الربيع العربي ثورات شعبية أم مؤامرات غربية

الربيع العربي ثورات شعبية أم مؤامرات غربية

د. علي اعبيد

وزير التربية والتعليم السابق

عندما تجاوز الشعور بالغبن كل الحدود عند المواطن التونسي البسيط محمد البوعزيزي، لم يعد أمامه إلا أن يهرب من هذه الحالة باشعال النار في جسده والخلاص من الذل الذي وقع عليه. لم يكن البوعزيزي يهدف إلى أسقاط النظام التونسي، وحتما لم يفكر في اشعال ثورات الربيع العربي. ما قام  به البوعزيزي هو عمل فردي يمكن أن يقوم به أي شخص واجهته مشكلة كبيرة من مشاكل الحياة، لكن هذا العمل الفردي كان القشة التي قصمت ظهر البعير، وهو الفعل الذي وجد له صدى في وجدان الملايين فدفعها إلى التحدي والاصرار على التغيير.

الشعور المشحون بالغضب والاحباط وفقدان الثقة التامة في النظام هو الذي حرك مئات الآلاف في تونس في تحد سافر للدولة البوليسية، ولسان حالهم يقول: أعطيناكم الفرصة بأكثر مما تستحقون فخيبتم كل آمالنا، وآن لكم اليوم المغادرة. كغيره من الحكام العرب لم يكن الرئيس التونسي ليترك الكرسي إلا في اللحظة التي يصبح فيه مخيرا بين هلاكه أو ضياع الكرسي بلا خيار ثالث. في تلك اللحظة التاريخية المفصلية وقف أمام العدسات ليقول للشعب فهمتكم، ولم تكن ثلاثون عاما كافية لتجعله يفهم قبل ذلك.

حجم الاحباط العربي

لا يستطيع أحد أن ينكر أو يقدر حجم الاحباط وخيبة الأمل عند الجماهير العربية حيال أنظمتها السياسية بكافة أشكالها؛ من الأنظمة الملكية الوراثية، إلى الأنظمة الجمهورية متعددة الاحزاب، إلى الجمهورية ذوات الحزب الواحد، إلى النموذج الليبي الفريد الذي سمى نفسه النظام الجماهيري. كل الأنظمة العربية تتسم بصفة جامعة ومميزة وهي الاستبداد ودكتاتورية الحاكم، الفرق فقط في الاختلاف النسبي في عمق الاستبداد؛ ففي الوقت الذي يتدخل القذافي في كل شئ في ليبيا وبصورة حشرية غريبة دون أن يحد من نزقه دستور أو قضاء، كان لا يمانع حسني مبارك من وجود معارضة كرتونية ودستور صوري وانتخابات يتم تزييفها بصورة مكشوفة.

سمة أخرى غالبة على كل الدول العربية وهي فشل برامج  التنمية وتراكم الخلل الاقتصادي متجسدا في ارتفاع مؤشرات البطالة والتضخم وتدني الخدمات، وحتى الدول ذات الوفرة النفطية كانت برامجها التنموية برامج سطحية تعتمد على استيراد كل شئ، من المعدات إلى العمالة إلى المادة الخام، وغالبا ما يكون الانتاج مدعوم وغير قادر على المنافسة.

على الصعيد الدولي لم تتمكن الدول العربية مجتمعة أو متفرقة من أن تصنع لها وزن على الساحة الدولية حتى بوزن إيران أو تركيا، نتيجة للخواء السياسي والاقتصادي في الداخل. وقد أثبتت المشاغبات التي كان يقوم بها القذافي هنا وهناك أن التأثير في السياسة الدولية ينتج من الثقل السياسي والاقتصادي للدولة، وليس من طول لسان حاكمها واطلاقه للتصريحات النارية وأحيانا الخارجة عن المألوف لجذب الانظار.

الثقل السياسي لأي دولة يأتي من استقرارها، وكونها مبنية على روح المؤسسة وسيادة القانون والشفافية، وشعور المواطن بالانتماء إليها والمشاركة في إدارتها. والثقل الاقتصادي يعني متانة الاقتصاد وتنوعه وازدهاره في كافة القطاعات، وخصوصا قطاعي الصناعة والتقنية.

كان الفشل العربي شاملا، ولم تكن الهزائم أمام اسرائيل إلا مؤشراً على وجود خلل كبير يبدأ بالمنظومة السياسية العربية وينحدر إلى طريقة إدارة العرب لمواردهم واسلوب حياتهم. بدل أن تتصدى النخب العربية لهذا الخلل تصدت له طبقة العسكريتاريا، وادخلت البلاد العربية في سلسلة طويلة من الانقلابات التي أدت في نهاية المطاف إلى تجذر الاستبداد وانحسار هامش المشاركة وتضاءل مساحة الرأي الآخر.

نوعان من أنظمة الحكم العربية

أصبح المشهد السياسي العربي يستقطبه نوعان من أنظمة الحكم لا ثالث لهما: الأول، و يسمي نفسه الأنظمة التقدمية، وهو المسيطر على معظم الجمهوريات، وقد جاء إلى السلطة في المجمل عن طريق الانقلابات العسكرية، ودغدغ مشاعر الجماهير العربية بشعارات براقة كالتحرير والوحدة والتقدم الاجتماعي لينتهي بإقامة دكتاتوريات مرعبة تحسب على المواطن كل حركة وسكنة، وتسرف في البطش وفتح السجون، بل وبكل وقاحة شرعت مؤخراً في التاسيس لظاهرة جديدة لم يألفها العالم من قبل، وهي توريث حكم الجمهورية للأبناء؛ وكان رائد هذا الإتجاه الأسد الأب توريثاً للأسد الأبن.

الثاني ويسمى بالأنظمة المحافظة، وهو المسيطر على الممالك والمشيخات، ويعتمد مبدأ التوريث من الأباء إلى الأبناء وربما الأخوة حسب توازن القوى العائلية، ولا يستحي اقطاب هذا النوع في مقارنة أنظمتهم بممالك عريقة مثل بريطانيا والسويد وهولندا، متجاهلين أن هذه ممالك دستورية تحكمها نظم ديمقراطية راسخة تضع كرامة الانسان ورفاهه على رأس اهتماماتها، وليست استبدادية طغيانية مشابهة لحكم الاقطاع في أوروبا القرن الوسطى.

من المقارقات أن الدول العربية التي يحكمها التيار المحافظ تتمتع باستقرارية نسبية أكبر من دول التيار “التقدمي”، وهامش حرية التعبير رغم أنه ضيق بالأساس إلا أنه أكبر نسبيا من الهامش الشديد الضيق في الجمهوريات. هذه الحقيقة لعبت لصالح القبول النسبي للأنظمة المحافظة بالمقارنة بالنفور التام من الأنظمة الجمهورية.

لما يقرب من نصف قرن وجد المواطن العربي نفسه عالقا بين هذين النموذجين المتخلفين، وكلاهما استبدادي وفاشل تنمويا، هذا في الوقت الذي يرى بأم عينيه نجاح شعوب أخرى في تجاوز هذه الثنائية ودخولها العصر من أوسع أبوابه، رغم أنها لم تكن شيئا مذكورا قبل الحرب العالمية الثانية. العرب يراقبون عن كثب كيف نجح النموذج السنغافوري والماليزي والصيني والكوري والتايواني وأخيراً الفيتنامي، بل أنهم يشعرون بحرقة حقيقية عندما يرون بوادر نجاح افريقية لم تكن في الحسبان قبل عقدين من الزمن، وتحديدا في اثيوبيا وروندا.

المؤشرات وقراءة السلوك تبين أن الاحباط والشعور بالغبن لدى المواطنين في كل بلاد العرب، رغم اختلاف الأحوال الاقتصادية، قد بلغ منتهاه؛ لا يختلف في ذلك رعايا الدول الملكية عن رعايا الدول الجمهورية، وأنهم في شوق حقيقي ورغبة عارمة في التغيير، آملين أن يكون هذا التغيير باتجاه الديمقراطية أسوة بدول العالم المتقدم. كافة محاولات الرشوة والاصلاحات السطحية التي تستحدثها الأنظمة عندما تشتد الازمات لم تعد تغريهم، فقد فقدوا الثقة فقدا كاملا فيها وما يأتي منها.  الدلائل أصبحت تشير بوضوح إلى أن حمم بركان الغضب قد أخذت تتجمع وتمور تحت السطح في حركة بطيئة، لكنها قوية وهائلة، بعيدا عن الأنظار، وقد يحدث انفجارها في أي لحظة.

