التقرير النهائي لمسار الملتقى الوطني الليبي: تأطير دون الأقليات القومية

التقرير النهائي لمسار الملتقى الوطني الليبي: تأطير دون الأقليات القومية

“إن إنهاء أي نزاع وإعادة بناء مؤسسات دولة ومجتمعات ممزقة نتيجة سنوات من الحروب، لمهمتان غاية في الحساسية” الأخضر الإبراهيمي مبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة سابقا.

المعروف أن التأطير النظري هو الجزء الأساسي للمشكلة له تأثير جوهري في النتائج والتوصيات ثم القرار، فمن خلاله يتم تحديد كل الأبعاد والمتغيرات المتعلقة بالإشكالية لأجل الوصول إلى إطار أو مبادئ تطبق عمليا لحل الاشكالية أو القضية المطروحة، لذلك فإن التأطيرات النظرية تحتاج إلى أسس صحيحة وموضوعية بعيدة عن الانتقائية والانحيازية إذا كان الهدف الأساسي هو حل القضية، سواء كانت مسألة علمية أو اجتماعية أو قضايا توافقية أو دستورية وغيرها؛ مهما اختلفت طبيعتها يبقى المسار البنائي الصحيح واحد أي أن ما وضع أساسا ومبدأ سينعكس على المضمون والمخرجات.

فمثلا على صعيد كتابة التاريخ للدول والشعوب الأفريقية من قبل الكتاب الغربيين حدث فيها تغيرا جوهريا منذ ستينيات القرن الماضي، وذلك بالاتجاه نحو تأطير وكتابة تاريخ كل قطر أفريقي منطلقا من مركزية أفريقية بدلا من مركزية ثقافية أوروبية، هذه النظرة الجديدة وضعت القضايا التاريخية والشعوب في إطارها الأصيل؛ ببيئتها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والحضارية، وهذا دفع العديد من المهتمين بتحليل وكتابة واقع الدول (الشعوب، القضايا، الصراع) من منطلقات ومتغيرات وتكوينات البلد المختلفة، وفك الارتباط من التاطيرات والتحليلات المنطلقة من مركز تسلطي ايدولوجي ثقافي وقومي يربط الواقع دعما لمركزه، وقد ساهم هذا الاتجاه الجديد في التأطير الصحيح لواقع الدول وفهم القضايا والنقد.

وفي هذا السياق فإن تحليل وتأطير القضية الليبية بجوانبها المختلفة، يحتاج إلى أسس واقعية شاملة لكل التكوينات الثقافية للأمة الليبية (العربية والتباوية والامازيغية والتارقية) دون أي تدخلات ذات مرجعية ايدولوجية ثقافية تضبط الواقع في إطارها لضمان الهيمنة الثقافية، التقرير المُعد من قبل مركز الحوار الإنساني المُكلف من السيد سلامة مبعوث الامم المتحدة في ليبيا، يؤطر لواقع مكون ثقافي واحد، يضع مبادئ توجيهية لتكون أساسا في تنفيذ خطة البعثة الأممية في ليبيا، ألا وهي تشكيل المؤتمر الوطني الجامع، هذا التقرير كتب بعناية بلاغية؛ لكن مساره التكويني الأهم لم يصمم بمثل هذه العناية، فنظرة الأغلبية العربية بُلورت كنظرة لكل الليبيين؛ شعبا وقضيةً وحلولا ودستورا، وغطت واقع ونظرة الأقليات القومية (التبو، الأمازيغ، الطوارق) بشعارات رنانة منها “لا أغلبية ولا أقلية”، “وعدم الارتياح لمصطلح المكونات” “ورفض المحاصصة” وغيرها (أنظر التقرير، ص 54)، الأمر الذي جعل التقرير خال من أي ذكر لهذه الأقليات القومية من مقدمته إلى الخاتمة، تماشيا وتناغما مع هذه الشعارات الخاطئة المنسوجة بدقة بأيدي دولية، وتجاهل تام لرأي الآخر سواء في الشمال أو الجنوب.

لا يمكن جعل هذه المفاهيم الخاطئة العدائية اتجاه التعددية الثقافية مشروعا للبناء، فهي تربط التعددية الثقافية بمسألة الأمن القومي وضد الوحدة الوطنية وتهديد للاغلبية، وقد استخدمتها الدولة عقودا من الزمن لتبرير العنصرية والانتهاكات ضد الأقليات، ما يعتبر جريمة وفقا لكل المقاييس يصبح عملا مشروعا ووطنيا وفقا لمفاهيم الأحادية، ويتم غض الطرف عن أي انتهاكات تتعرض لها الاقليات من قبل العديد من الأطراف من بينها البعثة الأممية، لأسباب ثقافية ومصالح على حساب المبادئ الحقوقية الإنسانية، بدلا من السعي نحو فك جذور الخلاف والنزاع المترتب عنه ضحايا، من خلال تصحيح المفاهيم المغلوطة بمفاهيم حقوق التعدد الثقافي السياسية والثقافية لاجل بناء السلام الحقيقي والمصالحة بين كل الليبيين.

لا نستغرب هذا النهج الإقصائي القائم عليه التقرير باتخاذ مبدأ الأغلبية أساسا في المشاورات والتوجيه والتأطير، وخاصة أن البعثة الأممية دائمة التجاهل للأقليات في عملها وتقاريرها، والاستمرار فيه لا يحقق التوافق، فالمسار التوافقي ينبع من واقع عملي وليس من مثاليات وتوهيمات نظرية، يحتاج إلى مسؤولية ومبادئ أممية وشمولية لجذب كل الأطراف، بل التواصل مع كل الشرائح والمهمشين الذين لا يستطيعون الوصول، لتكون المبادئ والحلول توافقية وجامعة تنهي كل أشكال الصراع وتضع أسس الدولة الديمقراطية.

إن أي مشروع حوار شامل لا بد أن ينطلق من مبادئ شاملة تعبر عن القضية الليبية بأبعادها المتنوعة للوصول إلى مبادئ توجيهية تعبر بالمعنى الحقيقي عن كل الليبيين والليبيات، وإلا سيعاد تكرار تجارب حوارات سابقة تُعقد الأزمة وتبعد عملية بناء السلام، ولنا في تجارب الشعوب عبرة؛ فمثلا ما انتجه حوار جنوب أفريقيا في عام 1996 من مبادئ توجيهية توافقية عددها (34) مبدأ كانت أساسا لولادة دستور ديمقراطي جامع لقوميات وعرقيات مختلفة، وفي المقابل نجد تجربة الحوار الوطني الشامل لليمن في عام 2013 وما افرزه من نتائج غير توافقية ثم مسودة دستور فواقع تعيشه يمن اليوم.

لا بد من ترسيخ مبدأ التوافق دون تجاهل واقصاء وشعارات تقليدية ليست لها وجود في عصر اليوم، تُبلور وتختزل الوطن في بعد ثقافي واحد، بصياغة الافكار والمفاهيم الخاطئة جوهرها اللامساواة والاستعلاء تنتقص من قيم المواطنة، لا بد من التعددية والشراكة للتأطير والتوجيه والتعبير عن الأمة الليبية بعمق وصولا إلى وطن حقيقي للجميع.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً