أثر ارتدادات مفاعيل كيان الشرق الأوسط على استعصاء الحالة الليبية

أثر ارتدادات مفاعيل كيان الشرق الأوسط على استعصاء الحالة الليبية

هذا الاستعصاء الذي يشد ويثبت حالة التأزم الليبي ويمنعها من الانتقال إلى خارجه، كما يشعر به ويظهر أمام كل من انتفض وشارك من الليبيين باليد أو القلب أو اللسان، في حراكهم المحلي الوطني الليبي مع بداية عام 2011م.

ولكن وفي المقابل، قد لا يكون هذا استعصاء وليس بالتأزم عند من جاء بهم مؤتمر الصخيرات بدعم من الشرعية الدولية إلى داخل المشهد الليبي، ومكّنهم في إدارة أمره وتصّريفه شئونه، وسوف تنتهي – في تقديري – على يد هؤلاء كل الآتي من المقاربات التي تحاول احتواء وتفكيك الاستعصاء الذي يكتنف الحالة الليبية إلى ذات النهاية.

هذا التباين في ما بين الحالتين، في من يراه ويعدّه استعصاء، والآخر الذي لا يراه ولا يصنّفه كذلك، يرجع في تقديري إلى اختلاف في المنطلقات التي تنهض عليها مقاربات الحالتين للاستعصاء الذي يشد ويثبت ويحاصر الحالة الليبية في تأزم تخطى من العمر عقد من الزمان.

فأحد التوجهين واستطيع تسّميته (المحلي الوطني الليبي)، وهو التوجه الذي دفع وحفّز وحرّك جل الليبيين للمشاركة في الانتفاضة، وهؤلاء جميعا أو في أغالبهم، قد ألقوا ما بيدهم، بعدما تداعى وانهار وسقط من كانت بيدهم إدارة وتصريف شأن ليبيا العام، وقد عاد جميع هؤلاء إلى سابق أشغالهم ومشاغلهم، وما لبت أن صار كل ما كان  يظهر أمامهم من مخرجات لكل المقاربات التي تناولت وتولت في محاولاتها معالجة التأزم الليبي، ليس سوى استعصاء يُرّبك ويحاصر الحالة الليبية ويحاول دفعها إلى زاوية تأزم مركّب.

وقد نهض استخلاصهم المقلق هذا، على أن ليبيا ليس غير واقع جغرافي ديمغرافي ثقافي طبيعي، داخل فضاء حوض المتوسط، واقع جغرافي ديمغرافي ثقافي طبيعي بفضاء شمال غرب إفريقيا، واقع جغرافي ديمغرافي ثقافي طبيعي بالفضاء المغاربي، وبهذا عندما ذهب هؤلاء إلى انتخابات لاختيار مجلس للنواب بديل عن المؤتمر الوطنى العام السابق، اتكأت اختياراتهم على هذه الثوابت الطبيعية، ليحمّلوا ويمهروا كل ما أتت به اختياراتهم بصبّغة محلية وطنية ليبية، وبقول آخر ليمنحوا وبفعلهم هذا، مُرشّحِيهم شرعية محلية وطنية ليبية، ولهذا سوف تأتي – في نظرهم – كل المُخرجات التي تتجاهل الواقع الجغرافي الديمغرافي الثقافي الليبي الناتجة عن مقاربة الحالة الليبية، ليست غير حالة استعصاء تُراكم حالة التأزم الليبي، لتجعله وتنقله من بسيط إلى تأزم مركّب.

وفي المقابل، كان التوجه الآخر، الذي جاء إلى داخل المشهد الليبي على يد مؤتمر الصخيرات في مُخرجاته وكل ملاحقه، وبمباركة ودعم ممن *بيده إدارة الملف الليبي داخل قاعة مجلس الأمن وأروقة الهيئة الأممية، رغم عجز هؤلاء عن تحقيق نجاح يذكر في انتخابات مجلس النواب، ولم يُنّجيهم من السقوط النهائي والابتعاد إلى خارج المشهد سوى حُظوتهم عند الإنجليزي الذي بيده إدارة الملف الليبي وليس من المُسّتبعد أنهم قد كانوا من صَنِيعته.

وقد جاء هؤلاء إلى داخل المشهد الليبي ومن ثم إلى تصدّره إثر تخّريجه تَخطّت بهم ما أتى به صندوق اقتراع مجلس النواب، بل وعلّقت أيضا وشطبت ما منحه الناخب الليبي من شرعية محلية وطنية ليبية للمجلس وأعضائه، من خلال التأسيس لما عُرف بمؤتمر الصخيرات الذي كان جسر عُبورهم إلى داخل المشهد، وقد مثل هذا المؤتمر أيضا الحاضنة التي أتت ورعت واعتمدت ما عرف بالشرعية الدولية، كبديل للشرعية المحلّية الوطنية الليبية التي مُنحت للنواب ومجلسهم.

وبهذا كان من الطبيعي أن تكون لهؤلاء مقاربة بديلة للحالة الليبية نهضت على توجّه المؤتمر الذي أتى بهم إلى داخل المشهد الليبي واستندت على مقاصد الشرّعية الدولية البديلة التي بعثت ونفخت الحياة في كيانهم، على يد المندوب الإنجليزي بمجلس الأمن مُمَثل هذه الدولية ورُبانها، وبما أن دولته العتيدة هي لا غيرها من كان عرّاب لكيان الشرق الأوسط الذي يضم في ما يضم كل الفضاء الجغرافي لجنوب وشرق المتوسط، فمن الطبيعي والحالة هذه، أن تأتي وتنهض مقاربتهم للحالة الليبية على أن ليبيا مفردة من مفردات كيان الشرق الأوسط.