ربيع اوروبا الشرقية

قبل أقل من ثلاثة عقود انطلق ربيع أوروبا الشرقية، وسقطت الأنظمة الشمولية كأحجار الدومينو واحدة وراء الأخرى. كان السقوط بلا ضجيج نسبيا باستثناء رومانيا، لأن النخب الحاكمة أدركت أن الاستبداد الشيوعي وبعد سبعين عاما لم يعد ممكنا ترقيعه أو إخفاء أوجه قصوره واخفاقاته. كانت الشعوب على بينة تامة من أنها ستمر بفترة انتقالية حرجة سمتها الأساسية الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي، وقد تحقق ذلك فعلا حتى أن معدلات الفقر والبطالة قد ارتفعت ارتفاعا مخيفا، ووصل الجوع المباشر إلى بطون الملايين في روسيا التي كانت الممون الرئيسي للاتحاد السوفيتي ومن ورائه دول الكتلة الشيوعية. في لحظات صدق مع الذات واجهت شعوب اوروبا الشرقية أوضاعها الاقتصادية المتردية بوعي وعلمية ولم تطلق العنان لنظرية المؤامرة وخلق أعداء وهميين، وضعت الماضي خلف ظهرها وشرعت في مواجهة الواقع عبر البناء العلمي لمؤسسات الدولة الديمقراطية وركائزها الاقتصادية وبناها التحتية.

لم يمض عقدا من الزمن حتى كانت دول أوروبا الشرقية قد استقرت سياسيا وتجاوزت موروثات الحكم الشمولي وفساد الاستبداد، وأصبح المواطن في هذه الدول يتمتع بنفس القدر من الحرية وصون الكرامة التي يتمتع بها قرينه في دول غرب أوروبا، بعد أن كانت كوابيس الأجهزة الأمنية ترافقه في ثنايا حياته اليومية وتحولها إلى جحيم مقيم.

التغيير في بلاد العرب والمؤامرة

لسوء الحظ التغيير في بلاد العرب أكثر تعقيدا لأسباب عديدة، أهمها وجود طبقات طفيلية كبيرة نشأت وتضخمت مع نشوء الاستبداد، وأصبحت سندا له وجزءا منه. لقد ربطت هذه الطبقات الطفيلية مصيرها بمصير الأنظمة، وتغييرها يعني القضاء علي هذه الطبقات، لذلك لا تتورع في الدفاع عن أولياء النعمة بشراسة. ليس صعبا لأي مراقب أن يكتشف مدى استعدادها الميكيافيلي لأستعمال أي وسيلة، ولعل أمضى وسيلة تستعملها هي التهويل والتخويف من المؤامرة الغربية بعد تضخيمها وإخراجها عن السياق عبر تحويل الأنظار عن الاستبداد والدكتاتورية وغبن المواطن، وتسليطها بدلا من ذلك على فكرة تدمير الأوطان وفقدان الاستقلال وإعادة الاستعمار.

بحكم حساسية المواطن العربي من الماضي الاستعماري الغربي، لا بأس من تصوير الثورات على أنها عمليات غزو خارجي مبطن أو صريح، واستعمار جديد يستهدف خيرات الشعوب العربية، في الوقت الذي يتم قصدا تجاهل أن الأنظمة الاستبدادية هي التي فشلت في صون الاوطان، وأهدرت الموارد، وعجزت عن ردع العدو الخارجي.

حتى في الدول التي تمكنت فيها ثورات الربيع العربي من تغيير الأنظمة لا تتورع هذه الطبقات الطفيلية في التشويش على عملية التداول السلمي على السلطة، وممارسة التضليل الاعلامي عبر خلق أعداء وهميين حسب مقتضى الحاجة. ثم أخيرا الزعم بأن الديمقراطية لا تناسب الشعوب العربية.

