الحالة الليبية.. استعصاء الفهم والحل

الحالة الليبية.. استعصاء الفهم والحل

عبدالرزاق العرادي

عضو المجلس الانتقالي السابق

article2-1_26-7-2016

أزعم أني من المتابعين اللصيقين بالحالة الليبية منذ سنوات طويلة، ومع ذلك أقر بالعجز عن مجرد تصور المشهد السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والاجتماعي الحالي المتداخل في أطرافه، وأبعاده، ومسمياته. حتى أصبح مجرد استحضار العوامل المؤثرة فيه، وموازين القوى، وضوابط التحالفات مطلبا عزيزا في حد ذاته.

في هذا المقال أحاول تفكيك بعض الخيوط المتشابكة، وتحديد ملامح بعض الأطراف، لعلي أفلح لاحقا في محاولة قراءة بعض الخلفيات القريبة، أو أسهم في تقريب العوامل المتحكمة في تحرك بعض هذه القوى.

خطل التصور

في مناسبة سابقة تحدثت عن خطل التصور الذي يقرأ المشهد الليبي من خلال مقولة الثورة والثورة المضادة، ومن خلال مقولة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. لست الأول الذي طرح هذه الفكرة فقد سبقني إليها المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا سابقا طارق متري.

طرحت وجهة نظر تقول إن الصراع في حقيقته هو بين من يريد الدولة المدنية الديمقراطية، ومن يريد “دولة على مقاسه” أو يريد دولة عسكرية. ومع اعتقادي ببقاء هذا الإطار صالحا لتشخيص المشهد إلى اليوم، وربما إلى المستقبل المتوسط، فإني أضيف إليه تحفظا جديدا، وهو أن هناك قوى لا تحركها هذه الدوافع بقدر ما تحركها عوامل خصوصية، ذات طبيعية مدينية (مشكل مدينة معينة؛ درنة، بنغازي)، مع ملاحظة أن هذه المشاكل، وإن بدت خصوصية جدا، فإنها ذات أبعاد وطنية، وربما إقليمية ودولية.

أطراف المشهد

لا شيء يمكن وضعه تحت اليد بطمأنينة عند الحديث عن أطراف المشهد الليبي الحالي. إن كل محاولة تعيدنا إلى ذات الدوامة؛ على أي أساس يمكن تقسيم هذه الفسيفساء المتداخلة، جدا، والمرتبكة جدا؟. إنها تشبه أرخبيلا من المطاط لا يمكن وضع حدود مستقرة لجزره.

سنجازف هنا بمحاولة رسم ملامح الأطراف الرئيسية، ومواقفها من المعضلة الليبية، على أن نحاول في مجازفة أخرى، إن كتب الله في العمر بقية، تلمس الخطوط العريضة لخلفيات مواقف الأطراف الرئيسة.

إن التعبير بمصطلح المكونات يبقى، في نظري أكثر دقة من الحديث عن “أطراف”؛ لأن بعض المجموعات التي نتحدث عنها قليلة الحجم بحيث لا يمكن إطلاق طرف عليها، وإن كان تأثيرها أحيانا داخل أحد الأطراف الرئيسة، وبالتالي في المشهد العام، يفوق بكثير حجمها الفعلي على الأرض.

هذا التقسيمات ستظل نسبية إلى درجة كبيرة، إلا أنه لا شك يجلي بعض الصورة الضبابية. لقد نتج عن مواقف هذه التقسيمات ورؤاها للحل، مهما كان ناقصاً أو مبثوراً أو منعدماً، متلبس بغياب أفق واضح للتغلب على المعضلة الليبية بشكل شامل، وقد أسهمت العوامل الخارجية في تأجيج حالة الالتباس هذه، وتعميق آثارها.

مع الاتفاق

قبيل توقيع الاتفاق السياسي الليبي في مدينة الصخيرات المغربية نهاية سنة 2015، انقسمت المجموعات التي وقفت خلف عملية فجر ليبيا والتي وقفت مع الكرامة على نفسها.

فالمجموعة التي اشتهرت باسم فجر ليبيا، كتيار سياسي ينضوي فيه أغلب قوى ثورة السابع عشر من فبراير في غرب ووسط ليبيا؛ أيد منهم فريق الاتفاق السياسي وعارضه فريق:

ويضم الفريق المؤيد للاتفاق السياسي والمؤسسات المنبثقة عنه، مجموعات عسكرية ومدنية، منها حزب العدالة والبناء، وحزب الوطن، والاتحاد من أجل الوطن، وحزب التغيير، والنواب المقاطعون، وأعضاء كثر من المؤتمر الوطني العام (المجلس الأعلى للدولة لاحقا) يمثلون مختلف مناطق ليبيا، وتياراتها، وعدد من أعضاء البرلمان، إضافة إلى لفيف من الكتائب العسكرية من مدن طرابلس ومصراتة، والزاوية، وصبراتة وعدد من مدن الساحل.

انضمت إلى هذا الفريق عدد أخر من أعضاء البرلمان المحسوبين على عملية الكرامة كما انضمت قوة حرس المنشآت النفطية بالمنطقة الوسطى التي يقودها إبراهيم جضران.

كما نشط فيه جناح عريض من قوات الكرامة بقيادة وزير الدفاع في حكومة الوفاق المهدي البرغثي.

وتتلخص رؤية هذا الفريق لحل المعضلة الليبية في الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات، ويدافع هذا الفريق عن الاتفاق السياسي والمؤسسات المنبثقة عنه، وتسجل أغلب أطرافه تحفظات على الاتفاق، إلا أنها ترى أنه الحل الممكن حاليا.

ضد الاتفاق

وفي مقابل هذا الفريق، متعدد المشارب، يبرز فريق آخر، يقف على النقيض من الاتفاق السياسي، وإن اختلفت رؤاه فيما عدا رفض الاتفاق.

ويضم فريق المناوئين قوى ممن كانوا ضمن تحالف فجر ليبيا، يتقدمهم سياسيا، رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين وبعض أعضاء المؤتمر، والقيادات السياسية والعسكرية التاريخية للجماعة الليبية المقاتلة، (باستثناء رئيس حزب الوطن: عبد الحكيم بلحاج)، ومفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني وعدد من مشايخ دار الإفتاء، إضافة إلى فعاليات اجتماعية ومدنية من منطقة الغرب الليبي، من الزاوية، وطرابلس ومصراتة، وغريان والزاوية، وزليتن، تؤيدهم قوى عسكرية من هذه المدن.

وتتقاطع معه كتائب في الشرق الليبي، من مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي، وسرايا الدفاع عن بنغازي، كما يعد مجلس شورى مجاهدي درنة أقرب إلى هذا التيار منه إلى الفريق الآخر.

ومع هذا الفريق في رفضه للاتفاق السياسي يقف قائد عملية الكرامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح وعدد من مجلس النواب، وبعض قيادات التيار الفدرالي في المجلس.

ويختلف موقف هذين الفريقين من الاتفاق السياسي؛ فتيار الكرامة لا يرفض الاتفاق جملة لكنه يتحفظ على مواده التي تقصي حفتر، كما يرفض بعض تطبيقاته التي قد تنزع بعض الصلاحيات والنفوذ.

مع هذا الفريق تقف أيضا كتائب من مدينة الزنتان بالغرب الليبي، وبعض المجموعات العسكرية في الجنوب والوسط، إضافة إلى رئيس ووزراء حكومة عبد الله الثني، وبعض القيادات الاجتماعية في المنطقة الشرقية.

إضافة إلى موقف ملتبس وغير معلن تماما من رئيس تحالف القوى الوطنية محمود جبريل، وبعض القيادات في الحزب.

إسقاط الاتفاق

تختلف رؤية الفريقين إلى الحل؛ ففي حين يسجل الفريق المحسوب على عملية الكرامة تحفظاته علنا ورغبته في إسقاط الاتفاق السياسي، أو إلغاء بعض مواده، وتعديل بعض المناصب في الحكومة، يسجل بعض مراكز الفريق الآخر، المحسوب على تيار فجر ليبيا، تحفظات على الاتفاق السياسي، ويطالبوون بإسقاطه، وإطلاق حوار ليبي ليبي جديد، بعيدا عن الرعاية الأممية.

فيما لا يجد المراقب موقفا واضحا من مسألة بناء الدولة ككل، ولا رؤية للخروج من الأزمة الحالية، لدى بعض المجموعات العسكرية الموجودة في الشرق الليبي (شورى بنغازي، شورى درنة، سرايا الدفاع عن بنغازي).

لا نتجاهل هنا حقيقة أن عناصر وقيادات من النظام القديم انبثت في كلا الطرفين، وكان لبعضها تأثير واضح في المواقف، خاصة في بعض المراحل اللاحقة على توقيع الاتفاق السياسي.

ولا شك أن تأثيرها، وحضورها، أقوى في المعسكر الرافض للاتفاق السياسي، خاصة في مجموعاته الدائرة في فلك عملية الكرامة.

الحلول الممكنة والعبثية

إذا كانت الرؤية المحددة، والمطالب الواضحة أساسا لأي محاولة للحل، لأنها تعين على الفهم الذي هو أساس التشخيص، فإن الحالة الليبية لا تعاني من شيء كما تعاني غياب الرؤية أو غموضها، لدى بعض مكونات المشهد، وضبابية المطالب، والتباسها، وتناقضها، وتغيرها، باستمرار، وهذه نقطة الضعف الرئيسية لذا الفرق المعارض للاتفاق، لا يملك حالاً ولابديلاً واضحاً للمشكل الليبي.

