أوراق الربيع (2).. الثورة ليست أُنثى الثور!

أوراق الربيع (2).. الثورة ليست أُنثى الثور!

محمد الشنقيطي

أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمَد بن خليفة في قطر

article1-1_16-9-2016

لا يسعفنا الوضْع اللغوي العربي أحيانا في توضيح معنى “الثورة” كما نفهمه اليوم. فقد ورد استعمال لفظ “الثورة” بمعنى مؤنَّث “الثور” أي: البقرة! قال الجوهري: “والثور: الذَّكَر من البقر، والأنثى ثَوْرة.. مثل عَوْد وعَوْدة” (الجوهري، الصحاح، 2/606). وقال أبو هلال العسكري: “والذكر من البقر يُفرَد بالثور، وربما قيل للأنثى ثَوْرة” (العسكري، التَّلخِيص في مَعرفَةِ أسمَاءِ الأشياء، 369). وقال الرازي: “والثور من البقر، والأنثى ثَوْرة، والجمع ثَوِرة كعِنَبة” (الرازي، مختار الصحاح، ص 51).

لكن بعض الاستعمالات الاشتقاقية أكثرُ إسعافاً، لأنها أقرب إلى الثورة بمعناها المعاصر، ومن ذلك استخدام فعل “ثار” و”أثار” بمعنى الغضب والجلَبة والهيَجان. قال ابن سيده: “ثار ثائرُه، وفار فائرُه، وهاج هائجُه: إِذا تشقَّق غضباً” (ابن سيده، المخصص، 4/80). وقال الحمْيَري: “ثَوَّره: أي أثاره. ويقال: ثوَّر فلانٌ على فلان شرًّا: أي هيَّجه” (الحميرى، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، 2/913).

[su_pullquote]مصطلح الثورة في اللغة العربية من أكثر المصطلحات لبسا خلال القرن العشرين بسبب ما أحاط به من استخدامات متعارضة ومتضاربة في المعنى والدلالة[/su_pullquote]

واستُعمل لفظ الثورة بمعنى العدد الكثير من الناس: “يقال: ثورةٌ من رجالٍ وثروةٌ، يعني عدداً كثيراً” (الأزهري، تهذيب اللغة، 15/82). كما ورد لفظ الثورة في الشعر أحيانا بمعنى الأخذ بالثأر، كما نجده في قول الرحَّالة المغربي ابن حبير يمدح السلطان صلاح الدين الأيوبي:

ثأرْتَ لدين الْهُدى فِي العِدى فآثـــــرك الله من ثائـــــــــــــــــرِ
وَقمتَ بنصـــــر إِلَه الــــــــورى فسمَّاك بِالْمــلكِ النَّاصــــــــِرِ
(أبو شامة، عيون الروضتين، 3/372-373)

وليس الغموض في الاستعمال الشائع لمصطلح “الثورة” محصورا في اللغة العربية، فقد لاحظ عالم الاجتماع السياسي كرينْ برينتونْ أن “الثورة من الكلمات التي تتصف بالغموض.” (برينتون، تشريح الثورة، ص 23) لأنها “من الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي” (تشريح الثورة، ص 24). ولذلك يحسُن أن نحرر مصطلح “الثورة” كما نستعمله في هذه المدوَّنة، رفعا للالتباس فيما يأتي من حديث في حلقات “أوراق الربيع”.

لقد أصبح مصطلح “الثورة” في اللغة العربية من أكثر المصطلحات لبسا خلال القرن العشرين، بسبب ما أحاط به من استخدامات متعارضة ومتضاربة في المعنى والدلالة.

فقد استعمله المستبدون -بسوء نية- لإضفاء الشرعية على العديد من الانقلابات العسكرية منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم.

كما استعملته الشعوب -بحسن نية- توصيفا لحروب التحرير الوطني، التي سعى العديد منها لتحرير الأوطان، وغفَل عن تحرير الإنسان، فضاعت تضحياتها، وصادر ثمراتِها قادةٌ مستبدون لا يختلفون عن المستعمرين في الظلم، وإن اختلفوا عنهم في الهوية.

فإذا تركنا جانباً الاستخدامَ الطريف للفظ “الثورة” بمعنى البقرة، فإن اشتقاقات الكلمة وظلالَها في لسان العرب تحمل معاني: الحركة العنيفة، والغضب، والجلَبة، والهيَجان، والكثرة، والإثارة، والأخذ بالثأر. وواضحٌ أن كل هذه المعاني من أعراض الثورات السياسية وتجلِّياتها.

ظهر مصطلح الثورة بمعنى التمرد السياسي أو العسكري في كتب التاريخ العربية، فكتب شيخ المؤرخين أبو جعفر الطبري عن “ثورة الناس بالحَجَّاج بالبصرة.” (تاريخ الطبري 6/210)،

واستعمل ابن خلدون مصطلح الثورة كثيرا في تاريخه، في سياق حديثه عن الانتفاضات والحروب الكثيرة في عصره وقبل عصره. لكنه لم يميِّز بين ما كان منها ذا رسالة سياسية داخلية مثل “ثورة المرابطين” (تاريخ ابن خلدون 1/200) وما كان منها مواجهة بين المسلمين وغيرهم مثل: “”ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها” (تاريخ ابن خلدون 5/237). ولكنه قصد في الحالتين المواجهة التي تقف وراءها قوة اجتماعية، لا مجرد المواجهة العسكرية بين جيشين.

وفي كل الأحوال فإن لفظ الثورة في اللغة العربية لم يحمل معناه السياسي المتداول اليوم إلا في المعاجم العربية المعاصرة، حيث ورد تعريف الثورة بأنها: “اندفاعٌ عنيفٌ من جماهير الشعب نحو تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييراً أساسياًّ” (أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة 1/336). وهذا التعريف قريب من تعريفات الثورة في المعاجم والموسوعات السياسية المعاصرة باللغات الغربية.

ومن هذه التعريفات ما ورد في (موسوعة العلوم السياسية، ص 1477) التي حررها جورج توماس كوريان، وصدرت في واشنطن عام 2011. فقد ورد في هذه الموسوعة أن الثورات “تغييرات سريعة في مؤسسات الحكم، بوسائل غير دستورية، وبدعم جماعات شعبية عادة، من خلال المظاهرات، والانتفاضات المحلية، وحرب العصابات، والحرب الأهلية، والاحتجاجات الجماهيرية، أو غير ذلك من أعمال ثورية.”

واعتبر ديْل يودرْ أهمَّ خصائص الثورة السياسية هو “تغيير موقع السيادة” في النظام السياسي. (ديل يودر، “التعريفات الحالية للثورة”، المجلة الأميركية لعلم الاجتماع، المجلد 32، العدد 3). وهذه ملاحظة ثمينة، لأن الثورة نقلٌ للسيادة من يد الفرد المستبد والعصبة المتحكمة إلى أيدي المجتمع، لا مجرد نقل للقيادة من يدِ فرْدٍ إلى يدِ فردٍ آخر، أو إلى أيدي قلة قليلة.

[su_pullquote]غاية الثورات الحقيقية هو تحرير الشعوب لا حُكْمُها، وذاك ما يميِّز الثورة عن مظاهر الانتقال السياسي العنيفة الأخرى مثل الانقلابات العسكرية[/su_pullquote]

ونحن نميل إلى تعريف الثورة تعريفا معياريا بأنها: “حركةُ مغالبةٍ سياسية قوية، ذات عمق اجتماعي كثيف، تسعى لتغيير نمَط الحكم، من أجل تحرير إرادة الشعب، وتأسيس فضاء سياسي يحقق العدل والحرية، وينقل التنافس السياسي من منطق القهر والتسلط إلى منطق التراضي والتعاقد.”

فما نقصده في هذه الأوراق تحديدا هو الثورات السياسية الساعية إلى تحرير إرادة الشعوب من قبضة المستبدين، وإسناد أمرها إليها دون وصاية.

فغاية الثورات -بهذا المعنى المعياري- ليست استبدال حكام بآخرين، بل التأسيس لقيم جديدة في الحكم، تجعل الحياة السياسية أعدلَ وأنبلَ، وبناءِ فضاء سياسي مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلميا.

إن غاية الثورات الحقيقية -باختصار- هو تحرير الشعوب لا حُكْمُها، وذاك ما يميِّز الثورة عن مظاهر الانتقال السياسي العنيفة الأخرى مثل الانقلابات العسكرية.

وبهذا يظهر أن الثورة ظاهرة سياسية واجتماعية مركَّبة، وأنها ليست مجرد أنثى الثَّوْر، كما تحاول أن تقنعنا به معاجمُ عربية عتيقة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

محمد الشنقيطي

أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمَد بن خليفة في قطر

اترك تعليقاً