المد الثاني قادم

رغم ذلك، ولأن الاستبداد لايزال قائما وموجودا ويمارس فعله في إذلال المواطن العربي في معظم البلاد العربية. ولأن العالم يضيق ويصغر بفعل التطور الهائل في تقنيات الاتصال وتبادل المعلومات. ولأن وعي المواطن العربي بلا شك يتغير بسرعة غير معهودة استجابة لمقتضيات العصر، ويدرك هذا المواطن حقوقه الضائعة منذ قرون. ولأن الذين أدمنوا الاستبداد لا يتعضون بالمصير الذي آل إليه اقرانهم. لذلك لا يمكن للعاقل إلا أن يرى في الأفق البعيد المد الثاني للربيع العربي قادما في تيار جارف هادر ليكنس المشهد العربي من الأوثان مثلما فعلها مد الاسلام قبل أربعة عشر قرنا.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. علي اعبيد

وزير التربية والتعليم السابق

التعليقات: 3

  • عبدالحق عبدالجبار

    لو كان ربيع وثورات … ما كان لاحد الاستطاعة لقلبها الي حكم همجي … لو كانت الشعوب واعية حتي تقوم بثورة …. لما كان لبعض الدول تترك اولاً الخوان وبعد دلك الحيوانات المفترسة وجماعة الأنظامة القديمة تستولي علي الحكم ….. انا لا يهمني ما حصل في الدول الاخري اما ليبيا …السؤال هل الصين كان لها مخزون من الاعلام القماشية والحديدية ما يكفي بين يوم وليلة يدخل للبلاد …وهل كانت هذه الدولة لها وكالة في اي فون كما نهم دخل البلاد بين يوم وليلة … وهل بين يوم وليلة اخذت قطر الموافقة وقامت بتجهيز نفسها علي فتح عكا في غرب البلاد علي حدود تونس … طبعاً كلنا نعلم و العالم يعلم ان الشعب جاهز للتغير من حكم الطاغية
    ولكن هل هذا الشعب هو الذي قضي علي الطاغية ؟ هل الشعب هو الذي قرر قتل عبدالفتاح حتي ينعدم شئ اسمه جيش وهل الشعب هو الذي قتل شكري غانم في ڤينا حتي تنتهي الأسرار الاقتصادية و المالية … وهل قاد الثورة كوسة وهو ان يشتغل لمخابرات خارجية … اذاً لماذا لا يقوم الشعب الان… الحياة الأمنية و الاقتصادية والاجتماعية ازفت مما كانت علية ….كيف يستطيع شعب ان يقوم بثورة خير وهو أكثره عايش في الحرام لشوشته؟ بالله عليك يا خوي انسي كلمة ثورة… اهو قول انتفاضة واسكت والبد …في الحقيقة هي كانت مظاهرة ثم ولعها القوادة الجاهزين العملاء من الداخل والخارج الي انتفاضة ثدخل الخارج عن طريق تل الربيع و الصيد في غريان الي استيلاء علي الثروات وضياع البلاد ….وهذه الحقيقة

    • عبدالناصر بلخير

      الكاتب كما يبدو طول المقال وأنت لم تصبر عليه، لك العذر.. هل تعتقد أن من الأفضل ألا تقوم الثورات العربية ويستمر صبر العرب على أنظمتهم الاستبدادية حتى يأتي المسيح المخلص من السماء فيقوم بثورات نظيفة ليس فيها مؤامرة ولا تجاوزات ولا اسلام سياسي، ويسقط هذه الانظمة التي أذلت العرب ؟

    • عبدالحق عبدالجبار

      العرب و انظمتهم اذل من الأذل … ان لم يغير العرب ما بأنفسهم لن تتغير انظمتهم …تفضل شيل واحد جاك الثاني والثالت والرابع والخامس ….. يا اخي قبل ان يأتي المسيح …كل شئ مكتوب في كتاب الله ولقد قال الحق اقرأ ….قال الله تعالي: *وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117) هود.
      و قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}. [يونس : 13]، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. [الإسراء: 16]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}. [القصص : 59] وبيَّن تعالى أنَّ الظلم إذا وقع في أمة يعمُّها العذاب، وإن لم يواقع الظلم جميع أفرادها، فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
      عندما سئل سيد الخلق رسول الله صلوات الله عليه و علي اله و صحبه أجمعين
      ( أنهلك و فينا الصالحون ) قال نعم إذا كثر الخبث.

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً