أزمة الهوية المهنية ومفهوم الحرية الأكاديمية

أزمة الهوية المهنية ومفهوم الحرية الأكاديمية

يلاحظ المتتبع لشأن التعليم العالي أو الذي يعمل عضوا في هيئاته التدريسية أنه لا يوجد شعور واع لدى الأستاذ الجامعي الليبي بأهمية وضرورة التجمع المهني والنقابي ، وكذلك الفهم الصحيح للحرية الأكاديمية وما يتيحه ارتباطهما معا من إمكانيات النمو والتطور والابداع المهني والعلمي الفردي والجماعي. وهذه الظاهرة التي يمكن اعتبارها ( أزمة في الهوية المهنية ومفهوم الحرية الأكاديمية ) للأساتذة الجامعيين الليبيين يمكن إرجاعها إلى الأسباب الآتية :
1) أن مفهوم الهوية المهنية والحرية الأكاديمية لم يتجذّر في العقل الفردي والجمعي للكوادر التدريسية المتعاقبة في الجامعات الليبية منذ تأسيس أول جامعة ليبية عام 1956م. حيث بدأت الجامعة تخطو خطواتها في مجتمع حديث التكوين وتسوده البساطة في كل شيء بما فيه مطالب الحقوق ومتطلبات الواجبات. زد على ذلك أن الجامعة الليبية الأولى تكونت من فرعين من الكليات يفصل بينهما ألف كم أحدهما في طرابلس والثاني في بنغازي ؛ وهو ما قلّل كثيرا من مجالات الاحتكاك والتفاعل العلمي والمهني بين أعضاء هيئة التدريس. كما أن الجامعة الليبية بقيت لثلاثة عقود تقريبا بعد تأسيسها وهي تعتمد اعتمادا كبيراعلى أساتذة من غير الليبيين والذين كان همهم الأكبر هو أداء أعمالهم التدريسية بما يرضي السلطات الجامعية فقط.
2) غلب على الأستاذ الجامعي الليبي ، وهو يمارس تطبيق ما حصل عليه من معرفة وخبرة علمية وعملية داخل الجامعة وخارجها ، الإحساس بالفردية على مستوى الإرادة والفعل كذلك. فظلّ ينظر دائما إلى مهنة التعليم الجامعي باعتبارها وظيفة كأي وظيفة إدارية في النظام الحكومي المدني ، ومصدرا للرزق فقط. وقد شجعت الحكومات المتتالية في البلاد هذا الشعور بالسطحية والفردية لدى الأساتذة وغذّته بخلق فرص بينهم غير قائمة على الكفاءة ، والخبرة ، والأقدمية عن طريق المحاباة في التكليفات الإضافية والمهام الاستشارية وكذلك في إسناد المسئوليات القيادية الإدارية داخل الجامعات وخارجها ( مثل شغل وظيفة وزير ، أو وكيل وزارة ، أو مدير مصرف ، …الخ) وهو ما خلق مشاعر الغيرة ، والحسد ، والتنافس غير الشريف بين الأساتذة وصل ببعضهم لأن يكونوا عيونا للسلطة على ما يجري داخل الحرم الجامعي من تفاعلات واختيارات.
3) قاومت الحكومات المتعاقبة مفهوم ( التمثيل النقابي ) للجماعات المهنية وجماعات المجتمع المدني حتى تمنع هذه النقابات والتنظيمات من تشكيل جماعات ضغط عليها في السياسات والشؤون العامة. وهذا انعكس على اساتذة الجامعات بحيث منعهم من اكتساب وتنمية الشعور الجماعي لديهم بالمصلحة المشتركة في الفعل التنظيمي السليم للنهوض بالتعليم الجامعي أهدافا وأسلوبا ، وكذلك للمشاركة في التنمية الاجتماعية على مختلف الأصعدة.
4) وجود تحالفات وتجمعات داخل الجسم النقابي وكذلك جسم التنظيم المدني تقوم على مشاعر الانتماءات القبلية ، والمناطقية ، وصلة القرابة والنسب، والمصلحة مما جعل هذه النقابات والمنظمات شكلية أكثر منها وظيفية وذات فعالية محدودة. وهذا انعكس على أعضائها سلبا بالتصرفات اللاّأبالية ، والأنانية ، وعدم الثقة في الآخر، وعدم التعاون حتى في الأمور العلمية والمهنية ؛ والمتاجرة بالمعرفة العلمية والثقافية ، وحتى الهبوط الى مستويات متدنية من المشاحنات الفكرية والخصومات الشخصية.
ولذلك يمكن القول بأن الهياكل النقابية المهنية ومنظمات المجتمع المدني الموجودة في ليبيا سواء قبل ثورة 17 فبراير 2011م أو بعدها كانت ولا زالت شكلية استفادت منها الحكومات المتعاقبة على الحكم في ليبيا لتلميع صورتها بدعوى تشجيع الممارسة الديموقراطية والمشاركة الشعبية في ادارة المؤسسات العامة.
كما يمكن القول بأنه إذا كانت الحكومات المتعاقبة قبل ثورة 17 فبراير قد نظرت الى النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها إرهاصات سياسية قد تعزف خارج معزوفة الحكومة عتد اختيار الحلول والبرامج للقضايا السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والإجتماعية فإنها تعاملت معها بأسلوب المهادنة وتجاهل وجودها أو بفرض قياداتها عن طريق التزوير أو الإكراه. وهذا ما دفع بعضا من أساتذة الجامعات ، والنخب الفكرية ، وطلبة الدراسات العليا خارج ليبيا إلى اختيار الغربة سبيلا والبقاء للعيش في بلاد أجنبية طيلة عهد حكم نظام معمر القدافي كأسلوب من أساليب الرفض للتسلط الفردي في الإدارة والحكم الذي كان يمارسه.
غير أنه من المفارقات العجيبة أن هذه الجماعات من الأساتذة والعلماء الجامعيين والنخب الفكرية ، عندما عادت الى البلاد بعد نجاح ثورة 17 فبراير ، فشلت هي وأشياعها من الأطر المحلية فشلا ذريعا في قيادة الثورة نحو أهدافها. ليس هذا فقط بل أدخلت هذه الثورة التي قادها الشباب في نفق شائك ومعقد من التناقضات السلبية التي تتماثل تماما مع ما تحمله هذه الجماعات من تناقضات شخصية ، ووراثة اجتماعية متخلفة ، وتوجهات ايديولوجية غريبة عن الفهم السليم للإسلام. وهكذا تفرقت السبل بهذه الجماعات وتشرذمت مسالكها بين طامع في مغنم ، وحالم في نفوذ ومنصب ، وراغب في ثأر وانتقام ، وخائف مهووس يرى في كل من حوله أعداء محتملين.
وعليه يمكن القول بأنه في المستقبل المنظور من عمر ثورة 17 فبراير على الأقل ستواجه النقابات المهنية ( ومن بينها نقابة أعضاء هيئة التدريس الجامعي التي رأت النور في عهد القذافي عام 1982م وبأمر منه لتلميع صورة النظام ؛ والتي لم تشعر بوجودها أكثر مجسات أعضاء هيئة التدريس تحسسا ) وكذلك منظمات المجتمع المدني تحديات جديدة أخطر مما واجهته في الماضي. فالبلاد والثورة في عامها السابع لا زالت تشهد صراعا واستقطابا سياسيا حادّا يصعب معه التفاهم بين دكاترة ، وأساتذة ، وعلماء ، وقضاة، ونخبويين في الثقافة والفكر وأنهم هم الذين صنعوا هذا الاستقطاب والصراع ، وهم من يتخبطون فيه ، وهم من يغرقون البسطاء من الناس في مياهه. كما أنه بسبب غياب الشعور بالهوية المهنية ، وعدم التمرّن على الحرية الأكاديمية في الاعتقاد والتعبير وتقبل التباين والإختلاف تساهم هذه الجماعات في تشجيع التّمترس القبلي في خنادق الشك والريبة من الغير والتي عجزت كل الجهود المحلية ، والعربية ، والاقليمية ، والدولية عن بناء جسور التواصال ، والحوار ، والتفاهم بينها.
وفي مثل هذا الجو المشحون بالتناقضات المستترة والمفضوحة داخل مؤسسات الدولة وخارجها تجد الجماعات المتطرفة الدينية وغير الدينية الظروف الملائمة لإثبات وجودها والسعي إلى الهيمنة على مقدرات الشعب لخلق الدولة وفق تصوراتها ومصالحها الخاصة والضيقة. ويومئذ تجد النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني المسالمة جميعها نفسها وقد وقعت بين مخالب الوحش وأنيابه التي لا تعرف مهادنة ولا ترويضا. ويومئذ كذلك يودّ الذين سعوا في طلب العلم والثقافة والتمدّن والتحضّر داخل ليبيا وخارجها ونادوا سنين عديدة بالحرية الأكاديمية لو كانوا يعلمون الغيب ما انحدروا الى ما وصلوا إليه من الضلال المبين.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عثمان زوبي

كاتب ليبي.

اترك تعليقاً