فهناك من يؤمن بالحسم العسكري وهو يعلم أنه عبث وستتكسر قواه أمام جغرافيا ليبيا، حتى بعد الحسم. وهناك من يؤمن بالحوار والجلوس على طاولة المفاوضات ولكن على مزاجه وهواه ومقاسه، وكأنه يريد أن يحاور نفسه. وهناك من يرى التقسيم حلا ولكن لا يفقه تصوره ويجهل مآلاته. وهناك من يريد استدامة الفوضى التي يسترزق منها. كما أن هناك من يؤمن بالاتفاق السياسي، وهو يعلم أنه قد لا يوصل البلاد إلى بر الأمان، ولكن غياب البديل يجعله يستمسك به، نظراً لقبول قطاع واسع من الشعب الليبي به كإطار للحل وكذلك لاعتراف المجتمع الدولي به. وفيما يلي عرض سريع للحلول الممكنة والمهلكة:

الحسم العسكري: وهذا بات واضحاً أنه لا يوجد طرف أو مكون يقتنع به كحل للمشكل الليبي ككل ولا يملك أي طرف مقدرات تحقيقه، إلا في منطقة جغرافية محدودة وذلك لأن طبيعة الجغرافية الليبية تهزم الجيوش الجرارة فما بال المليشيات متوسطة التسليح ضعيفة التدريب والخبرة.

وبالتالي من يطرح هذا الحل نعلم محدودية تفكيره وقدرته على تصور أبعاد وعمق المشكل.

طاولة المفوضات: وهذا الخيار للأسف لا تلجأ إليه الأطراف إلا بعد الإنهاك ونزف الدماء وتدمير المقدرات والإتيان على الأخضر واليابس.

من يرى هذا الحل ممكناً فعليه اللجوء إليه الآن وقبل فوات الأوان، وستكون المهمه شاقة في تحديد الأطراف الرئيسية، بالنظر إلى ضرورة عدم استبعاد أي طرف، وهذا ما أفشل ما يسمى بالحوار الليبي الليبي الذي جاء على عجل.

التقسيم: وهذا نادى بيه مجموعة في برقة كمناورة، لكنه اقنع به قطاع واسع في المنطقة الغربية وإن لم يجاهروا به، وهنا يتوجب السؤال لهؤلاء، كم قسما؟ وما هي جغرافيا كل قسم؟

هذا الخيار سيحول ليبيا إلى كيانات هزيلة تابعة لدول إقليمية وأجنبية.

الاتفاق السياسي: وهذا الخيار هو الذي لجأ إليه بعض الأطراف ورفضه آخرون، كما أن الذين لجوؤا إليه لم يكن مرضيا لهم بشكل كامل فلديهم اعتراضات، وتحفظات، عليه وعلى مخرجاته ولكن هذا الذي كان ممكناً وكذلك لأنهم لم يجدوا طرحاً لأي حلول أخرى من الأطراف المعارضة للاتفاق من الطرفين.

الفوضى: استمرار الوضع على ما هو عليه هو العبث بعينه؛ ستتصارع دول أخرى وستكون ليبيا ميدان الصراع،  سيحاول كل طرف النكاية بالطرف الآخر، فتزهق الأرواح وتضيع الخيرات ويتبخر حلم الأجيال.

سيكون على كل مكونات هذا المشهد المأزوم مواجهة سؤالين كبيرين؛ أحدهما متعلق بتصور الحل، وهو: ما هو الحل الذي تقترحه من بين الحلول المطروحة. وثانيهما يتعلق بالزمن والآليات؛ فالمواطن الليبي يعاني أزمات متراكمة منذ عقود، وهو يحتاج إلى وقف النزيف وسرعة العلاج.

ولله الأمر من قبل ومن بعد

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عبدالرزاق العرادي

عضو المجلس الانتقالي السابق

التعليقات: 5

  • سفيان الرقيعي

    نسأل الله ان يجعل ليبيا بلدا امنآ مستقرا يارب… ليبيا تحتاج لي اشخاص لديهم عقوول وان يكونو وطنيون .

  • نبيل المحجوب

    بارك الله فيك أستاذ عبدالرزاق ،، تشخيص متكامل للحالة المعقدة ،، ونسأل الله أن يحقن دماءنا وأن يؤلف بين قلوبنا ويصلح ذات بيننا ،،

  • كان الاجدر بك ونحن سنقف يوما امام الله ان كنا نراه ونخاف عقبى كلامنا وما تخط أيدينا ، ان تبدآ مقالك ( أزعم أنى من الفاعلين والمؤترين والمنغمسين فى الحالة الليبية من اول يوم وهكذا ، رب يهدى من خلق ولا حول ولا قوة الا بالله

  • السنوسي

    لابد من وجود نقطة إنطلاق للحوار بين الليبيين و لا يبدو أن هناك نقطة أقوى من الإتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات ، لل يمكن الإنطلاق من فراغ كما لا يجوز إعتبار أن الإتفاق السياسي كأنه قرآن منزل
    إنما هو إطار للحل و يوجد في الإتفاق آليات لتعديل بنوده بحيث تمر البلاد بسلام عبر المرحلة الإنتقالية وصولا إلى الإستفتاء على الدستور و منه إلى مرحلة الإستقرار الدائم .

  • ابراهيم

    توصيف لابأس به للحالة الليبية لكن أستاذ عبد الرزاق لم تذكر الدول التي في المعلن تدعم الاتفاق و المجلس الرئاسي وفي نفس الوقت تدعم طرف على آخر مثل ما حدث في المدة الماضية من الموقف الفرنسي ,وأن تصارع الدول الذي أشرت اليه انه لم يبدأ أعتقد أنه واقع الآن .

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً