الاقتصاد عماد الاستقلال

الاقتصاد عماد الاستقلال

د. نوري عبد السلام بريون

المستشار الاقتصادي، ومدير إدارة الرقابة على المصارف الأسبق لمصرف ليبيا المركزي

إنه من اللا فت للنظر أن يكون عنوان مقالنا في الزمن الحالي ( الاقتصاد عماد الاستقلال)، ومنظمة الأمم المتحدة تحتضن 198 دولة مستقلة، ومعظمها غير مستقلة وسيادتها ناقصة، لأن معظم حاجاتها تأتي من الخارج بسبب ضعف اقتصادها وعجز حساباتها الخارجية ( الميزان التجاري،وميزان المدفوعات) لذلك لو طُلب من آلإقتصادي المتخصص اليوم ، الكتابة  تحت عنوان ( الإقتصاد عماد آلإستقلال ) لفضل إستبداله ب (قوة وسيادة الدولة في إقتصادها )، ليكون ناعما مع الواقع السياسي الحالي، بينما العنوان المتضمن كلمة آلإستقلال، يصلح في زمن الخمسينيات من القرن العشرين ، حيث كان آلإستعمار ينكمش عسكريا وأمنا وإداريا ،وآلإستقلال يتوسع أمنا وإداريا على المستوى الوطني، عندئذ  كانت تغريدة الكاتب المثقف الوطني تنادي بأن آلإقتصاد هو العمود الفقري وعماد آلإستقلال.لكن آلإقتصاد اليوم هو كل شيء في دعم آلإستقلال وسيادة الدولة، وهو بالنسبة للإنسان العين التي يرى بها ، وآلأذن التي يسمع بها، وآلرجل ( بكسر الراء )التي يمشي بها، وآليد التي يعمل بها، وآلتقنية التي يتعلمها لإستخدامها في جميع مناحي الحياة، حتى أصبح  آلإقتصاد هو الحياة،ولا حياة بدون إقتصاد.

  رغبة مني في آلإطلاع على بعض الصحف في آلخمسينيات من القرن العشرين مررت في أواخر ديسمبر2018 بمكتبة  المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية (مركز الجهاد الليبي)، وعند جلوسي قرب طاولة القراء، جذب إنتباهي عدد من مجلة صوت المربي (كان فوق الطاولة) المصدرة من  رابطة المعلمين بمدينة طرابلس منذ يناير 1955 ، فتصفحتها وتذكرت مساهمتي الثقافية في الرابطة صيف عام 1957 ،لأنني مارست مهنة التعليم بعد تخرجي من كلية المعلمين بسيدي المصري طرابلس لمدة ثلاث سنوات (أكتوبر 1953 –سبتمبر 1956) براتب صافي مدفوع نحو 17.460 جنيه ليبي، ثم سألت أحد آلعاملات عن آلأعداد المتوفرة بالمكتبة من مجلة صوت المربي ( مجلة أدبية ثقافية إجتماعية شهرية )، فأجابت ربما ( 16)، فطلبت آلإطلاع عليها، وكانت المفاجأة أن أعثر على مقال بالعنوان المذكور أعلاه :(الإقتصاد عماد الإستقلال ) بمجلة صوت المربي -العدد آلأول – السنة الثانية 1376 هج-1956 م، بقلم آلأستاذ الشيخ محمد مجمد نوري بريون رحمه الله (1925 ، 2012م) وهو مدرس للصف السادس بمدرسة المدينة القديمة الإبتدائية في ذلك الوقت، وإن كان المقال في صفحتين (34، 35)، إلا أنه يتضمن النصائح الكبرى لكل بلد حديث آلإستقلال، تنقصه التنمية، إذ إفتتح الكاتب مقالته ب (إن القوة الزاخرة التي لها أثرها الباهر وخطرها القاهر بين كل القوىالفعالة في كل أمة من أمم آلأرض هي القوة آلإقتصادية ومدى ما للأمة من قدرة على آستغلالها وتنميتها وما لها من التعاون التام في توزيعهاوحسن التصرف فيها وآستثمارها إستثمارا يكفل الرخاء ويضمن لها التقدم وآلإرتقاء) ثم أضاف (كما لا يخفى أن آلأمة تضعف وتقوى بقوة الثروة وضعفها وتسعد وتشقى بقدر ما لها من حسن التصرف وسوئه في موارد الثروة وميادين آلإنتاج) ويمكن تلخيصها كما يلي:                                            

السنة  آلأولى-1955-العدد الثالث            الشيخ محمد محمد نوري بريون

1-القوة آلإقتصادية هي القوة الزاخرة التي تعطي الرخاء والرفاهية للدولة، وهي التي تحدث الخطر القاهر بين الدول الأضعف منها إقتصادياً.

2- لكن القوة آلإقتصادية لا تتحقق إلا بالقدرة على كيفية إستغلالها وتنشيط وسائل تنميتها، من خلال التعاون مع شعبها وأصدقائها من الدول آلأخرى في توزيع آلأدوار للنشاط ألإقتصادي، بحسن التدبر والتصرف فيها من حيث آلإستثمارلضمان التقدم والرفاهية.

3- أشار الكاتب إلى أن الأمة تقوى إقتصاديا إذا زاد حجم ثروتها، وتضعف إذا إنخفض حجم ثروتها، بينما ستتمتع آلأمة  بالسعادة، إذا أحسنت آلأداء في إستثمار موارد الثروة، وبآلمشقة إذا أساءت آداءها.

لا شك أن هذه التوجيهات آلإقتصادية السليمة تشير إلى سعة أفق الكاتب آلأستاذ الشيخ  المرحوم محمد محمد نوري بريون رغم أنه لم يدرس علم آلإقتصاد، ولكنه كان ذا باع كبير في الدراسات آلإسلامية، الذي إكتسبه بالإعتماد على النفس حتى أنه أسس فيما بعد أكبر دار لبيع الكتب ( مكتبة النحاح )   المتخصصة في الفكر آلإسلامي العميق، حتى أصبحت مكتبة النجاح المصدر الرئيس لتوزيع الكتب آلإسلامية على مختلف دور الكتب المنتشرة في المدن الصغيرة والمتوسطة داخل ليبيا لكن هذا لم يستمر زمنا طويلا ، إذ تدخلت ثورة سبتمبروقامت بإعادة تنظيم وتسييردور النشر والتوزيع  في أواخر السبعينيات ، بالشكل الذي منع الثقافة أن تتنفس، وزاد نفقها ظلمة، بعد أن عاشت ليبيا في إزدهار واسع ثقافيا وآقتصاديا خلال السنوات آلأربع آلأولى من ثورة سبتمبر لم تشهده من قبل.

يلاحظ من خلال قراءة مقالة الشيخ بريون ، أن له في آلكتابة أسلوبا مميزا ومتوجا بقليل من السجع مثل ما جاء أعلاه: (أثرها الباهر، وخطرها القاهر)،و(يكفل الرخاء، ويضمن آلإرتقاء) ثم ركز الكاتب على هجوم الغرب على دول الشرق بمختلف مصنوعاته وشتى مخترعاته حتى غزى الشرق بمنسوجاته وآلاته حتى يقول (فآمتص خيراته وأضعف حياته وسلبه كنوز القوة ،فتقوى بها بدله،ورقي بها أهله حتى أصبح بالمال تميل إليه آلأمم وبه يصول وينتقم. يشتري من الشرق المواد الخام  بأبخس آلأثمان فيدخلها مصانعه السحرية ومعامله آلآلية ويرتبها بيد التنسيق وآلإغراء فتخرج بهحة القلب وزينة الطرف فترجع إلى الشرق على غير ما خرجت منه …ولكن بثمن غير ذلك الثمن وغبن غير ذلك الغبن..أفلا يكون في ذلك من آلتأسف وآلحسرة ما يدعو لليقظة والنهوض ؟). فأجاب الكاتب إنه من طبيعة كل إنسان أن ينشد المثالية، فيجد باستمرار حتى يحقق طموحاته، وكذلك آلأمم كآلأفراد إذ يقول ( ألأمم كآلأفراد فإنها إن نوت أمدا وطلبت شأوا…فلا بد ثم لابد وأن تصل إلى غايتها مهما كلفها ذلك من آلقوى ومهما ألزمها من جهود.) ثم نبه آلأمة بأن الغرب وصل إلى هذا المستوى المتقدم في آلإقتصاد والثراء بالجهد الجبار ومصارعة الظلمات، وبآستخدام العلم في جميع ميادين البحث والنشاط آلإقتصادي من جهة،وبالتعاون بين طبقات الشعب المختلفة بإنشاء الشركات الكبيرة التي تنتج أكبر آلإنتاج بأقل تكلفة ممكنة من جهة أخرى.

هنا تجدر الملاحظة بأن الشيخ محمد بريون قد تبنى نظرية العلم والحديد، هي التي أرست علو التقدم آلإقتصادي في الغرب، علما أن هذه النظرية قد توسع إنتشارها بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة خلال الخمسينيات من القرن العشرين.

إلا أنه فيما بعد آعتبرت مادة الحديد والصلب مادة مهمة إقتصاديا حتى أنها تدخل في صناعة جميع وسائل التنمية، وجميع السلع الضرورية، وهو أيضا يدخل في صناعة آلأدوات الحربية ومواد الدمار الشامل، وآلأخير هو الذي مكن الدول الكبرى من إستعمار الدول الضعيفة ، وبالتالي مكنها القدرة على نهبها وآلإستفادة من خيراتها ، مما جعل البلدان الغنية الكبرى تحافظ على صناعة مادة آلحديد والصلب ، حتى بتكلفة عالية غير إقتصادية ، بسبب أهميتها وضرورتها للصناعات الحربية.

  لكن منذ الستينيات من القرن العشرين أصبحت نظرية الفكر التنموي آلإقتصادي من خلال تنمية آلإنسان (مالك بن نابي الجزائري رحمه الله)، حتى صارالتقدم آلإقتصادي المجزي تحققه نظرية آلإنسان المصحوب بالعلم والتقنية وآلأخلاق. إذ قال الشيخ بريون ( والسر كل السر في تقدم الغرب وتهوره هو العلم والحديد ،إنهم بآلحديد صيرونا عبيدا إنهم بالمصانع  وآلآلات والمعامل والمخترعات، تمكنوا منا وغلبونا….إنهم بالحديد سادوا وشادوا ،وبالحديد ربحوا واستفادوا إستخدموا الحديد في كل حقل من حقول الحياة فكان سر السرعة ومصدر القوة وأصل كل إنتاج أفلا تجدر بنا نحن كذلك أن نلتفت للحديد ونهتم به وأن نعطيه جهودنا وعقولنا وأسماعنا وأبصارنا وأن نستغل منافعه ونعرف فوائده وأن نتقوى ببأسه، حتى نكون أمة لها وزن بين آلأمم آلأخرى).

لكن من الافت للنظر،أن عبارته (بالحديد صيرونا عبيدا) توحي إلى أن الشيخ بريون بفكر في كبر نسبة أهمية مادة الحديد والصلب  بالنسبة للتنمية بصورة عامة (آللآلات والمعدات)، كرأس مال للصناعة المدنية ، وبالنسبة للهيمنة (صناعة آلأسلحة آلحربية)، كقوة ضاربة نشأت من النزعة آلإستعمارية لغرض الهيمنة على الدول آلأضعف، للإستفادة منها في زمن السلام من خلال تصريف فائض إنتاجها في أسواق تلك البلدان ، وفي زمن الحرب من خلال جعلها دولا حليفة كقوة ناعمة،

تقوى بها بين أقرانها.

  ومن جهة أخرى ، أكد الدعوة  إلى نبذ آلفردية وتبني التعاون الجماعي ، لأنه بالتعاون مع آلآخرين تقوى الشراكة ويكبر رأس المال حجما، فتزداد إمكانية الشركة في جلب آلآلات، وتزداد فرصتها لبناء الحجم آلأمثل للمشروع، ليكون عند ألمستوى آلأكبرإنتاجا وعند المستوى آلأدنى تكلفة.

وجاء بمثال .لو رغب شخص واحد لديه عشرة آلاف جنيه لا يستطيع أن ينشئ مصنعا لإنتاج أية سلعة مهما صغرت، بينما لو إجتمع عشرة آلاف  شخص مع كل واحد منهم عشر جنيهات، فيكون معهم مجتمعين مائة ألف جنيه تمكنهم من جلب آلآلات والمعدات لبناء المصنع المرغوب، والكاتب يعني أن يتعاون القطاع الخاص كجماعة في بناء المصنع أفضل من بنائه فرديا إذا أخذنا آلكفاءة في الحسبان.أي آلكفاءة في رأس آلمال ، والكفاءة في الحجم آلأمثل للمشروع. ورغم أني كنت أنادي بهذه السياسة آلإقتصادية مصحوبة بالتعاون آلإيجابي في تخفيف آلأسعار، منذ الستينيات من القرن الماضي، ولكن لا حياة لمن تنادي، بل إتهمني بعض التجار ذوي آلجشع المالي بأنني من أنصار إشتراكية الدولة. علما أن هذا المصطلح غير صحيح، لأن الدولة لا تشترك مع نفسها، إذ المشاركة تتطلب إثنين فأكثر، وليس واحدا.أما ميولي آلإقتصادية أحب المعيشة في سعة آلحرية آلإقتصادية للإقتصادي آدم سميث ، وأحب آلإقامة مع ضوابط العلامة إبن خلدون،وكذلك الضوابط التي جاءت في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنني مسلم، ولأنها تتفق ولا تتعارض مع الفكر آلإقتصادي المتفق عليه من علماء آلإقتصاد ذوي الشهرة الواسعة.كذلك القاعدة العامة ( لا ضرر  ولا ضرار ) هي آلأخرى مصدرها آلإسلام (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم)، تحظى باتفاق عام من قبل آلأديان آلأخرى، وجميع العلماء ذوي العقول الناضجة.

إذ قال الكاتب الشيخ بريون (أيها القوم إن شخصا يملك عشرة آلاف جنيه لا يستطيع إلا أنيرفع حجرا على حجرولكن ألف شخص كل منهم يملك مائة جنيه ليجمعون مائة ألف جنيه ويستطيعون أن يجلبوا من الآلات والمصانع ما يشغل آلاف العاطلين ويستطيعون أن ينتجوا من المواد الخام الموجودة عندنا والقريبة منا ما يدعمون به إقتصادنا القومي أعز تدعيم ويصدرون إنتاجنا إلى الخارج بثمن محترم لا مادة خام بثمن بخس.(محترم  تعني مجزي أو مربح).إننا نبيع الجلود للخارج ببضع آلاف ولكننا نجلب من النعال والمواد الجلدية المصنوعة بمئات الآلاف من الجنيهات إننا عالة على الخارج حتى في أبسط آلأشياء إن التصنيع أمر ضروري لكل أمة رشيدة صممت على أن يكون غدها خيرا من أمسها ولها فرصة تشغيل العاطلين وتنمية ثروة البلاد).

إذن أوضح  الكاتب أن التنمية من خلال بناء شركات المساهمة ، تجمع مودة المساهمين المتعاونين، وتكون خالية من ألأنانية، مما يجعلها قادرة على تشغيل العاطلين وإحداث التنمية، من خلال التصنيع لأنه محفز قوي للتنمية فيزداد الإنتاج وينخفض معدل البطالة ،فتتحقق التنمية المستدامة.

ومن حسن حظ ليبيا أن منحها الله بثروة كافية لإحداث التنمية في إقتصادها،

لكن المسؤولين الذين تعاقبوا في قيادة البلاد، لم يلتفتوا نحو النصائح وآلأسس العلمية التي تُقبر في تقارير المستشارين، أو تُنشر في الصحف والمجلات من قبل  ذوي آلرأي، بل إلتفتوا نحو آلإنفاق على ما يدغدغ الشعب من تيسير جلب السلع والخدمات التي تزيد من رفاهية آلإنسان، (ظنا منها أنها تسير في طريق التنمية)

فيزداد المواطن كسلا عل كسل، ووهنا على وهن، فيصبح عالة على الدولة.وكما قالها الشيخ بريون (أصبح عالة على الخارج) لكننا اليوم نعيشها فعلا وليس قولا.

تصوروا لو توقفت الحكومة بالكامل عن صرف مرتبات ال(1.8 مليون موظف)

ماذا يحصل في ليبيا؟ أترك آلإجابة للقارئ آلمفكر، ورب آلأسرة المحنك المتدبر.

وفي الختام حري بنا أن نذكر عناوين بعض مقالات الشيخ محمد محمد نوري بريون التي نشرت في مجلة صوت المربي بآلأعداد المتوفرة بمكتبة مركز الجهاد الليبي وهي:

  1. فضيلة الحلم  – السنة آلأولى-1955 – العدد الثالث.
  2. رسالة المعلم  (1) – = إبريل 1955 – العدد الرابع.
  3. رسالة المعلم (2) –      = مايو 1955 – العدد الخامس.
  4. موقفنا من كتاب الله – نوفمبر 1955 –العدد الحادي عشر
  5. الشورى في آلإسلام – ديسمبر-1955 – العدد الثاني عشر.
  6. بين آلإيمان والصلاة – السنة الثانية –إبريل 1956- العدد الثالث عشر.
  7. بين العلم وآلإيمان  – = يونية 1956- العدد الخامس عشر.
  8. ذكرى مولد الرسول آلأعظم-   1956 – العدد السادس عشر.

علما أن مجلة صوت المربي كانت تباع بقيمة خمسة قروش ليبية أي 50 مليما، وهي 50 درهما حاليا، لكنها لا توجد في التداول هذا الوقت، لأن التضخم هو الذي أعدمها وأزهق روحها، وليس المصرف المركزي الذي خلق قيمتها  ولم يستطع المحافظة على قيمتها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. نوري عبد السلام بريون

المستشار الاقتصادي، ومدير إدارة الرقابة على المصارف الأسبق لمصرف ليبيا المركزي

اترك تعليقاً