وهذا الاختلاف في منطلق المقاربات في ما بين التوجهين المحلي الوطني الليبي والآخر الشرق أوسطي، سيترتب عليه تباين في مقاصد ومنتهى المقاربات، فالمحلي الوطني الليبي سيبني أولوياته على ما ينتهي إلى خدمة مُنّطلقه المحلّي ومَقّصده الليبي، في حين المقابل الآخر سوف لا تنتهي ترتيبات أولوياته وتوجهات مقاصده إلى ذات المنتهى، وهذا يعني وبقول آخر، بأن ما قد يفيد ويخدم أحدهما، ليس بالضرورة قد يخدم ويفيد الآخر، بل قد يلحق به ضرر كبير، فمثلا، نجد هذا التباين ظاهر وعلى نحو صارخ في تعاطي التوجهين مع نشاط استخراج النفط والغاز وتسويقه بالبلاد، فالتوجّه المحلي الوطني الليبي لا يرى مانع ولا يضع عراقيل في طريق عملية الاستخراج وسبل التسويق، إلا أنه يشترط إبعاد أيادي الفساد عن إيرادات النفط والغاز كي تصل فوائد عائداته وينتفع بها كل الليبيين، وقد توعد وهدد في عديد المرات بقفل وإغلاق منابعه إن ثم تجاهل هذا الشرط.

في حين التوجه الآخر الشرق أوسطي لا يرى ضرورة لهذا الاشتراط وقد هدد وتوعّد وأفشل في عديد المرات كل المحاولات الساعية إلى ربط الإنتاج والتسويق بضبط ومراقبة وترشيد عائدات النفط والغاز الليبي ليكون مردوده في خدمة كل الفضاء الاجتماعي الليبي عبر التأسيس لبُنى خدمية تنموية ترقى بمستوى حياة الليبيين إلى درجات تتراجع وتتقلص فيها مساحات البؤس لصالح مساحات الرخاء على خريطة حياتهم.

كنت احاول القول اتكاءا على كل ما سبق بأن السبب الرئيسي في تَسَمّر الحالة الليبية في استعصاء لا فكاك منه في ما مضى، وحتى – إن لم يتم تداركه – على مدى المنظور القريب والمعتم البعيد، يرجع وارُده في مُجّمله إلى الإخلاف في مُدخل المقاربتين الأساس في التعاطي مع الحالة الليبية، الذي انعكس بدوره على ترتيب أولوياتهما التي تمثل المعّبر نحو مقاصد وغايات كليهما، وليس كما يُروّج ويُشاع، لردْ هذ الاستعصاء إلى تمسك هؤلاء بمناصبهم التي تؤمن لهم امتيازات لا تتوفر لهم خارجها، فهؤلاء الاتباع – في تقديري – لا يستطيعون ليس العمل فقط، بل حتى التفكير في خطوة لا تُرّضى وتخدم مصلحة وتوجّه من أتى بهم إلى داخل المشهد السياسي الليبي.

هذه هي المفردات الأساسية للبيئة الاجتماعية السياسية التي تتفاعل من عليها الأحداث داخل الوعاء الجغرافي الليبي، وهي – في تقديري – وليس غيرها من كان وراء التأزم الليبي بكامله، وعلى الهيئة الأممية في مندوبها بليبيا ألا يتجاهل هذا الواقع الموضوعي أثناء مقاربتها للاستعصاء المربك للحالة الليبية.

وقد تكون في الموائمة ما بين المحلي الوطني الليبي والآخر ذو التوجه الشرق أوسطي أحد المداخل إلى تفكيك هذا الاستعصاء، شَرِيطة أن تكون مضامين سرّدية الهيئة الأممية ومواثيقها حاضرة وبقوة أثناء جلسات المعالجة للمرّبك في الحالة الليبية.

فبعدم تجاهل هذا الواقع الموضوعي لحالة التأزم الليبي مرفوق بالحضور القوي لمضامين السردية الأممية وما تضم مواثيقها، وهذه من مهام مندوب الهيئة الأساسية، لتكون السردية هي الحاضر الغائب في جلسات معالجة استعصاء الحالة الليبية، وبهذا مجتمعا، قد يتبلور المَخّرج المقبول من دوامة هذا التأزم، والذب سوف ينعكس بنتائجه إيجابا على واقع ليبيا والليبيين، ومحيطها الجغرافي القريب والبعيد، وحوض المتوسط الحيوي، وسوف لن يرّتد سلبا بنتائجه على الأمن والسلم الدوليين في هذا الفضاء الجغرافي الحيوي كما كان سائد مند عقود طويلة.

انتهى.

* المندوب الإنجليزي أو البريطاني أو مندوب المملكة المتحدة، هذه المُسميات جميعها تُشير وتخص شخصية اعتبارية واحدة وهي المكلّفة بإدارة وتصريف الملف الليبي داخل مجلس الأمن والهيئة الأممية، كما جاء على لسان أحد موظفي المندوبية الليبية بالهيئة الأممية في أحد البرامج المتلفزة عام 2011م.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً