا ويحول دون وصوله إلى مصالحة حقيقية بين أفراد المجتمع الليبي أمور جوهرية كثيرة، منها أن معظم الفرقاء الفاعلين تابعين أو مندوبين لخصوم سياسيين لهم مطالب أيديولوجية أو جهوية مسبقة لا أمل في الحيود عنها، وبذلك تصبح المجموعة المشاركة رُسل لمطالب محددة لا حوار حولها، فمثلا بعض مندوبي قبائل المنطقة الشرقية يعتبرون أن برقة متقدمة في خطوات بناء الدولة بوجود جيش وشرطة ومؤسسات أمنية، وما على الغرب الليبي إلا اللحاق بهم وأن المشير حفتر ورئيس مجلس النواب خط أحمر لا يمكن تجاوزه، بالمثل نجد أن العديد من مدن الغرب الليبي والمهجرين من المنطقة الشرقية يعتبرون ثورة 17 فبراير خط أحمر وأن حفتر والثورة المضادة أس البلاء لهذه الأمة.  أما أنصار سبتمبر فهم مشتتون بين الانضمام إلى برامج القبلية ومشاركة رئيس مجلس النواب في الشرق الليبي ومشروع حفتر (للمنتمين إلى الشرق) وبين رفض مشروع حفتر ومخرجات 17 فبراير معا (لأصلاء الغرب الليبي)، دون وجود بديل لديهما.

من الواضح أن المشير حفتر يسعى إلى إيجاد قبول له في الغرب الليبي بعد سيطرة قواته على الهلال النفطي من خلال ضم مدن جبل نفوسة من نالوت غربا إلى الأصابعة شرقا مرورا بباطن الجبل وجادو والرجبان والكثير من القرى الصغيرة، مع استمالة الحزام الجنوبي المتاخم للساحل (الجميل والعجيلات) وضم كل ذلك إلى الزهراء والعزيزية الموالية للمشير حفتر، بحيث يكون الطريق ممهدا لدخول طرابلس إما سلما أو حرباً (لتحريرها من المجموعات المسلحة). هذا السيناريو قد يكون محفزاً لمن له طموحات سياسية لحكم البلاد وبدعم من أعراب الخليج ولكنه يواجه عقبات كثيرة تحول دون تطبيقه وإن أُغدقت على تلك المدن بالسيولة الروسية أو الوعود الفارغة، وجندت للمشروع إذاعات موجهه ورصدت له ميزانيات سخية لشراء الذمم وإسكات الأفواه.

المشكلة الجوهرية الأخرى التي تحول دون نجاح مجلس أعيان ليبيا في مهامه، غياب المنهجية وأليات تنفيذ المصالحة، فمن الملاحظ أن معظم المشاركين في مجلس أعيان ليبيا لا يبالون بخطوات المصالحة الدائعة الصيت عند هيئات الأمم المتحدة مثل تحديد الانتهاكات وتحديد الفاعلين وجبر الضرر والذي صدر فيه قرار رقم 29 لسنة 2013م المعروف بقانون العدالة الانتقالية، كما أن الكثير من المشاركين (المتعلمين) قد رفضوا في الإجتماع الأخير العمل بمنهجية تقسيم موضوعات المصالحة إلى محاور وبحثها بطريقة علمية تخرج بقرارات صائبة، ولقد تم تغيير البرنامج العام ليلة انعقاد الاجتماع، وتم الانتقال إلى النهج الشعبوي الخطابي المألوف في قاعة واحدة يسودها التمجيد للأشخاص وتغيب فيها ليبيا وشعبها برمته. كان البيان الختامي مُمنهجا لإرضاء الجميع، له سبعة وجوه ولم يذكر قرار المصالحة ولا هيئة المصالحة، بل أن كلمة المصالحة ذكرت فقط في الفقرة الخامسة الأخيرة التي تقترح ترحيل الموضوع إلى تشكيل لجان للمصالحة، وللأسف لم يتعرض البيان ولا النقاش إلى إتفاق على ميثاق وطني يحدد ماهية الدولة الليبية التي نرنو إلى بنائها.

قد يختلف الحاضرون والمراقبون على مدى نجاح الاجتماع، فمنهم من يرى أن وجود جميع أطياف الشعب الليبي في مكان واحد انتصارا  باهراً، ومنهم من  يرى أن عدم وقوع مشادات بالأيدي انتصار آخر، وهناك من يستلذ بإجازة مدفوعة الأجر للتعرف على أشخاص وأماكن جديدة ويعتبر ذلك نجاحاً، والحقيقة الدامغة أن المصالحة الحقيقية بعيدة المنال وفقاً للمعطيات الحالية، وقد لا نحتاجها (مرحليا) حتى قيام مؤسسات وأجهزة الدولة،  وعندها ستكون  هناك مصالحة بين الحكومة والشعب وليس بين المناطق أو المدن، وذلك ما حدث في الكثير من الدول التي شهدت صراعات كانت أجهزة الدولة طرفا رئيسيا بها.

يبقى  الاحتمال الآخر المهم وهو المفاوضات المباشرة بين المتنازعين ضمن ثوابت وطنية محددة، وهي الطريقة الفاعلة للوصول إلى حلول توافقية مثل ما حدث في اتفاق الطائف لإنهاء الحرب اللبنانية، والصخيرات بالنسبة لليبيا، واتفاق التبو والطوارق، واتفاق مصراته وتاورغاء. وتواجه المفاوضات على مستوى الدولة كذلك عقبات منها ضيق الأفق للفرقاء السياسيين، والذي وصفهم “أستاذ للعلاقات الدولية بأن الطبقة السياسية الليبية عفنة” ووصفهم آخر بأن خططهم الاستراتيجية الطويلة المدى لا تتجاوز أسبوع، وهو ما يربك المفاوضات ويجعلها تنحو نحو الغنيمة الشخصية والجهوية.

بعد استبدال جضران بحفتر المدعوم من رئيس مجلس النواب ومصر والإمارات وقيامه بضم الهلال النفطي إلى جيش الكرامة، وإنها التيار الوطني في المنطقة الشرقية بالتهديد أو التهجير، وعلو صوت القبلية والجهوية، أصبح الحديث عن المصالحة لا معنى له، بل أن اتفاق الصخيرات ذاته مهدد بالسقوط ما لم يتدخل المجتمع الدولي لدعم ما اتفقت عليه الأطراف في وجود العائلة الدولية وعلى رأسها مبعوث هيئة الأمم المتحدة.

إن المفاوضات آجلا أم عاجلا هي السبيل إلى إيجاد حلول ناجعة وإن طال الحرب والقتل والتنكيل، وأن المفاوضات السياسية هي السبيل إلى المضي قدما في الاتفاق وذلك ليس مع حفتر ولكن مع أنصار النظام السابق الذين أصبحوا مستشارين لرئيس مجلس النواب والقلة الباقية معه المعطلة للاتفاق.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

التعليقات: 1

  • مصطفى

    وكان هناك مؤتمر بمدينة زليتن بتاريخ 13‏/03‏/2012 وبرعاية رئيس الحكومة الإنتقالية انذاك السيد الدكتور”عبدالرحيم الكيب تحت شعار “الصلح خير ” نظمته الجامعة الأسمرية وحضره نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي السيد “سالم قنان” ورئيس الحكومة الانتقالية الدكتور “عبدالرحيم الكيب ” ” وعدد من أعضاء الحكومة … كما حضر المؤتمر وزير الشؤون الدينية بتونس السيد ” نورالدين الخادمي ” ،والعديد من وجوه الدولة والمهتمين بنهج المصالحة الوطنية, ولكن كما اشرت حضرتك كل لديه اجندة وخلفيات ترشده فالوطن عند بعضهم شعار وليس دار

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً